اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية

مجلة النبأ      العدد 44        محرم  1421       نيسان 2000

 

العنف

و

اللاعنف

نظرة تاريخية

ناصر حسين الاسدي

( ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، ولا يلقاها إلا الذين صبروا، ولا يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .

إن هذا الكون الفسيح الذي خلقه البارئ المتعال، بنظامه، ودقته مما يحيّر الألباب، وهذا الكوكب الذي نتحرك على سطحه بجماله وروعته وكل ما فيه، إنما خُلق للإنسان، لسعادته، ولمسيرته المتصاعدة. ( وخلق لكم ما في الأرض جميعاً... ) .

وجعل الله تعالى هذا (الإنسان) خليفة في الأرض ( اني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اني اعلم ما لا تعلمون) .

فالكون كله للإنسان، والإنسان خليفة الله فيه. ثم حُمّل مسؤولية عظيمة.. هي مسؤولية (الأمانة) لأداء دور الخلافة الربانية: ( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض فابين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان) .

فالإنسان كائن عظيم، ومثقل بأمانة عظيمة،وهي خلافة الله ذلك بعد ان سلّحه رب العزة بأعظم سلاح هو (العقل) الذي به يستطيع البلوغ للقمة.. على كل صعيد، وبعث إليه السفراء والرسل ليرشدوه إلى الصراط المستقيم.. صراط التقدم والعلو وبدون ذلك.. يهوي إلى الحضيض ليتحول إلى كائن وضيع،.. إذن كيف يجب أن يكون أسلوبه وتعامله وتحركه الاجتماعي والسياسي والإداري.. وما هي آلياته الإدارية في ميادين هذه الحياة الفسيحة؟؟

هل يعتمد الكلمة الخشنة، وعدم احترام الرأي الآخر، والكبرياء عليه و... أم يعتمد اللين في الكلام، والمعاملة بالتي هي احسن، والاحترام المتبادل، والحوار وتحمل مجاوزات الخصم الجاهل و...؟

وبكلمة: هل يعتمد الخشونة أصلا تحت عنوان (الحزم والجزم والجدية) أو الأساليب السلمية واللينة الطيبة؟

إن الأساليب (الودية والإنسانية) في الإدارة والسياسة هي في الواقع مضافاً إلى كونها (خلقا ساميا) فهي ذكاء في الأداء وكسب لصوت وعواطف الطرف الآخر، وهي الأقرب إلى مبادئ الدين الحنيف بل أن أساليب اللا احترام، والإهمال، وعدم الاعتراف بالرأي الآخر، ليست بعيدة عن جوهر الدين وقيم العقل فقط، بل تنقض الغرض وتؤدي إلى نتيجة معكوسة وربما التمرد ، على من يسلك أسلوب العنف بينما العكس صحيح في حالة انتهاج اللاعنف.

وليس أطغى في التاريخ من فرعون غطرسة وكبرياء، وادعاء الربوبية العليا، مع كل ذلك أمر الله تعالى نبيه موسى (ع) وأخاه هارون أن يعامله بأسمى الأساليب الإنسانية في الكلام الطيب حيث قال لهما: ( قولا له قولاً ليناً، لعله يذكر أو يخشى) .

والطرف الآخر المدجج بشتى أسلحة القوة والقدرة، قد لا يتحمل الكلام اللين المنطلق من حنجرة رجال الإصلاح، الا أن احتمال طغيانه وثورته يكون اقل كثيراً مما لو جوبه بأساليب الشدة والحدة.. ثم أن الحجة عليه أتم فيما لو شهر السيف بوجه الكلمة، خصوصاً لو تطيبت هذه الكلمة الرسالية الشجاعة بعطر المودة والاحترام وحُفّت بأزهار اللين، وقدمت إلى الطرف الآخر على طبق من فضة...

نموذجان مشعان من التاريخ

(1)

هنالك من بعيد.. تشع أنوار خضراء من أعماق التاريخ تنطلق من مواقف فرسان الحق وعباقرة الرسالة.. وبالذات من ممارسات المعلم الأول: (رسول الله (ص) ) واهل بيته الأطهار(عليهم السلام)..

- رجل من حِمْيَرْ(1) انتدبته قبيلته الحاكمة في اليمن لاغتيال رسول الله (ص) .. دخل مكة. توجه إلى المسجد الحرام، وقد دسّ خنجره المسموم تحت ردائه الحضرمي، رأى رجلا أنيقا، يتضوع منه الطيب ويزينه الجمال والوقار، انجذب إليه وبادره قائلاً: مرحى يا أخا العرب.

- السلام عليك..

- شاعت أخبار سيئة في اليمن، مفادها أن رجلاً من قريش انتهك حرمة الآلهة، وسفه الأحلام، وتحدى كل محاور القوة العربية وغيرها، اصحيح هذا؟

- وما الذي تريده منه؟

- أريد تصفيته لخلاص العرب من شره!

- هيا معي لأدلّك عليه (أخذه إلى المنزل، أطعمه فاشبعه، وسقاه فارواه، ثم قال له: الك حاجة اقضيها لك؟

- لك ألف شكر..

ثم قال له: (أنا محمد رسول الله، بُعثت إلى البشرية برسالة الإسلام، رسالة العدل الاجتماعي، والإنسانية، والمحبة، والخلق الكريم، أتريد قتلي؟)

اسقط في يد الحميري الذي قطع مسافات شاسعة على فرسه الذنوب لتنفيذ (عملية ثورية عظيمة!).. ماذا فعل؟ عرق جبينه، وتلعثم لسانه.. ثم قال: اشهد أن لا اله إلا الله وانك رسول الله (ص) وعاد إلى وطنه مبشراً برسالة الإسلام والإنسانية، بعد أن تعلم بعض الأوليات البسيطة من مبادئ الدين الجديد..

(2)

وتاريخه (ص) مفعم بمثل هذه المواقف الرسالية الرائعة منها عفوه عن أقطاب المؤامرات في عاصمة الشرك مكة بعد أن ظفر بهم وهو القائد الفاتح وهم مجرمو الحروب خلال (23) عاماً سألهم: ماذا ترون اني صانع بكم؟

أجابوه: (أخ كريم وابن أخ كريم)..

فلم يحتج عليهم قائلا: لو كنت أخا كريماً إذن لماذا هذا السيل من الدماء الذي سقيتم الأرض به من أوداج كبار أصحابي والتابعين لحركتي، وانه (ص) ليس فقط لم ينتقم منهم، بل لم يخطر بباله أن يتعامل معهم بأساليب العنف الثوري (!) بل قال لهم بملء فمه كلمته المشرقة الخالدة: (اذهبوا فانتم الطلقاء).

اسقط في أيديهم، وود الواحد منهم أن تنشق الأرض وتبتلعه لذلك أعلنوا إسلامهم، وتوقفت مؤامراتهم إلى حين.. خضعوا بالكامل لوالي رسول الله (ص) على مكة الشاب (عتاب ابن أسيد) دون أن تتمتع حكومته بأية أجهزة مخابرات، أو قمع وكم الأفواه، ودون أن يواجه متاعب كثيرة في إدارة المجتمع المكي المستغرق في الجاهلية، الجديد العهد بالإسلام..

واكثر من ذلك.. لقد انضم المكيون (المتآمرون طوال عمرهم ضد الرسالة) إلى جبهة الرسول (ص) في حرب حنين التي أعقبت فتح مكة، وجنّدوا جل طاقاتهم العسكرية لصالح خط الرسالة...

ولا ننسى أن الرسول (ص) قبل فتح بلادهم، قد فتح قلوبهم، وذلك حين بعث إليهم بهدايا كبيرة، قدرها التاريخ باثنين وعشرين قطة ذهب وفضة، وهي مجموع أو اكثر الغنائم التي غنمها المسلمون المجاهدون من معارك خيبر التي قادها سيف الإسلام البتار وبطله المقدام أمير المؤمنين علي (ع) ..

1 ـ ينقل الطبري في تاريخه ج3/ص/تفاصيل هذه القضية.

 

 

اكتب لنا

اعداد سابقة

العدد 44

الصفحة الرئيسية