|
والوفاء والشجاعة والصبر |
في رحاب السيدة زينب عليها السلام |
علي العباس |
لم تجد وساطات المخلصين، ولا نصائح الأقربين أي إقناع أو قبول أو استجابة لدى الإمام الحسين (ع) للعدول عن الذهاب إلى العراق فقراره بإعلان الثورة على دولة البغي والظلم والفساد اتخذ في ساعة تجلي وصفاء، ولا رجوع عنه. كان من بين الناصحين اخوه: محمد بن الحنفيّة، وابن عمه عبد الله بن عبّاس، والطرماح بن عدي، وعمر بن عبد الرحمان بن هشام المخزومي، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن مطيع العدوي. اجل... صمم الإمام الحسين (ع) على الذهاب إلى العراق استجابة لدعوة أقطاب هذا البلد واصحاب النفوذ فيه، وهو يعلم انه يلبي نداء الواجب المقدس، وينفّذ الأوامر الإلهية العليا التي اقتضت أن يجعل من نفسه شهيداً يكتب بدمائه صفحات تاريخ الأمويين الأسود الملطّخ بالخيانة والعار. لقد حمل الإمام الحسين (ع) على عاتقه أعباء رسالة الإسلام، ووضع على كفه الشهادة في سبيل الواجب، وردّد على مسامع عدد من أعيان المسلمين. (والله لو لم يكن في الدنيا ملجأً، ولا مأوى، ما بايعتُ والله يزيد بن معاوية) وقال: (والله لو كنت حجر هامة من هوام الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني والله ليعدّين علي كما عدت اليهود على السبت). وقال: (والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم). وقال: (لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا اقرّ لكم إقرار العبيد). وقال: (على الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد). وقال: (الموت أولى من ركوب العار، والعار أولى من دخول النار). وقال منادياً المسلمين: (ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وان الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً). وقال: (لم اخرج أشرا، ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً. وانّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف، وانهي عن المنكر، واسير بسيرة جدي وأبي). سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً لقد عزّ على الإمام الحسين (ع) أن يضع يده بيد يزيد بن معاوية الملوثة بالظلم والاثم والعار ويبايعه وهو الذي سمع جده رسول الله (ص) يقول: (الخلافة محرمة على آل سفيان). كان يخشى على المسلمين من أن يصدّقوا ما جاء به بنو أمية، وكان يعتقد أن الشهادة هي الفتح، وأن الأمة الإسلامية لا يمكن لها أن تبعث، وأن ترتدي أثواب المجد إلاّ بشهادته وشهادة النخبة الطاهرة من أهل بيته الأكرمين، واصحابه المؤمنين. هذه الأقوال الخالدة خلود الدهر. ستبقى على صفحات التاريخ خفاقة، وفي الأقطار رفافة، وستبرز إلى جانبها سنن الإسلام وتعاليمه وقوانينه حيةً لا تزول من الأذهان مدى الأزمان. فيا لها من ذكرى أليم وقعها، وشديد فعلها جاءت تذكر وتروي. خرج الركب الحسيني الامامي من مكة المكرمة باتجاه العراق في صبيحة الثامن من شهر ذي الحجة سنة 60هـ. وكان على مقدمته هوادج الحرائر الفاطميات المطهرات، وعلى رأسهنّ السيدة زينب بنت الإمام علي (ع) وهي التي ارتبطت سيرة حياتها بسيرة الإمام الحسين (ع) . فبالأمس خرج اليهود على عيسى بن مريم فقتلوه وصلبوه. وسجلوا على أنفسهم جريمة ستظل تلاحقهم حتى نهاية الدوران، وفعل عبدة الأوثان مثلما فعل اليهود، فقتلوا حفيد الرسول الكريم وأولاده واصحابه ومثلوا بهم. فماذا نقول للتاريخ الذي أعاد نفسه بعد خمسمائة عام؟ كانت الشمس آنئذ قد دنفت، وأرخى الظل على جذوع شجيرات الصحراء رشاشاً من سحر، وظلالاً من تبر، وتراءت كثبان البوادي وتلولها من بعيد، وفي طلعتها تراقصت موجات الجلال والرهبة والشموخ، وهبّت انسام الصباح رخية تداعب أوراق الشجيرات وبراعم الزهور، وكل شيء بدا هادئاً مستقراً. سكون... تغرق في عبابه النفوس المطمئنة، وطبيعة جزلى تعاظم خصبها وثراؤها، وصباح أراق على كثبان الصحراء وهضابها الظلال واللألاء. وفي تلك الدقائق تقدمت السيدة زينب نحو أخيها أبي عبد الله الحسين بن علي (ع) عندما كان الركب الحسيني يقضي فترة راحة في إحدى الواحات وهو في الطريق إلى العراق. فقالت: أي أبا عبد الله.. يا شقيق الروح... أيها المجاهد في سبيل الحق والواجب. أني اسمع لغطاً وأقوالاً ومحاولات تبذل لإرجاع حرائر آل البيت إلى المدينة، وهكذا تذهب إلى العراق وليس معك أحد من النساء. واني لا ادري بعد ذلك من يقوم بخدمتك، ويرفه عنك وعن اخوتك وابنائك؟ انّ هذا يجعلني احمل إليك قراري وتصميمي على الذهاب معك حتى النهاية. فأنا لا أتخلى عنك، وسأقطع المراحل معك متّكلة على الله. سأكون لك الخادمة المطيعة، وللصغار من آل البيت الممرضة الأمينة أقوم بواجب خدمتهم والاعتناء بهم وتأمين كل ما يلزمهم في سفرهم. فقرّ عيناً واعلم اني قد عاهدت الله، وجدي رسول الله، وأبي أمير المؤمنين، على حمل راية الجهاد وبذل الروح في سبيل الإسلام، والثورة على الظالمين، والحكم الفاسد الجاثم على صدور المسلمين. فأجابها: أي زينب... يا شقيقتي الوفيّة... يا رفيقة الجهاد... لا تحزني.. وقري عيناً... وثقي بأني لا أتخلّى عنك، وسوف لا يفرقنا إلاّ الموت. وصل ركب الإمام الحسين(ع) إلى الأراضي العراقية في اليوم الثاني من محرم سنة 61هـ. فأناخوا ركبهم في موقع (كربلاء) من أرض كوفة العراق، ونصبوا خيامهم في أرض (الكرب والبلاء) وهم لا يعلمون ما تخبئ لهم الأقدار. وما شاع خبرهم حتى بدأت المناورات والإنذارات، وتبعتها جيوش ابن زياد، وقد أخذت تتدفق على دفعات تحت شعار الإجهاز على الحسين ومن معه، حتى بلغت ثلاثين ألفا في غضون أسبوع. إن القلم ليرتجف بيدي، ويتوقف أخيرا عن الكتابة ووصف المعركة الرهيبة التي خاضها الإمام الحسين (ع) بشجاعة أمام هذا العدد من الجند. واني لا أريد أن اعدد الجرائم التي اقترفها أعداء الله والإسلام ضد شهداء آل بيت النبوة في كربلاء، حتى لا أكون سبباً في تجديد الحسرة وإسقاط الدمعة واعادة ذكرى الفاجعة الكبرى التي استنكرها العالم واسود لها وجه التاريخ، ويكفي بان اذكر لمحة تعطي مثلاً على وحشية عبدة الأوثان والذين لم يكتفوا بقتل الحسين (ع) بل مثلوا به وبآل علي وعقيل وجعفر والصفوة من أصحابهم المجاهدين، وقد منعوا عنهم الماء حتى قضوا عطاشى، وفيهم الطفل الرضيع، والمرأة المرضع، وداسوا بحوافر الخيل أجسادهم، ثم ساقوا الحرائر الفاطميات وهن مغلولات حاسرات بلا غطاء ولا وطاء ونقلوا رؤوس القتلى مع السبايا من كربلاء إلى الكوفة وبعد ذلك إلى الشام. وهذه المشاهد كانت عاملاً على تمزيق كل ادعاء زائف للأمويين ـ كما كشفت قناعهم المزيف ـ ومحت كل دعوى تدنيهم من الإسلام. ومن جهة ثانية بزرت أخلاق المرأة المسلمة في ثورة الحسين (ع) في موقف السيدة زينب ورفيقاتها ونساء الأنصار ـ ومنهنّ زوجة عبد الله بن عمير وهي أول امرأة شهيدة في الإسلام. اجل... لقد تجلّى موقف السيدة زينب وشجاعتها ورباطة جأشها ومتانة أعصابها وصبرها عندما دعاها الحسين (ع) وكان في دور الاحتضار، لإحضار ولده الرضيع عبد الله ليودعه الوداع الأخير، فأتت به زينب وقد غارت عيناه من العطش. فأجلسه في حجره ثم مال إليه ليقبله، فرماه حرملة بن كاهل الاسدي بسهم وقع في نحره فذبحه. فقال الحسين(ع) : (هوّن عليك ما نزل بي انه بعين الله تعالى). وقال: (اللهم لا يكون عليك أهون من فصيل. إلهي أن كنت حبست عنّا النصر، فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حلّ بنا في العاجل، ذخيرة لنا في الآجل) وخاطبهم قائلاً: (ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان. إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، وارجعوا إلى احسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون). وتشهّد البطلُ الجريح وقــــــد رنا نحو الخيــــــــــام قبيل أن يتشهّدا ليرى أحبته
بآخـــــــــر
رمقـــــــةٍ
وإذا
بزينب كــــــــالنسيـــــم إذا عدا يقول عبد الله بن عمار بن يغوث: (فوالله ما رأيت مكثوراً قط قد قتل ولده وأهل بيته وصحبه اربط جأشاً من الإمام الحسين (ع) ولا أمضى جناناً). إننا نشاهد ونحن نقرأ سيرة زينب، صورة اللبوة الجريحة القوية التي تتحدّى أعداءها وتسمعهم الكلام والتقريح والهجاء في قوة وصلابة في مجلس ابن زياد. وفي ثورتها العارمة نراها تندد بأهل الكوفة وبانحرافهم وخذلانهم ـ وخيانتهم، ونسمعها في مجلس يزيد تهاجمه وتهزأ به وبآبائه وأجداده غير حاسبة أي حساب، وغير خائفة من الفاسق وجيوشه، وهكذا عبرت عن نفسها، وأعطت المثل الرائع عن المرأة الشجاعة التي لا تلين قناتها أمام الظالمين، وكم هو رائع خطابها لأهل الكوفة عندما احتشدوا محدقين في موكب الرؤوس والسبايا وهم يبكون، فأشارت إليهم أن سكتوا، فسكتوا ولكنها مضت تقول: (أما بعد... يا أهل الكوفة... ويا أهل الختل والغدر... أتبكون...؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة... إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثا. أتتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، وهل فيكم إلاّ الصلف والنطف والشنف وملق الإماء وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كقصة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون... أتبكون وتنتحبون أي والله... فابكوا كثيرا، واضحكوا قليلاً، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولم ترحضوها بغسل بعدها أبدا. وانّى ترحضون قتل سليل خاتم الأنبياء ومعدن الرسالة ومدار حجتكم ومنار محجتكم وسيد شباب أهل الجنة... الا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة). إنّ القلم ليرتعش عندما يخط سيرة لبوة أهل البيت زينب بنت علي (ع) . ويكفيها فخراً وخلوداً إنها حملت علي بن الحسين (زين العابدين، وكان مريضاً يتلوى ألماً، فكانت تمسح عن جبينه العرق وتواسيه وتمرضه وتحمل عنه الآلام قائلة له: فدتك روحي. فأنت البقية الباقية من آل علي (ع) . والإمام الوارث من العترة الطاهرة. لقد أرادوا قتلك، ولكن الله حفظك وأبعد عنك شرورهم وآثامهم). (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلاّ أن يُتمّ نوره ولو كره الكافرون). يقول أبو العلاء المعري: عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حرباً يــــــــــشيبُ فيـــــها الوليدُ فابن حُربٍ للمصطفــــى وابن هندٍ لعليٍّ وللحسيـــــــــــــــــــــن يزيدُ في نهاية المطاف لابد لي من حمل عبارات التقدير والولاء، وصياغتها تاجاً مرصعاً بالطيب أضعه على ضريح لبوة الصحراء المطهّرة. فيا أيتها القدسية الطاهرة.. يا رفيقة الشهداء.. ويا حاضنة أبناء الشهداء... أيتها الشاهدة أمام الله على الظالمين... أيتها الصامدة صمود الجبال أمام العاصفة الهوجاء... أيتها النبيلة التي ضربت المثل الأعلى بالشجاعة والصبر واحتمال الأذى والموت في سبيل المثل الأعلى، وابتغاء رضوان الله. تحية إكبار واجلال وسلام رضى إليك يا من كتبت على صفحات التاريخ دروس الأجيال، وآيات الخلود... ويا من هي قدوتنا وعماد عقيدتنا. تحية سلام وخضوع أسديها بهذه المناسبة الأليمة. نفعنا الله بشفاعتك ـ وصلاة الله وسلامه على روحك الطاهرة، وعلى الخمسة الطاهرين المطهرين. |