الإسلام والمسلمون

     
     

في الدراسات الاستشراقية..

     

مجتبى العلوي

منذ انبثاق الدعوة الإسلامية بقوله تعالى (اصدع بأمر ربك) والصراع مع هذا الدين الجديد يتفجر بأشكال وملامح شتى..

لقد توجس أقطاب قريش خيفة من هذه الدعوة خاصة وأنها تحاول سحب البساط من تحت أقدامهم حين تجعل لهذا الكون إلها واحداً عادلاً رؤوفاً رحيماً وبأن البشر متساوون أمامه لا فضل لأحد على آخر إلا بمدى الخضوع التام لأوامره ونواهيه..

كانت جميع دعوات الأنبياء السابقين هي إحقاق العدل وارشاد الناس إلى جادة الصواب وتحطيم الأصنام التي يصنعها الإنسان بيده وفكره.. فلا صنم القوة الغاشمة ولا صنم المال ولا صنم الشهوات والغرائز له حضور في مملكة الله.. فقط العدل والحب والإخاء والمساواة والحرية وجميع الفضائل هي التي لها الحضور والتجلي في هذه المملكة..

وقد نال الإسلام كدين سماوي جاء متمماً للشرائع الإلهية التي سبقته، ونال الرسول الكريم(ص) وقرآن الله شتى ضروب العنف والقسوة والمجابهة التي أخذت شكل السيف والإيذاء الجسدي بعد تطور تلك الدعوة وبعد أن فشلت جميع ضروب الإيذاء المعنوي..

فبعد أن كان محمد(ص) الشاب الناضح بالصدق والأمانة والبر وجميع الفضائل التي تعارف عليها حكماء ذاك الزمن.. أصبح شاعراً يأتي بالسجع.. وكاهناً يتفوه بالطلاسم والأساطير ومجنونا يتخبط في كهوف الجبال.. وشاعراً سكنته جنيات عبقر.. واصبح القرآن إن هو إلا أساطير الأولين..

ولم تكن تلك الأساليب بدعاً على رجالات قريش، بل سبقهم أناس آخرون في استهزائهم بدعوات الأنبياء والمصلحين على مر الأزمان والدهور..

وكانت أسباب تلك المجابهة تأخذ تبريرات شتى تتوافق وأهواء من يرفع السلاح.. فهي ـ الدعوة الجديدة ـ تسفه أحلامهم وأحلام آبائهم.. وهي محاولة لهدم ما بنوه من نفوذ على الآخرين من خلال هدم الرمز الديني الذي مارسوا هيمنتهم من ورائه.. والأهم من ذلك تحطيم المصالح الاقتصادية الضخمة التي بنوها على واقع جاء محمد(ص) لتغييره وبناء واقع جديد..

وحتى بعد أن وطد الإسلام أقدامه في مهد ولادته وموطن هجرته لم تتوقف تلك المواجهة.. بل استمرت حتى في البلدان التي دخل إليها هذا الدين الجديد فاتحاً ومبشراً برسالته وبما يحمله من دستور للحياة ولكرامة البشر جميع البشر..

وقد استمرت تلك المواجهة ولا زالت من خلال سلاحين تناوبا على القتال طيلة قرون المواجهة وقد يشهران معاً.. فحين كان السيف هو السلاح الناجع ينسحب القلم قليلاً إلى الظل ليمارس قتالاً من نوع آخر.. وحين يبرز القلم في المواجهة يعود السيف إلى غمده.. ولطول ما رقد السيف في غمده فانه قد تعرض للصدأ وتآكلت أطرافه ـ على الأقل فيما يختص بالمسلمين ـ وبقي القلم هو سيد الميدان المهيمن وأيقن جميع خصوم الإسلام أن السيف وحده ليس قادراً على تحقيق الانتصار الناجز على المسلمين في أي مجابهة.. ما لم يكن هناك قلم قادر على طعن الإسلام في الصميم من خلال تشويه صورته ورموزه التي يعتز بها قرآناً ونبوة ورسالة.. فهي بمرور الوقت ستزرع شكاً داخل النفوس والعقول، وتصبح حاجزاً لصد الآخرين عن الإسلام.. وبالتالي تضيع أي فرصة لكسب اتباع جدد له..

وقد تفنّن هؤلاء المحاربون والمستشرقون من بعدهم في رسم آلاف الصور الخيالية المليئة بالأوهام عن الإسلام في أوراقهم وأبحاثهم وكتبهم..

لقد اتخذت المصادمات والمواجهات بين الإسلام والغرب طابعاً دينياً من أجل تعزيز رواية الإيمان ضد الكفر.. وقد ترسخ ذلك الطابع في وعي ومدارك المتحاربين وتمسكوا به من اجل إلغاء الطرف الكافر أو إخضاعه وإلزامه بشروط مذلة في كثير من الحالات والمواقف..

ولا أدل على ذلك مما نتج عن الحملات الصليبية التي حملت معها إلى الأوربيين شخصيات عاطفية ـ انفعالية إضافية فيما يخص موقف أوربا من الإسلام.

لقد جرت تلك الحروب تحت راية (تطهير) فلسطين ـ مهد المسيحيين ـ من (مدنّسيها) ولا يغيب عن بالنا هنا ما طالب به البابا اوربان الثاني ملوك وحكام أوربا باستعادة (أراضينا المقدسة من قبيلة الفرس ـ الأتراك التي تخدم القوى الشيطانية) على حد تعبيره..

لقد كان موقف المسيحيين الغربيين من الإسلام موقفاً انفعالياً وغير متسامح روحياً.. لأن الإسلام كان في تصورهم تحدياً يتطلب رداً ومقاومة واهتماماً دائماً به.. وإنه من اجل إدارة الصراع مع عقيدة هذا المنافس ـ الخصم القوي والخطير ـ لابد من دراسته..

ولم تكن تلك الدراسة تتم من منطلقات موضوعية ونزيهة من اجل التعرف على هذا الآخر (الإسلام) بل كانت منطلقات تعمل على رسم ما تريده هي من صور وملامح لهذا الآخر بما يتوافق وأيديولوجيتها التي بدأت بالتشكل منذ ذلك الحين..

وعلى سبيل المثال فإن أدب أوربا في القرون الوسطى حول الإسلام وضع في غالبيته العظمى من طرف رجال الدين المسيحيين الذين استندوا إلى مصادر شديدة التمايز والتباين كالحكايات الشعبية وقصص الأبطال والحجاج القديسين وشهادات بعض المسلمين وترجمات مفكريهم وعلمائهم.. ولكن كانت تلك المعلومات المقدمة تنتزع في معظم الحالات من سياقها الأصلي ثم تقدم إلى القارئ الأوربي الذي لا يمتلك في اغلب الأحيان القدرة على محاكمة النصوص ونقدها وتمييز الجيد من الرديء منها..

والحقيقة أن الحروب الصليبية وما أفرزته من تداعيات لم تدر حول إنقاذ كنيسة القيامة وحسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض، مذهب تعبدي هو عدو الحضارة محبّذ بإطراد للجهل وللطغيان وللعبودية (وذلك هو الإسلام) أو مذهب تعبدي أدنى إلى أن يوقظ في البشر المعاصرين عبقرية الزمن الغابر الحكيم والغى العبودية الدنيئة..

هذه الحقيقة التي صرح بها شاتو بريان في كتابه رحلة من باريس إلى القدس هي التي حكمت هذه الرؤية نحو الآخر (الإسلام)..

ومن اجل هذا ظهرت وجهة النظر المسيحية التي تقول أن محمداً(ص) لا يمكن أن يكون نبياً حقيقياً وأما عقيدته فهي الأخرى لا يمكن أن تكون صحيحة..

ولهذا كانت رؤية المسيحيين لمحمد(ص) انه مرتد أو نبي مزيف لا يملك سوى الادعاءات والأضاليل، وصور النبي(ص) أيضاً على انه ساحر معاد للمسيح أو انه الشيطان ذاته.. وصور الإسلام على انه لون جديد من الهرطقة (اليهودية ـ أو المسيحية) أو على انه ضرب جديد من الوثنية..

تلك التصورات التي تشكلت في القرون الوسطى كان لها أساس سابق في فترته الزمنية من خلال التفسير المسيحي الشرقي للإسلام والمسلمين..

لقد انتشرت في المسيحية الشرقية قصة خرافية مؤداها أن محمداً(ص) كان في البداية تلميذاً للراهب النسطوري سرجيوس بحيرا زاعمين انه تلقى منه بعض المعلومات الأساسية عن التوراة والإنجيل وبعد ذلك أعلن نفسه نبياً وكوّن عقيدة خاصة به..

وفي أحيان أخرى أطلق المسيحيون السريان على المسلمين لقب (طائفة أبناء الجارية) مستندين في ذلك إلى مقتطف من الإنجيل استل من رسالة بولس إلى أهل غلاطية) ويستنتجون منه أن المسلمين الذين هم (أبناء الجارية) مستبعدون من وعد الخلاص الإلهي لقد كانت اكبر كمية من المؤلفات التي كتبت عن تاريخ الإسلام قد تناولت النبي محمداً(ص) مما شكل موقفاً سلبياً صريحاً تجاه الإسلام وعقائده..

فقد كتب أحد الرهبان الدومينيكانيين بعد زيارته لبغداد الحكاية الخرافية التالية: بما انه لم تكن للشيطان قدرات ذاتية كافية لوقف انتشار المسيحية في الشرق اخترع كتاباً يمثل حلقة وسطى بين عهدين (القديم والجديد) واستخدم لأجل هذه الغاية الشريرة (وسيطاً من طبيعة الشيطان ذاته.. أما (الكتاب) فهو القرآن بينما (الوسيط) هو محمد(ص) الذي يجسد دور المسيح الدجال..

ومن الأساطير التي انتشرت عن النبي محمد(ص) في القرون الوسطى تلك القائلة انه ساحر كبير استطاع عن طريق السحر والخداع تحطيم الكنيسة في أفريقيا وفي الشرق وأنه سمح بالدعارة والفسق لكسب مزيد من الاتباع.. حول تلك الصورة القاتمة التي رسمها الأوائل في القرون الوسطى لنبي الإسلام محمد(ص) يقول المستشرق الفرنسي كارادي فو: ظل محمد زمناً طويلاً معروفاً في الغرب معرفة سيئة فلا تكاد توجد خرافة ولا فظاظة إلا نسبوها إليه..

إضافة إلى الكتابات التي تناولت حياة النبي محمد(ص) قد تطورت لتشمل القرآن والوحي الإلهي محاولة تحطيم تلك الصلة السماوية بين الله سبحانه وتعالى ونبيه الكريم(ص).. وبالتالي تحطيم النبوة التي تستند على الوحي والسماء..

فهذا جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) يعد القرآن من شواهد عبقرية محمد(ص) وهو من إنشائه ولكنه مقارنة بكتب الهندوس الدينية أقل قيمة منها فهو يقول:

ليس في عامية القرآن ولاهوتيته الصبيانية التي هي من صفات الأديان السماوية ما يقاس بنظريات الهندوس.. ثم ينكر شمولية القرآن ويرى انه مؤقت بعصره، لا يحقق حاجات الفرد في عصور لاحقة، بل يجعله سبب تخلف المسلمين..

أما فويلز فيتخيل محمداً(ص) رجلاً دفعته طموحاته ووساوسه في سن الكهولة إلى تأسيس دين ليعدّ في زمرة القديسين فألف مجموعة من عقائد خرافية وآداب سطحية وقام بنشرها في قومه فاتبعها رجال منهم..

أما المستشرق جولد نهزيهر فينسب المعرفة الدينية التي تلقاها محمد(ص) إلى عنصرين خارجي وداخلي فيقول:

فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجاً منتخباً من معارف وآراء دينية عرفها بفضل اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية التي تأثر بها تأثراً عميقاً والتي رآها جديرة بأن توقظ في بني وطنه عاطفة دينية صادقة وهذه التعاليم التي أخذها عن تلك العناصر الأجنبية كانت في وجدانه ضرورية لإقرار لون من الحياة في اتجاه يريده الله..

لقد تأثر بهذه الأفكار تأثراً وصل إلى أعماق نفسه وادركها بإيحاء قوة التأثيرات الخارجية فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحياً الهياً..

وأما بلا شير في كتابه تاريخ الأديان فيقول:

كان أسلوب النبي في القرآن أول عهده بالدعوة مفعماً بالعواطف، قصير العبارات، فخم الصورة، يقدم أوصاف العقاب والثواب في ألوان صارخة.. وكثيراً ما يكرر الآيات تكراراً مملاً حتى تنقلب معانيها إلى الضد.. فلما تقدم الزمن بالنبي فقد الأسلوب منهجه الأول، وأخذ يقص في نغمات هادئة بديعة قصص الأنبياء، مثلما تراه في قصة حب يوسف وزوجته بوتيفات ـ وكانت هذه الصورة مثيرة لخيال كثير من شعراء الفرس والترك.. وفي آخر عهد النبي فقد الأسلوب كل حرارة وكل فن وأغرم بالجدل الديني مع اليهود والنصارى.. والمستشرق الألماني نولدكه في كتابه تاريخ القرآن عمل على نفي أن تكون فواتح السور من القرآن مدعياً أنها رموز لمجموعات الصحف التي كانت عند المسلمين الأولين قبل أن يوجد المصحف العثماني.. فمثلاً حرف الميم كان رمزاً لمصحف المغيرة، والهاء لمصحف أبى هريرة، والصاد لمصحف سعد بن أبى وقاص والنون لمصحف عثمان.. فهي عنده إشارات لملكية الصحف وقد تركت في مواضعها سهواً ثم ألحقها طول الزمن بالقرآن فصارت قرآناً..

تلك الآراء كانت بعضاً من محطات كثيرة أسس فيها الغربيون الأدباء منهم والكتاب والمستشرقون لصورة هي الغالبة على أذهان الأوربيين عن الإسلام والمسلمين..

ولم تخلُ تلك الكتابات من بعض الأنصاف الذي ساد لهجة قسم من هؤلاء الباحثين.. أحدهم المستشرق الفرنسي كلود اتيان سافاري الذي وصف رسول الله(ص) في مقدمة ترجمته للقرآن بالعظمة قائلاً: أسس محمد ديانة عالمية تقوم على عقيدة بسيطة لا تتضمن إلا ما يقره العقل من إيمان بالإله الواحد الذي يكافئ على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة.. فالغربي المتنور وإن لم يعترف بنبوته لا يستطيع إلا أن يعتبره من اعظم الرجال الذين ظهروا في التاريخ..

وأيضا ما قاله توماس كارلايل المستشرق الإنجليزي في كتابه (الأبطال وعبادة الأبطال): لقد اصبح من اكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر أن يصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب، وان محمداً خدّاع مزور، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرناً لمئات الملايين من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا..

أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان ذلك التصديق والقبول، فما الناس إلا بُله ومجانين، وما الحياة الاسخف وعبث كان الأولى ألا تخلق..

نظرة في ثنائية الاستشراق والاستعمار

تشير كلمة الاستشراق إلى اشتقاقها من (الشرق) والتي تدل على جملة المعارف والعلوم والفنون التي أمكن الحصول عليها عن الشعوب الشرقية ولغاتها وعاداتها وثقافاتها عن طريق البحث والترجمة..

وقد ظهر مفهوم المستشرق أي العالم أو الدارس للشرق أو لغاته أو فنونه أو حضارته في اللغة الإنكليزية للمرة الأولى في سنة 1779 وفي الفرنسية ظهر هذا المصطلح في سنة 1799 ولم تعتمده الأكاديمية الفرنسية في قاموسها إلا في عام 1837.

ولا يعني ظهور مصطلح الاستشراق في تلك السنوات انه لم يكن موجوداً قبلها.. فالوثائق التاريخية تشير إلى أن الاستشراق قد بدأ فعلاً في سنة 1130 عندما أنجز رجال الدين في أوربا أول الأعمال المترجمة لأمهات الكتب العربية التي احتوت آخر ما توصلت إليه الحضارات آنذاك من علوم ومعارف ثم اتخذ شكل الترجمة العكسية من العربية إلى اللاتينية..

وهناك آراء تعود بهذا المصطلح من حيث الظهور إلى أعمال الراهب الفرنسي (جرير دي اوراليان) الذي عاش في الفترة من (940 ـ 1003م) يمكن تلمس بعض الفترات الزمنية السابقة لظهور المصطلح من خلال ما ألف حول الشرق عند الغربيين ونذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب يوهان هوتنغر (تاريخ الشرق) الذي ظهر عام 1651 وكتاب (المكية الشرقية) لمؤلفه (بارتلمي دير بيلو) الذي طبع بعد وفاته عام 1697 وكتاب (تاريخ العرب) لمؤلفه (سيمون اوكلي) الذي ظهر المجلد الأول منه في العام 1708 وأخيراً ترجمة (جورج سيل هول) للقرآن عام 1734.

لقد كان الشرق جزءاً تكاملياً من حضارة أوربا وثقافتها الماديتين... ويعبر الاستشراق عن تلك الحقيقة ويمثله ثقافياً بل حتى عقائدياً من حيث أن الاستشراق نهج من الإنشاء الكتابي له ما يعززه من المؤسسات والمفردات وتراث البحث والصور والمعتقدات المذهبية وحتى الأجهزة المكاتبية والأساليب الاستعمارية..

ويحيل إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق هذه اللفظة إلى ثلاثة مستويات هي:

الاستشراق يعني عدداً من الأشياء هي جميعاً في رأيي متبادلة الاعتماد.. أن الدلالة الأكثر تقبلاً للاستشراق دلالة جامعية أكاديمية.. فكل من يقوم بتدريس الشرق أو الكتابة عنه أو البحث في جوانبه المحددة والعامة على حد سواء هو مستشرق وما يقوم هو أو هي بفعله استشراق..

الاستشراق أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودي ومعرفي بين الشرق وفي معظم الأحيان الغرب...

الاستشراق يمكن أن يناقش ويحلل بوصفه المؤسسة المشتركة للتعامل مع الشرق، التعامل معه بإصدار تقريرات حوله وإجازة الآراء فيه وإقرارها، وبوصفه وتدريسه والاستقرار فيه وحكمه..

وبإيجاز: الاستشراق كأسلوب غربي للسيطرة على الشرق واستينائه وامتلاك السيادة عليه..

ولقد اتخذ الاستشراق منذ نشأته نهجين مختلفين.. اتسم الأول باللاهويته المتطرفة واقترب الآخر من الموضوعية العلمية ولكن هذا النهج لم يستطع أن يوقف التطرف الذي أعمى بصيرتهم بخرافات عصورهم المظلمة، فقوي الاتجاه الأول وتركز الاستشراق على ترجمة ما احتاجوا معرفته عن اللغات الشرقية وشعوبها بغية تنصيرها...

وعلى ضوء هذين النهجين انقسم المستشرقون إلى ثلاث فئات..

الأولى: تتخذ موقف التعصب اتجاه الحضارة العربية وتعدها مجرد ناقلة عن الحضارتين الإغريقية والفارسية...

والثانية: تقتصر في تسمية حضارتنا على أنها إسلامية فقط وتدعي أنها نتاج شعوب من أصول آرية ورومية وهندية.

أما الفئة الثالثة: فهي تضم صفوة من المستشرقين الذين تبينوا بأنفسهم مدى إسهامات العرب والمسلمين في إرساء قواعد الحضارة الأوربية بأفكارهم وعلومهم التي بدءوها بالترجمة ثم التأليف..

وعودة إلى الوراء في تقصّي أسباب هذا التطرف في النظرة إلى العرب والمسلمين وهذا التعصب الذي ساد كتابات المستشرقين يعود إلى الفترة التي ظهرت بها الدراسات الجغرافية ـ الوصفية لعرب شبه الجزيرة العربية والذين نظر إليهم انهم هم العرب فقط.. الذي يقوم عماد حياتهم على النهب واللصوصية.. وبعد دخول العرب المسلمين إلى إسبانيا لفت ذلك أنظار الأوربيين بشكل واسع تجاه الدين الإسلامي ونُظر إلى ظهورهم على الأراضي الأوربية بوصفه كارثة مماثلة للغزو التتري لمراكز الثقافة العالمية آنذاك..

فاختلط عامل الخوف من المنافس القوي مع عامل حب الاطلاع على نمط حياة المسلمين ومعارفهم العقلية.. وبتلك البدايات دخل العالم الإسلامي في دائرة اهتمام الأوربيين الثقافية والمصلحية..

وكان موقف اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى قد حددته محطتان رئيسيتان:

أولاهما: ضرورة التعلم من هذا العالم الإسلامي بكونه الأقوى والأعلم من جهة، وثانيهما: التصارع معه كعقيدة غريبة ومعادية من جهة أخرى...

ومن ذلك تشكلت في الوعي المسيحي القوالب النمطية الذهنية عن الإسلام وهي التي نشأت في كثير من جوانبها بارتباط مسبق وارتهان شرطي بنوع وطبيعة الموقف التقليدي للكنيسة من الإسلام.. كما يقول اليكسي جوارفسكي في كتابه الإسلام والمسيحية.

تلك الصورة للإسلام هي مزيج متناقض لمعارف موضوعية مع تشويهات خطيرة ضمت في الوقت ذاته تصورات في منتهى الخيالية والتوهم حيث هيمنت بشكل ثابت راسخ لمدة تاريخية طويلة على عقل الإنسان الأوربي ومنطقه ومداركه تجاه الإسلام وحضارته..

وكانت اللوحة التي تكونت في وعي الأوربيين في القرون الوسطى قد ضمت هذه الملامح: أن الإسلام عقيدة ابتدعها محمد (ص)، وهي تتسم بالكذب والتشويه المتعمد للحقائق، أنها دين الجبر، والاضمحلال الأخلاقي، والتساهل مع الملذات والشهوات الحسية، أنها ديانة العنف والقسوة.. كما ذكر ذلك مونتغمري واط في كتابه تأثير الإسلام على أوربا في القرون الوسطى...

في القرن السادس عشر حصلت تغيرات كبرى في موقف المسيحيين إزاء الإسلام، حيث بدأ الأوربيون يلمسون كيف أن السبق الثقافي اصبح يتحول إلى صفهم.. فلم يعودوا ينظرون إلى الإسلام بوصفه منافساً جدياً في ميدان العقل والعلم..

ولكن باقتراب الجيوش العثمانية من فينيا سنة 1529 تغيرت تلك النظرة وأصبحت اكثر عدائية وحدّة.. وانبعثت القوالب التقليدية من جديد مركّزة على وصف الإسلام بانه دين العنف الذي يخدم المسيح الدجال وان المسلمين معادون للعقل والعقلانية ولهذا فانه لا فائدة ترجى ولا طائل من محاولة تنويرهم وتحويلهم نحو الإيمان الصحيح والحل الأجدى هو مجابهتهم بقوة السيف وحده..

في القرن التاسع عشر اجتاحت بلدان الشرق موجة قوية من القادمين الأوربيين شملت العسكريين والتجار والمبشرين والإداريين والكوادر التقنية والعلماء من اختصاصات مختلفة.. فالاهتمام بالعالم الإسلامي أصبحت تمليه في هذه المرحلة الاحتياجات العملية والمصالح الحيوية للبلدان الأوربية..

إذن يمكن القول أن علم إسلاميات ولد في أحشاء المخططات الاستعمارية أو على الأقل تزامن مع ارتفاع الأصوات الأوربية الداعية إلى استعادة السيطرة على الأرض المقدسة من أيدي مغتصبيها المسلمين ـ عن طريق اتباع جملة من الإجراءات العملية ـ التطبيقية في مقدمتها إنشاء المدارس العربية في الغرب كشرط لتحقيق المعرفة الدقيقة لعقلية العرب والعقيدة الإسلامية..

ويمكن تلمس اثر الدراسات الاستشراقية في الحركات الاستعمارية من خلال التأثير الذي مارسته تلك الدراسات على الحملة الفرنسية في احتلال مصر، وكيف لعب الرحالة الفرنسيون المستشرقون دوراً كبيراً في تنفيذ الحملة الفرنسية على مصر والتخطيط لمشروعها السياسي الاستيطاني...

بالنسبة لبريطانيا يقول إدوارد سعيد.. شعرت بريطانيا فيما يتعلق بالإسلام والبلدان الإسلامية أنها بوصفها قوة مسيحية ذات مصالح مشروعة ينبغي المحافظة عليها وقد نما جهاز معقد لرعاية هذه المصالح.. فبعد المنظمات المبكرة مثل (جمعية نشر المعرفة المسيحية 1697) و(جمعية نشر الإنجيل في المناطق الأجنبية 1701) تشكلت جمعيات دعمتها مثل (جمعية التبشير الإنجيلية 1792) و(جمعية التبشير الكنيسة 1799) و(جمعية الكتاب المقدس البريطانية والأجنبية 1804) و(الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود 1808) وقد شاركت هذه الإرساليات بصورة صريحة في التوسع الأوربي.. ولقد أصبحت هذه المصالح تحمى فيما بعد بحماسة شديدة وبنفقات عالية...

وفي تحليله لدور الاستشراق في رسم سياسات المستعمرين يقول ادوارد سعيد حول الحملة الفرنسية على مصر..

إن فكرة فتح مصر من جديد، كأنه ـ أي نابليون ـ اسكندر جديد، قد طرحت نفسها عليه، مدعّمة الآن بالفائدة الإضافية المتمثلة في اكتساب مستعمرة إسلامية جديدة على حساب إنكلترا.. وأيضا اعتبر نابليون مصر مشروعاً ممكناً بالضبط لأنه عرف مصر تكنيكياً واستراتيجياً وتاريخياً وكذلك نصّياً وما يقصد بـ(نصّياً) هنا هو كون مصر شيئاً قرأ المرء عنه وخبره عبر كتابات ثقاة أوربيين محدثين وكلاسيكيين.. وموضع الدلالة في هذا كله هو أن مصر بالنسبة لنابليون كانت مشروعاً اكتسب وجوداً حقيقياً في ذهنه ثم في تجهيزاته لفتحها، من خلال تجارب تنتمي إلى مملكة الأفكار والأساطير المستنبطة من النصوص لا من الواقع التجريبي.. ولذلك صارت الخطط التي وضعها لمصر الأولى في سلسلة طويلة من المواجهات الأوربية مع الشرق سخّرت فيها المستشرق الخابرة لأغراض استعمارية بصورة مباشرة، ذلك انه في اللحظة الحاسمة التي كان فيها على المستشرق أن يقرر ما إذا كان ولاؤه وتعاطفه مع الشرق أو مع الغرب الفاتح، اختار المستشرق الغرب دائماً، منذ زمن نابليون وحتى اللحظة الحاضرة.. لقد أدرك نابليون من خلال قراءاته الاستشراقية أن ثمة ثلاثة حواجز في وجه السيطرة الفرنسية على الشرق وان أية قوة فرنسية لابد أن تخوض لذلك ثلاثة حروب: الأولى ضد إنكلترا، والثانية ضد الباب العالي العثماني، والثالثة وهي أكثرها صعوبة ضد المسلمين..

وحين اصبح واضحاً لنابليون أن القوة التي يقودها لم تكن كبيرة بحيث تستطيع أن تفرض نفسها على المصريين حاول أن يجعل الأئمة والقضاة ورجال الإفتاء والعلماء يؤولون القرآن بما يخدم مصلحة الجيش العظيم.. وفيما بعد أعطى نابليون نائبه كليير تعليمات مشددة بأن يدير أمور مصر بعد أن يغادرها هو من خلال المستشرقين والقادة الدينيين المسلمين الذين كان باستطاعتهم أن يستميلوهم إلى جانبهم، فأية سياسة أخرى كانت حمقاء وباهظة التكاليف.. لقد كرس الاستشراق المناخ الاستعماري وبصورة تدريجية وفي مرحلة زمنية طويلة.. ويتضح لدينا أن الاستشراق بدأ خطواته الأولى باتجاه العقل الأوربي ليحول بينه وبين اعتناق الإسلام.. فكانت الترجمات الأوربية المشوهة دائماً للقرآن الكريم والسيرة، ومن ثم بدأت الدراسات التاريخية والاجتماعية والتراثية العامة في المعاهد والجامعات والمراكز العلمية، التي أنشئت لتخريج القناصل والسفراء والكتّاب والجواسيس لتأمين مصالح بلادهم وتوفير المعلومات عن بلاد العالم الإسلامي وإقامة مراكز لدراسة هذه المعلومات وتحليلها لتكون بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق واوديته من اجل فرض السيطرة الاستعمارية عليه وإخضاع شعوبه وإذلالها وارتهانها للثقافة الغربية والوصول بها إلى مرحلة العمالة الثقافية..

لذلك، لم يقتصر الاستشراق على مخاطبة العقل الأوربي كما لم تقتصر كتابات المستشرقين ودراساتهم على حماية الأوربي من اعتناق الدين الإسلامي، وإن كان ذلك هو الهدف الأول، وإنما تجاوزت إلى محاولة إلغاء النسق الفكري الإسلامي ومحاولة تشكيل العقل المسلم لممارسة هذا الدور والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد ومراكز الدراسات والإعلام والتربية في العالم الإسلامي، لجعل الفكر الغربي هو المنهج والمرجع والمصدر والكتاب والمدرس في كثير من الأحيان..

وبهذا تعزز القناعة بأن الأفكار والمؤسسات والشخصيات المنتمية لأواخر القرن الثامن عشر وللقرن التاسع عشر ـ والمستشرقون في طليعتهم باعتبارهم السلطة المرجعية المركزية للشرق ـ جزء هام وإحكام حاسم للمرحلة الأولى من اعظم عصر للسيطرة الجغرافية عرفه التاريخ، فمع نهاية الحرب العالمية الأولى كانت أوربا قد استعمرت 85% من سطح الأرض..

إن ما قام به المستشرقون وما قامت به حملات التبشير هو تحقيق لمصالح وتطلعات الرأسمال الأوربي، والذي قام أساسا على مبدأ الإخضاع الروحي للشعوب المستعمرة لمستعمريها مع مراعاة مبدأ تخليد هذه الشعوب في مضمار التخلف..

وليس أدل على هذا مما قاله الجنرال البريطاني (اللبني) بعد دخوله البلاد العربية عام 1917 وإخضاع قسم من بلاد الشام والعراق للنفوذ البريطاني (أن عملية توزيع البلاد العربية تحت النفوذ الإنجليزي والفرنسي وهما اللذان يمتلك كل منهما اسلوباً ثقافياً متميزاً عن الآخر، سيثمر بعد سنوات قليلة من الاحتلال في خلق جيل وثقافة واتجاهات تختلف تماماً عن بعضها بعضاً، وهذا الاختلاف سيفضي بدوره إلى عدم قيام فهم واحد وفكر واحد، وبالتالي إحساس واحد بين أبناء الوطن العربي، الأمر الذي يسهل علينا تمزيقه)...

ونتساءل في خاتمة هذه السطور.. هل كفّت تلك الحملات عن تشويه صورة الإسلام والمسلمين أم أنها لا زالت مستمرة بوتائر متصاعدة.. خاصة بعد تطور وسائل الاتصالات والإعلام.. هذا يستدعي موضوعاً آخر قريباً..

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 46

الصفحة الرئيسية