2000

تموز

1421

ربيع الثاني

47

العدد

النبأ

مجلة

 

قيامة الإباء.. وانفجار اللوعة

أبو فراس الحمداني

8 ربيع الثاني ذكرى وفاته

حيدر الجرّاح

...حين يجمع الإنسان.. المجد من أطرافه

خاصية أخرى

الخاصية الثانية

الخاصية الأولى

...حين يجمع الإنسان.. المجد من أطرافه

هل تخلق اللوعة الراعفة حين تمتد تحت جلد إنسان الشاعر.. الشاعر؟

وهل تمنح الإمارة.. متوارثة عن كابر.. خلود الذكر لمجرد الوراثة؟ وهل يمكن لأي إنسان أن يكون الفارس.. الفارس على ظهور الخيل في ميدان القتال؟

وكيف تجتمع قسوة السيف، حين يهوي طاعناً.. ورقة القافية فوق شفاه عاشقة؟

يتخلّق الشعر، كائناً ضوئياً في القلوب التي أتعبتها اللوعة.. والاشتياق والحنين.. ويطرح أسئلته أمام بوابات الأبدية.. تنغلق على الرد أو حتى همس الجواب..

لا يسمع الشاعر غير الصدى.. موجعاً.. مرهفاً.. حاداً كنصل السكين.. ينزرع فوق قوافي الانتظار..

منذ أن تاه أبو الشعر وملكه الضال.. في قفار المجد، باحثاً عن حلم سراب ضاع فوق حبات الرمال في صحراء لا تنفتح إلا على الغموض ـ والموت، والشعر يبحث عن وريث لذاك المجد، إرتدى عباءة السم وانطوى تحت التراب.. وحمل الشعر قلق البحث عن وريث لهذا المجد.. وحمل الشعراء، كل على حسب امكاناته، هاجس التطلع إلى هذه الوراثة المحال..

لم تجتمع لإنسان شاعرية اللغة، وفروسية الميدان، وامارة المجد المؤثل، وسلطة الحاكم في تاريخ الشعر العربي لغير أبي فراس الحمداني، وإن سبقه في تاريخ الجاهلية العربية الملك الضليل امرؤ القيس.

ولا تذكر في مجلس، الدولة الحمدانية إلا وذكر ثالوثها الشهير، سيف الدولة حاكماً ممدوحاً، والمتنبي شاعراً مادحاً، وأبو فراس مفاخراً..

وكأن أمجاد الدولة الحمدانية التي صنعتها سيوف رجالها، لا تكون مؤثرة إلا بذكر الشعر مقترناً بالفروسية..

ولكن المفارقة المؤثرة في هذا الذكر أن الدولة الحمدانية قد ذهبت مثل غيرها، وأصبحت تاريخاً يذكر لماماً، وكتب الخلود لما بين دفتي الديوان..

حين تفتح الديوان، أو هو يفتح أشرعته، وتبحر معه إلى بحور النفس ومديات الوجدان، تعثر على عدة خصائص لرفيق الرحلة الذي يقود خطاك:

الخاصية الأولى

انك أينما تطلعت ترى وجه الشاعر ـ الفارس مفاخراً بنفسه ونسبه:

أنا الحارث المختار من نسل حارث          إذا لم يســـــــد في القوم إلا الأخايرُ

فجدي الذي لمّ العشيــــــــــرة جوده          وقد طار فيها بالتفــــــــــــرق طائــر

تحمل قتلاها وســـــاق دياتهـــــــــــا          حمول لما جدّت عليـه الجرائـــــــــر

ودمائه لولاه جـــــــدّت دمــــــــاؤهم          مــوارد موت مالهـنّ مصــــــــــــادر

ومنا الذي خاف الإمام(1) وجيشــــــه          ولا جود إلا أن تضيف العســـــــاكر

وجدّي الذي انتاش الديار واهلهـــــا          وللـدهـر ناب فيهــم وأظافــــــــــــر(2)

تلك النفس التي تمتلئ إباءاً وشموخاً يليق بها، وتليق به..

إذا ما العز أصبــــح في مكـأن          سمـــوت له وإن بعــــــــــــد المزار

مقامي حيث لا أهــــوى قليـــل          ونومي عند من أقلـــــي غـــــــــرار

أبت لي همتي وغرار سيفــــي          وعزمــي والمطيــــة والقفـــــــــــار

ونفس لا تجاورها الدنــــايـــــا          وعِرض لا يرف عليــــه عــــــــــار(3)

ذلك النسب الرفيع، والكرم النابع من نبل السجايا، والروح المتوثبة المنطلقة من كل قيد، هو الفخر بالذات التي هي محور الشعر في الديوان..

وأنت حين تطالع فخره في عمود الشعر، أو شعره في الفخر، لا فرق، تجده متين البناء، كأنه ينحت المفردة بإزميل، فخم العبارة..

الخاصية الثانية

تلك الخلجات الوجدانية التي رسمها الشاعر الفارس، وهو منكب على نفسه باحثاً فيها عن الأجمل والأحلى، فجاءت تلك الخلجات صادقة في التعبير، عفوية في الطرح، عذبة الوضوح، لا تجد فيها أن الشاعر يقسر نفسه على قول ما لا يوافق قناعاته..وكأنك تسمع الصوت وترى اوتار حنجرته تردد ما تسمع.. فهو صادق حدّ الوجع في التعبير عن نفسه وعن تجربته وعن انفعالاته..

من ذلك ما نقرأه له راثياً ومؤبناً لأمه حين وصله نبأ موتها وهو في الأسر:

وغاب حبيب قلبــك عن مكانٍ          ملائكة السماء به حضــــــــــــــــورُ

بأيّ دعـاء داعيةً أوقـّـــــــــى          بأي ضياء وجه أستــــــــــــــــــــنير

بمن يُستدفـع القــدر الموفــى          بمن يُستفتح الأمر العسيـــــــــــــــر

نُسلّى عنك إنا عن قليـــــــــل          إلى ما صــــــرت في الأخرى نصير(4)

تلك الأم نجد صورتها في قصيدة أخرى يخاطب فيها سيف الدولة حين رد أمه وهي جاءت تتوسل لافتدائه من الأسر:

بأي عـــــذرٍ رددت والهةً          عليك دون الورى مُعوّلهـــا

جاءتك تمتاح ودّ واحدها          ينتظر الناس كيف تُقفِلهـــا

وقد امتازت الفترة التي قضاها في الاسر بصقل شاعريته المطبوعة وتعد قصائده في تلك الفترة من ارق واعذب شعره الوجداني..

كيف لا؟ وقد قضى في قيود الاسر والبعد عن الأوطان والأحبة سبع سنين كما يذكر الرواة.. وقد سميت قصائده في تلك الفترة بـ(الروميات) نسبة إلى مكان اسره الذي كان تابعاً للروم..

ومن أرق شعره في الاسر وهو يسمع هديل حمامة على شجرة قرب موضع سجنه في القسطنطينية.. قال:

أقول وقد نــــــــــاحت بقربــــي حمامة          أيا جارتا لــــــــــو تشعريــــن بحالي

معاذ الهــــوى ما ذقت طارقة النوى          ولا خطـــــــــــــــرت منك الهموم ببال

أتحمل مخزون الفؤاد قــــــــــــــوادم          على غصــــن نائي المحلـــــــــة عال؟

أيا جارتا، ما أنصف الدهــــــر بيننا          تعالي أقاسمــــك الهمــــــــــــوم تعالي

أيضحك مأسور وتبكــــي طليقـــــــة          ويسكت محزون ويندب ســــــــــــــال؟

لقد كنت أولى منك بالدمع مقلـــــــة          ولكن دمعي في الـــحوادث غـــــــــــالِ

والحمامة الحمدانية أشهر حمامة طارت في سماء الشعر العربي..

خاصية أخرى

أهل البيت (ع) في شعره:

إن جاز لنا تسميتها هكذا، نلمسها في شعر أبي فراس، وهي حبه لاهل البيت(ع) حيث تدفق شعره القليل فيهم ينابيع عذبة تدخل قلب السامع أو القارئ منذ مطلعها دون استئذان..

ففي ابيات سبعة يرسم صورة مكثفة لأئمة أهل البيت(ع) راجياً أن تكون تلك الأبيات نجاة وخلاصاً له من يوم الحساب.. وفيها إضاءة رائعة لأوصافهم النقية الطاهرة الزكية. يقول فيها.

لست أرجو النجاة من كل ما أخشاه          إلا بأحمـــــــــــــــد وعلـــــــــــــــــــــــــــي

وببنت الرسول فاطمـــة الطهــــــــر          وسبطيه والإمام علـــــــــــــــــــــــــــــــــي

والتقي النقي باقـــــر علــــــــــم الله          فينا محمـد بن علــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

وابنه جعفر وموســــى ومـــــــولانا          عليّ أكرم به من علــــــــــــــــــــــــــــــــيّ

وأبي جعـــــفر سميّ رســـــــول الله          ثم إبنه الزكي علــــــــــــــــــــــــــــــــــــيّ

وابنه العسكـري والقائم المظهـــــر          حقي محمد بن علــــــــــــــــــــــــــــــــــــي

بهم أرتجي بلـــــــــــوغ الأمـانـــــــــي          يوم عرضــــــي على الإله العلي(5)

وقصيدته الأخرى المعروفة بالشافية ذات السبعة والخمسين بيتاً، وكان السبب في نظمها، هو تطاول العباسيين على علي وابنائه( فقد نظم شاعرهم عبد الله بن المعتز أبياتاً ينتقص فيها علياً وابناءه ويفتخر بالعباسيين منها قوله:

أبى الله إلا ما ترون فما لكم          غضابى على الاقدار يا آل طالب

كما بلغه أيضاً شعر ابن سكرة العباسي الذي يتطاول هو الآخر في النيل من أبناء الرسول( ومدح العباسيين بقصيدته والتي منها قوله:

بني عليّ دعوا مقالتكـــــــــــــــــم          لا ينقص الدر وضع من وضعه

فأثارت تلك الأبيات فيه خاصية الإيمان بالإسلام والولاء لآل البيت.. ولا نعرف درجة المعاناة التي تحكمت به قبل الكتابة وخلالها، لكننا بعد قراءة هذا النص الدافئ لا نشك في تلك المعاناة التي صدرت عنها هذه القصيدة ذات التفرد والخصوصية والتي نظمها شاعرنا معتمداً البحر والقافية والروي التي اعتمدها الفرزدق في نظم قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها رداً على تساؤل الخليفة الأموي:

وليس قولك: مـن هذا بضائــــره          العرب تعرف من أنكرت والعجـــــم

هذا الذي تعـرف البطحاء وطأته          والبيت يعــــــرف والحلّ والحـــــرم

هذا ابن فاطمــــة إن كنت جاهلهُ          في جدّه أنبياء الله قد ختمــــــــــــوا

وأبو فراس لم يكتف بنظم قصيدته الشافية، وإنما باشر القاءها بنفسه، واتخذ لالقائها المعسكر مكاناً، كي تكون أمام الجيش، وأن يشهر خمسمائة سيف حين القائها امعاناً في التحدي.. يقول أبو فراس:

الحق مهتضمٌ والدين مختـرم          وفيء آل رســــول الله مقتسـم

يا للرجال أما لله منتصــــــف          من الطغاة؟ أمــا للديــن منتقم

بنو علي رعايا في ديارهــــم          والأمر تملكه النسـوان والخدم

وصُيّرت بينهم شورى كأنهم          لا يعرفون ولاة الحـــــــق أيّهم

ثم إدّعاها بنو العباس إرثهم          وما لهم قَدَمٌ فيها ولا قِــــــــــدَم

ويصف أهل البيت(ع) وهذا الوصف نجد نقيضه في نفس الأبيات عند خصومهم..

ما في ديارهم للخمر معتصــــــرٌ          ولا بيوتهم للســـــوء معتصـــــــــم

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهــــــــم          ولا يرى لهم قردٌ له حشــــــــــــــم

الركن والبيت والاستار منازلهـم          وزمزم والصفا والحجر والحـــــرم

صلّى اله عليهم أينما ذكـــــــروا          لانهم للورى كهف ومعتصــــــــــم(6)

وكانت وفاة شاعرنا سنة 357هـ بعد ان عاش حياة حافلة بالدفاع عن الدولة الحمدانية.. وبعد ان حقق شهرة واسعة في الادب والفضل والكمال والشجاعة والفصاحة والحلاوة وعذوبة الشعر..

وقال أصحاب صناعة الشعر بان ابن عباد قال: بدأ الشعر بملك وختم بملك يعني (امرؤ القيس، وأبا فراس)...

الهوامش

1 الإمام: الخليفة.

2 الديوان/ ص102-120.

3 الديوان ص125-126..

4 م.ن ص162-163.

5 الديوان، ص17-18.

6 الديوان، ص255-259.

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 47

الصفحة الرئيسية