|
الجذور ..الدوافع..والمعالم |
علي الشمري |
( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يؤمنون) (1). لم يكن الإمام الحسين(ع) رجل حرب أو مجرد بطل مواقف وميادين فحسب، كما لم تكن واقعة كربلاء حادثة عابرة في التاريخ، وانما إقترن الحسين(ع) وحركة نهضته الرائدة، بهدف سام أعلى نتجت منه مسيرة عبادية جهادية سياسية تظللت في ظل مبادئ مقدسة مستوحاة من روح نصوص الشريعة الإلهية والرسالة المحمدية والسيرة العلوية... والهدف السامي الذي كان في قمة أهداف حركة الحسين(ع) هو إقامة حكم الله في الأرض، بكل ما يعنيه من أصالة وعدالة واستقامة، ومن هنا جاءت بالفعل بداية انطلاقته بإعلانه مقولته الخالدة: (اني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وانما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) فالإصلاح الذي عناه(ع) في أمة جده النبي الأكرم محمد(ص) ، يشمل إقامة حكم الله في الأرض، وهذه هي حقيقة ناصعة وثابتة لا تنكر، وليس بإمكان أحد أن يشكك بها، كما لا يستطيع كل من يضمر العداء والحقد أو الحسد لآل بيت الرسول الأطهار عليهم الصلاة والسلام أجمعين أن يشوهها او يتلاعب في وقائعها ومبادئها، لقد ثار الإمام الحسين(ع) وتحرك، ولكنه لم يفعل ذلك ليحكم، أو يحصل على منصب يأمر من خلاله وينهى، فمقولته العظيمة تلك هي الشعار الذي فجر حركته على أساسها، وليس ليصبح حاكماً، مع أن أئمة أهل البيت المحمدي المبارك أولى بل وأحق من غيرهم بالحكم وولاية أمة المسلمين بأمر إلهي وتوصية نبوية، والحسين(ع) هو الذي كان يكرر الآية الكريمة ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين) (2)، الإمام(ع) لم يخرج من أجل الإفساد، ولم يكن هدفه البغي في الأرض كما إتهمه أعداؤه، فقد كان بإمكانه(ع) وهو يمتلك تلك الشجاعة وتلك الشرعية، وبإمكانه أن يفعل ما فعله ابن الزبير من بعده، وما فعلته حركة القرامطة في البحرين والبصرة، وما ارتكبته ثورة الزنج والتي كادت أن تسيطر على بغداد، ولكنه(ع) لم يفعل شيئاً من ذلك، فلم يجبر أحداً على الالتحاق به، علما انه كان في موسم الحج في مكة المكرمة، وكان القائد الروحي الذي لا يرقى إليه شك في العالم الإسلامي كله وقتذاك، ومع هذا كله فإنه(ع) لم يتسلط ويتجبر على الناس بقوة السلاح، فلم يجذب الناس في مكة إلى حركته بالقوة، بل أبان لهم الحقيقة حتى إنه عندما جيء له بخبر مقتل رسوله (ابن عمه) مسلم ابن عقيل بن أبي طالب، وتحوّل الكوفة من الثورة على الحكم الظالم إلى الثورة المضادة، فإنه طلب من الرسول الذي جاء إليه بهذا الخبر، أن يلقيه علانية قائلاً: ما دون هؤلاء من سر، لقد فعل الإمام الحسين(ع) ذلك لان حركته كانت إصلاحية نزيهة، ولم تسر ضمن حركة الطاغوت، ولم تهدف إلى إقامة طاغوت آخر، لأنها لم تكن صراعاً سياسياً بحتاً او غاية ووسيلة لأجل الوصول إلى السلطة، كما يحلو عن خبث وحقد لبعض المرجفين والمشككين عن جهل وضيق رؤية. |
لقد كان للتطورات الكبرى التي شهدها المجتمع الإسلامي على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، عوامل ممهدة خلقت ظروفاً آلت إليها تلك التطورات، لتنتهي مضاعفاتها السلبية فيما بعد إلى ما آلت إليه من مساس خطير بأصالة الرسالة ومبادئها وسلامة مسيرتها كما رسمها وأوصى بها نبي الأمة الأكرم محمد(ص) وابرز هذه العوامل ثلاثة. - العامل الأول: منطق السقيفة: ففي سقيفة بني ساعدة إجتمع الأنصار يتداولون -بمعزل عن سائر المسلمين- في مسالة الحكم بعد النبي محمد(ص) ، ويرون انه من حقهم، بينما تكتل ضدهم فريق من القرشيين ينازعهم هذا الأمر، مع العلم أن النبي لم يفارقهم إلا بعد أن عهد بالحكم على مرأى ومسمع المسلمين إلى علي بن أبي طالب(ع) (بيعة الغدير) المعروفة بإجماع رجال ورواة الحديث من أهل السنة والشيعة)، ولم يكن علي(ع) يشترك في اجتماع السقيفة هذا، وكان مشغولاً مع الهاشميين بتغسيل وتكفين جثمان النبي الذي لم يكن يدفن بعد، فيما تيار الأحداث الجارف، وتسابق الكتل السياسية، قادها إلى اغتنام فرصة الذهول الذي أصاب اكثر المسلمين لوفاة النبي، من أجل الوصول إلى الحكم، بل والى تجاهل البعض لعهد النبي إلى علي بن ابي طالب بولاية أمر المسلمين، وكونه الإمام والحاكم للأمة من بعده، وهذا التسابق السلطوي والتجاهل المتقصد إنما جاء بتأثر الروح القبلية التي تأججت وقتذاك، وعبرت عن نفسها يوم السقيفة فاتحة على المسلمين باباً من أبواب الفتنة، التي انعكست آثارها لتمتد إلى عهد عثمان وتستفحل سلباً باستيلاء حكام بني أمية على مقاليد الأمور والسلطة مسببين بكل ما نال العقيدة من تحريف وتشويه وما نال المسلمين من ظلم وجور، لا زالت صورة قائمة الى اليوم. - العامل الثاني: مبدأ الخليفة عمر في العطاء: سوى النبي(ص) بين المسلمين في العطاء، فلم يفضل أحدا منهم على أحد، وجرى على مبدأ التسوية في العطاء أبو بكر مدة خلافته، أما عمر بن الخطاب فقد جرى (حين فرض العطاء في سنة 26هـ على مبدأ التفضيل، ففضل السابقين على غيرهم، وفضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين، وفضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة، وفضل العرب على العجم، وفضل الصريح على المولى)(3) وفضل مضر على ربيعه، ففرض لمضر ثلاثمائة ولربيعه في مائتين(4)، وفضل الاوس على الخزرج(5)، وقد ولد هذا المبدأ فيما بعد أسوأ الآثار في واقع الحياة الإسلامية، حيث إنه وضع أساس تكون الطبقات القرشية، وكل ذلك كان مبرراً كافياً للتحكم والاستعلاء، وكان من صوره استيلاء قادة بني أمية على سلطة الحكم، وهيمنتهم المطلقة على مصير المسلمين، بالشكل الديكتاتوري والمأساوي الذي حصل. - العامل الثالث: الشورى: في الوقت الذي كان مبدأ التفضيل في العطاء قد خلق شعوراً بالامتياز والتفرد لدى قريش، فإن الشورى التي هدمها الخليفة عمر قد أثارت في نفوس كثير من الأشخاص البارزين في قريش آنذاك وفي نفوس قبائلهم وأنصارهم مطامح سياسية ما كانوا ليحلموا بها، فقد جعل عمر الشورى في ستة نفر من قريش، وكلهم مرشح للخلافة، الناس يريدون الإمام علي بن أبي طالب لانهم يخشون سلطان بني أمية أما قريش فهي تخشى علياً وعدله واستقامته، ولعل كثيرين منهم كانوا على علم ببعض آرائه في المال والاجتماع والولايات، واما الأنصار فكثرتهم مع علي وقلتهم مع عثمان، وهذا طبيعي بسبب خوفهم من تسلط قريش على جميع مقدرات الدولة، مقابل هذا الشعور والتخوف المشروع من جانب عموم المسلمين، فان منطق السقيفة القبلي سيطر على بني أمية في الجدل الذي دار في مسجد النبي في المدينة، وبالتالي آلت هذه الشورى إلى النتيجة التي كان يخشاها المسلمون وهي استيلاء الأمويين -عثمان بن عفان- على الحكم، بل وخلقت مواقف مختلفة من هذه النتيجة، عكست أسوأ الأثر في نفسيات الأنصار، وهؤلاء الذين وعدوا في إجتماع السقيفة بأن يكونوا وزراء وشركاء في الحكم، وإذا بهم يحرمون من كل شيء حتى من حق المشورة، وقد عبّر علي بن أبي طالب عن عدم رضاه عن هـــذه النتيجة وتسليمه بالأمر الواقع قائلاً: (لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة)(6) هذه العوامل الثلاثة كانت تتصل اتصالا وثيقاً بالفتنة التي أصابت المسلمين في عهد عثمان، والأحداث التي نجمت عنها، تفاعلت مجتمعة مع أسلوب عثمان في سياسة المال والإدارة والاجتماع، فكان من ذلك جميعاً الانحراف الصريح عن مبادئ الإسلام الذي وصل بالمأساة إلى قمتها، فدفع بالمسلمين إلى الثورة ضد الحكام الأمويين المنحرفين وجورهم. |
قامت سياسة الحكم الأموي على ثلاثة أسس، قصد بها الساسة الأمويون بدءاً بمعاوية بن أبي سفيان ومروراً بابنه يزيد وأحفاده من بعده، القضاء على ما لدى الجماهير المسلمة من نزعة إنسانية تجعلها خطراً على كل حاكم يجافي مبادئ الإسلام في ممارسته لمهمة الحكم، وهذه الأسس هي: 1- الإرهاب والتجويع: إتبع معاوية سياسة الإرهاب والقتل والتجويع على الرعايا المسلمين الذين لا يتفقون معه في الهوى السياسي، وقد استمر على هذه السياسة، بعد أن قتل علي(ع) ، ولكنها إذ ذاك أخذت شكلاً أكثر تنظيما وعنفاً وشمولاً، هذا كله بالإضافة إلى -سياسة الترحيل والتشريد التي قصد بها إلى إضعاف المعارضة بالعراق (الكوفة)، الذي كان يعده الأمويون من معاقل الولاء والتشيع لآل بيت الرسول محمد(ص) ولعلي(ع) وأحقيته وابناءه من بعده في ولاية وحكم المسلمين، وأما سائر الولايات الإسلامية فقد ذاقت الطبقات الفقيرة فيها طعم البؤس، وعانت ألواناً من الاستبعاد والإفقار. 2- إحياء النزعة القبلية وإستغلالها: إستغل معاوية وأسلافه نزعة الروح القبلية في ميدانين، فقد أثار بالقول والفعل العصبية القبلية عند القبائل العربية ليضمن ولاءها عن طريق ولاء زعماءها من ناحية، وليضرب بعضها ببعض حين يخشاها على سلطانهم من ناحية أخرى، وأثار العصبية العنصرية عند العرب عموماً ضد المسلمين غير العرب وهم الذين يطلق عليهم المؤرخون اسم الموالي، وهكذا بث معاوية روح البغضاء والنفرة بين القبائل العربية، فشغلت هذه القبائل بأحقادها الصغيرة عن مقارعة خصمها الحقيقي (الحكم الأموي) وشغل زعماء هذه القبائل بالسعي عند الملوك الأمويين للوقيعة بأعدائهم القبليين، فيما أثار من جانب آخر العصبية العنصرية عند العرب عموماً ضد المسلمين غير العرب، وقد استمر هذا الداء الوبيل ينخر في جسم الأمة الإسلامية حتى مزقها شرم ممزق، وقضى على وحدتها المتماسكة برباط العقيدة والإيمان، وقذف بها في عباب حروب طاحنة أتت على روابط الألفة والمحبة، وزرعت بين طوائفها الإحن والبغضاء، ولقد كانت هذه السياسة التي سنها معاوية وخلفاؤه لتدعيم سلطانهم بتحطيم وحدة الأمة سبباً حاسماً في تحطيمهم، وتمكين أعدائهم منهم في نهاية المطاف. 3- التخدير باسم الدين وشل الروح النهضوية: المأخذ الدائم الذي يؤخذ على الأمويين هو انهم كانوا أصولا وفروعاً أخطر أعداء النبي محمد(ص) وانهم اعتنقوا الإسلام في آخر ساعة مرغمين، ثم أفلحوا في أن يحولوا إلى أنفسهم ثمرة حكم الدين أولاً بضعف عثمان، ثم استخدام نتائج قتله، هذا وأصلهم يفقدهم مزية زعامة أمة محمد(ص) ، ومن المحن التي بلى بها حكم الدين، إنهم أصبحوا قائمين عليه -مع انهم كانوا- وما فتنئوا مغتصبين لسلطانه، وقوتهم في جيشهم الذي هو على قدم الطاعة العمياء والجهل والاستعداد في الشام، ولكن قوتهم لا يمكن أن تصبح حقاً، ان هذا الأساس الثالث من أسس السياسة الأموية أي (التضليل الديني)، تكفل بإيجاد تبرير ديني للوضع الاجتماعي الشاذ الذي كان عليه المجتمع الإسلامي، وأُريد منه حمل الجماهير المسلمة على السكوت عن النقد والقعود عن محاولة تغيير الوضع وتصحيح مسار أمور الأمة وفق مبادئ الإسلام الأصيلة، وبذلك يختفي الشعور الذي يدفع إلى الثورة حين يبلغ درجة ضغط عالية، وعندما يضمحل الشعور بالإثم يستقر المجتمع نهائياً، فهناك عامل نفسي وديني يدفعه إلى الخضوع، وهناك عامل اجتماعي يجعله حتمياً، وحينئذ يطمئن الحاكمون الظلمة إلى ان تصرفاتهم لن تثير أي استنكار لدى الجماهير، ولقد كانت هذه السياسة خليقة بأن تنتهي بالمجتمع الإسلامي إلى حالة تعسة من الذل والخنوع، ومن تفاهة الحياة، واهداف تلك الحياة، |
لم تكن الحركة التي قادها الحسين(ع) ، وجسدها على أرض الواقع بطف كربلاء، عملاً انقلابياً ذا أفق ضيق وغايات محددة، وانما حركة رسالية وثورة إنسانية شاملة، تمثلت بأهدافها ومعالمها الواضحة وأبرزها: أولا: كون ثورته أمراً مرضياً لله عز وجل لا تشوبه شائبة عصيان، ولا كونه مما ترفضه الشريعة المقدسة، ليس إنساناً عادياً أو دخيلاً على الإسلام كما هو الحال لبني أمية ومن تسلط منهم على حكم المسلمين غصباً، وانما الحسين إمام (معصوم)، كما قال رسول الله(ص) : (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا). ثانياً: إن الأهداف الحسينية ليست أهدافاً مؤقتة أو متدنية، فإن ذلك مما لا يصح له وجود هذه التضحية الكبيرة التي قدمها الحسين(ع) ، والمعاناة اللاحقة التي ألمت بعياله وآله بعد استشهاده على يد السلطة الأموية، ولذا فان هذه التضحية والمعاناة لا تكون معقولة ولا عقلانية، وانما لا بد أن يكون الهدف عميقاً وواسعاً واكيداً، بحيث يوازي هذه القيمة ويسع كل هذه التضحيات الجسام، التي قدمت على مذبح العقيدة والحرية والكرامة لأل البيت الأطهار فحسب، بل ولأجل الإسلام والإنسانية أيضاً. ثالثاً: أن يكون أمر النهضة والثورة أمرا متحققاً أما في الحال أو في المستقبل ومقروناً بالانتصار بمعناه الشمولي والواسع على صعيد الحياة الإنسانية، وليس الانتصار بمعناه الضيق والمحدود، والذي قد يفهمه البعض بالانتصار العسكري الآني، ومن كونه هو النتيجة الحاسمة او النهائية لمعادلة الصراع بين جبهة الحق وجبهة الباطل، ومن هنا فإن طرح هدف فاشل وغير متحقق، هو خلاف الحكمة الإلهية، إذ لا يمكن نسب مما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة اللامتناهية، ومثال في سياق هذا المعنى، هو لو كان الإمام الحسين(ع) قد إستهدف النصر العسكري العاجل، أو إزالة حكم بني أمية، أو ممارسة الحكم (السلطة السياسية النافذة) في المجتمع فعلاً، فهذا ونحوه من الأهداف القطعية الفشل، لأنها لم تحدث، ولم يكن من الممكن أن تحدث، إذن فهو ليس بأمر مستهدف وان تخيله البعض. رابعاً: إن قوله (ع) (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر) يعني أن يُفهم الأمة أن المجتمع غدا يتصف بضعف الإيمان وحالة الدين وقلة الالتزام بالتعاليم، إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه. |
بعض الناس يفكرون ان الحسين(ع) يأس من الحياة على ضوء تفسيرهم لقوله(ع) (لا ارى الموت إلا سعادة الخ) في حين ان الحسين(ع) يقصد بمقولته العظيمة بمدلولاتها وابعادها إنه حدد السعادة من خلال انسجام الحياة مع المبادئ، والخط الإلهي ولذا فهو استند إلى: 1- ان لا يبايع الحاكم الأموي المنحرف والطاغي يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، كما طلب منه الأخير، فما ورد عنه في هذا الشأن إنه -أي الحسين(ع) - قال: (ومثلي لا يبايع مثله)(7) بل إن المنزلة المقدسة التي منح الله تعلى لرسوله وآل بيته من الأئمة الأطهار، والحسين(ع) مخصوص بها على لسان جده(ص) ، وكذلك رفعة الجاه والسمو، تأبى أن يطأطئ(ع) رأسه لطاغية فاجر، ويعطي بيعته لحاكم جائر كيزيد الأموي، ذلك أن الحسين إمام وحر وعزيز، ومن هذا الحال جاء قول الشاعر في حقه وموقفه(ع) : فأبى أن يــعيش إلا عــــزيزاً أو تجلى الحتوفُ وهو صريع2- إن حركة الحسين(ع) تعني الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، وتكليفه إياه بها، ذلك الأمر بالمعروف لدينه أما بالإلهام، أو بالرواية عن جده النبي الأكرم محمد(ص) ، وهذا الامتثال الذي وصل إلى مستوى التضحية بثمن الدم والفداء بالنفس لأجل العقيدة والرسالة، وتجسد بنهضته وحركته الجهادية، أوجب هداية الناس وتعريفهم أهمية الدين ولزوم التضحية له عند الحاجة بالنفس والأهل والبنين والمال، وان طاعة الله لازمة على كل حال. 3- فضح بني أمية ومن على شاكلتهم من يومه إلى يوم القيامة، والتدليل بأنهم ليسوا فقط ظالمين لأنفسهم بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، بل ولا ظالمين للناس في حكمهم غير العادل فحسب، وإنما الأمر أكثر من ذلك، فأنهم على استعداد أن يقتلوا الرجال الشيوخ منهم أو الشباب والأطفال، وأن يسبوا الناس ويهتكوا الأعراض، وان يقتلوا خير الخلق الموجودين على وجه الأرض من أجل التمسك بالحكم والكرسي والتعلق بهذه الدنيا وشهواتها الفانية. 4- تحقيق عملية الإصلاح الفعلية والفعالة في الأمة المسلمة بمختلف أوساطها وقطاعاتها، على المدى الاستراتيجي وليس على المدى المباشر في حياته(ع) حصراً، لأنه كان على يقين بأن الأمر لا يتحقق في المدى الآني العاجل. 5- الاستجابة لأهل العراق (الكوفة) حين طلبوا منه(ع) التسريع بالقدوم عليهم، وأخذ البيعة منهم وممارسة الحكم بينهم ، وقالوا: (وإنما تقدم على جند لك مجندة)(8)، فأجابهم بالموافقة على المسير إليهم، إلا انه لم يصل إلى الكوفة، حيث اجتمع عليه الجيش المعادي في كربلاء، وتم الإجهاز على حركته هناك، وقد كانت هذه الاستجابة من جانبه(ع) لأهل الكوفة، أمراً لابد منه لسد الألسن وقطع المعاذير من ناحية، والتكلم مع الناس على قدر عقولهم ونسب رؤاهم للأمور الجارية، والحسين أراد من استجابته هذه، بل من عموم حركته التضحوية، أن يربط الناس بالهدف، موضحاً أن لا مهادنة للإسلام من أول وجوده مع الباطل، وهذا المفهوم طرح مع أول بعثة النبي(ص) فهو قال: (من رأى منكم سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهده، يعمل في عباده بالإثم والعدوان، ولم يغير عليه بقول، أو بفعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله). 6- إعطاء الأمثولة للدين الحنيف القويم، وإنه يستحق هذا المقدار العظيم من التضحية والفداء في سبيل الله، وفي سبيل إقامة الأحكام الإسلامية والشعائر الدينية، وهذا الشعور إنما يرتبط بأمر الله مباشرة، وهو الذي يستحق الفداء في الحقيقة، وإن كان في غنى عن العالمين، ولذا ورد في تفسير قوله تعالى: ( وفديناه بذبح عظيم) ، يعني الحسين(ع) ، بل إن وقع الفداء في سبيل الله، وفي طريق توحيد الله وطاعته، هو نفس الطريق الذي ضحى من اجله النبي إسماعيل(ع) ، وبُعث فيه الأنبياء وانزلت الكتب السماوية وحصل ما حصل. 7- إن الحسين(ع) قصد من عمله التضحوي وثورته العظيمة، أن يكونا من الأسباب والشعائر الدينية التي تستوجب هداية الكثير من أجيال الأمة المسلمة، بل وعموم بني البشر، وضرورة مسايرة جادة الحق والصواب، وتجنب ورفض الباطل بكل أشكاله وصوره ورموزه، في أي وقت كان او مكان، ويمكن أن يُستدل على ذلك بما ورد عن جده النبي(ص) بمضمون قوله: (إن لولدي الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تخمد إلى يوم القيامة)(9) وهذه الحرارة أمر وجداني قائم فعلاً في أعماق أحاسيس الناس ويتحسس بها كل فرد محب للحسين في قلبه، وهي التي تدفعه إلى الجهد والعطاء، واسترخاص النفس في هذا الطريق العظيم، وهكذا شرح وكشف أبعادها الإمام الحسين(ع) للأمة وعلى أساس هدم هذه النعرات والنزعات المريضة وتقويم الوضع العام للمجتمع بنى(ع) حركته الثورية وحدد معالمها، في توضيح هذا العزم والمعنى، ولأجل معالجة هذه الظواهر السلبية الضارة ومحاربة القائمين بها جاءت أقواله(ع) : أنا الحسين بــــن علي آليتُ أن لا أنـــثــــنـــيأحمي عيالات أبـــــــي امضي على دين النبيلقد كان الموت من أجل الحق... الموت من أجل الله هو سر عطاء الحسين الكثير، فالثورة ليست هي الهدف المجرد، فتجربة طف كربلاء تجربة رائدة، جاءت للكشف عن الأهداف التي يجب من أجلها إصطناع الثورة، وهي في فكر الإمام الحسين(ع) ليست من أجل السيطرة أو السلطة، كما يحلو لبعض قاصري النظر والفكر تصوريها أو الادعاء بشأنها، وإنما صنع الحسين الثورة من أجل إسقاط السيطرة وحكم الظلم والباطل، ومن أجل إعطاء الضمير الإنساني مزيداً من الوعي والعقل والأيمان، وحقا كانت ثورته(ع) ثورة العدل والحرية،والانتصار على اليأس، وانتفاضة الأحرار ضد الاستعباد، يقول قسيس مسيحي: (لو كان الحسين لنا، لرفعنا له في كل بلد بيرقاً، ولنصبنا له في كل قرية منبراً، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين) وحقاً إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة. |
1- السجدة/34. 2- القصص/83. 3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج8/ص111. 4- تاريخ اليعقوبي/ 3/106. 5- فتوح البلدان/ص437. 6-نهج البلاغة (طبع دار الأندلس-بيروت) ج1/ص151. 7- مثير الأحزان لابن نما/ ص24. 8- البحار للمجلسي/ ص44. 9- مستدرك الوسائل للنوري/ج،2 ص/217. |