نصوص ونظرات |
مجتبى العلوي |
في تعريفه للإنسان في عصر الرأسمالية يقول هوبز: (الإنسان ذئب للإنسان)(1). انتهت الألفية الثانية وموضوع الحرية لا زال يشكل جدل العصر الحاضر بعد ما شكل جدلا واسعا في العصور السابقة وستشكل نفس الجدل إن لم يكن أكبر في عصور لاحقة.. فمنذ وجود الإنسان على الأرض وظهور المجتمعات البشرية وما يحدث داخلها من صراعات ونزاعات تصادر حريات الآخرين على حساب حريات أخرى وتنشئ أنظمة عديدة للرق والعبودية يصبح الإنسان فيها هو السلعة الوحيدة بخسة الثمن حيث تهدر كرامته وإنسانيته لأجل رغيف من الخبز يسكت به جوعه أو قطعة رثة من الثياب يستر بها عريه.. منذ وجود الإنسان ومفردات هذه الكلمة البراقة تأخذ حيزاً كبيراً ومساحات شاسعة من تفكير وقلق العقل البشري واهتماماته سواءً على مستوى التنظير القانوني أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي إلى آخر المجالات التي تدخلها هذه المفردة في عمليات التفاعل والتواصل الإنساني بين الفرد كذات واعية وبين المجتمع وعياً وممارسة جماعية.. يقول لوركا شاعر إسبانيا مخاطباً حبيبته والتي هي رمز لبلاده التي رزحت لسنوات طوال تحت حكم الدكتاتورية: ما الإنسان دون حرية يا ماريانا.. قولي لي.. كيف أستطيع أن أحبك إذا لم أكن حراً؟ كيف أهبك قلبي إذا لم يكن ملكي؟ نجد في تلك المقطوعة معادلة واضحة الأبعاد ـ فبقدر ما تكون حراً تستطيع أن تحب وأن تمنح مشاعر الود للآخرين.. وبقدر ما تكون مستلباً.. ومستباحاً تجد أنك منكفئ على ذاتك تفكر وتستغرق فيها ولا تستطيع أن تمنح شيئاً للذات الأخرى سواء كانت إنساناً أو وطناً..
|
|
ما هي الحرية.. |
|
في اللغة العربية نجد أن تاريخ هذا المصطلح ليس واضحاً بما فيه الكفاية رغم أنه بمعناه المجرد كان شائعاً في استعمال العرب قبل الإسلام.. كانت كلمة الحر تعني: النبيل(2)، وقد كان استعمال حر بمعنى (شريف حسن) شائع الاستعمال في اللغة العربية في بواكيرها.. وفي الأدب العربي شاع استخدام الكلمة مصطلحاً وصفياً يتضمن قيماً سائدة مثل: (حر الكلام) تعني كلاماً بالغ الفصاحة(3) .. وقد تعني كلمة حر أحياناً كل ما تتضمنه كلمة (سيد).. وتأكيداً لهذا البعد الأخلاقي لكلمة (حر) نجد أنها تستعمل أحياناً جنباً إلى جنب مع كلمة (كريم) أو ما شابهها فـ(الحر الكريم) هو السيد الحقيقي.. ويعود اصل هذا الاستخدام لكلمة (حر) إلى ذلك الميل الإنساني العام إلى نسبة كل الصفات القبيحة للرقيق وقدره السيئ في أن يحظى الإنسان الحر ـ قانوناً ـ بنسبة كل الصفات الطيبة إليه.. وهنا حين تظهر كلمة (حر) فإن المقابل الطبيعي لها هو كلمة (عبد) وحتى في الموت فالحر لا يرضى إلا بموت يليق بمكانته كما في قول مسلم بن عقيل الذي رفض الاستسلام دون قتال وأنشد: أقسمت لا أقتل إلا حراً وإن رأيت الموت شيئاً نكرا(4)فالخيار هنا ليس بين الحرية والموت ولكنه الخيار بين موت كريم هو موت الأحرار وآخر وضيع هو موت العبيد.. أما المقابل العبري للكلمة فهو قريب من المقابل العربي لها وكان يعني (النبل) و(السؤدد) في أوساط الطبقات العليا في مجتمع ما(5).. وأما التعريفات الصوفية للحرية فنستطيع أن نلاحظها في كتاب التعريفات للجرجاني حيث يعرفها كما يلي: (الحرية في اصطلاح أهل الحقيقة الخروج عن رق الكائنات وقطع جميع العلائق والأغيار وهي على مراتب: حرية العامة عن رق الشهوات، وحرية الخاصة عن رق المرادات لفناء إرادتهم في إرادة الحق، وحرية خاصة الخاصة عن رق الرسوم والآثار لانمحاقهم في تجلي نور الأنوار)(6). والحرية ـ كما في موسوعة السياسة ـ مفهوم سياسي واقتصادي وفلسفي وأخلاقي عام ومجرد ذو مدلولات متعددة ومتشعبة ويمكن تمييز ثلاثة مستويات مختلفة في تعريف الحرية.. المستوى الأول: هو المستوى اللغوي والعادي والمتعارف عليه والذي يعني انعدام القيود القمعية أو الزجرية، ويرتبط هذا المستوى بشبكة معقدة من المفاهيم مثل المسؤولية القدرة على اتخاذ القرار، القدرة على تنفيذ مشروع أو هدف الإرادة.. المستوى الثاني: يقع في نطاق التفكير الأخلاقي السياسي وهي في هذا المستوى ذلك الشيء الذي يجب أن يكون ولم يتحقق بعد.. ويرتبط هذا المستوى بشبكة أخرى من المفاهيم مثل القانون، الشريعة، والقاعدة والمؤسسة والسلطة السياسية. المستوى الثالث: هو مستوى الفلسفة الخالصة حيث يطرح السؤال التالي : كيف ينبغي أن يكون تكوين الواقع في كليته حتى يصبح من الممكن أن يشتمل على شيء ما يشبه الحرية؟ إن هذا السؤال هو سؤال عن ماهية الحرية وجوهرها يربط وجودها بمجموعة من المفاهيم والتعابير مثل السببية، الحتمية، الاحتمال، الإمكان، تتعلق كلها بصيغ الوجود وطرقه.. (7) هذا الوجود البشري لا يتقوم إلا بامتلاك المعرفة التي هي وحدها الموصلة إلى قيم الخير وابتعاداً عن الشر وبالتالي الوصول إلى الحرية المنشودة. (ليس من أحد شريراً بمحض إرادته ذلك أن كل شيء لدى الإنسان يأتي من نقص في المعرفة، المعرفة تحرر وتوصل إلى الحقيقة والحقيقة سيدة مطلقة تأبى لمن وصل إليها أن يعود إلى عبودية الأهواء والنزوات)(8) كما يقول سقراط.. الحرية هنا إذن عملية انعتاق من الجسد وتحرر من كل ما يشدنا نحو ارتكاب الشر وهي في النهاية التزام دائم بالخير.. عند ديكارت فإن الحرية الحقيقية ليست قدرة التردد بين اختيار شيء ونقيضه بل هي الإرادة التي استعانت بالمعرفة واختارت الحق أي أنها الإرادة التي تتحكم فيها البواعث والحوافز الخيرة، ومن هنا فإن المعرفة الطبيعية والنعمة الإلهية تزيدان الحرية ولا تنقصانها تقويانها ولا تضعفانها.. كلما ازدادت معرفتي للحق والخير كلما ازدادت حريتي.. الحرية إذن تمر عبر علمية التحرر من الخطأ وهي في نهاية المطاف مع الخير المطلق(9). أما التعريف الفلسفي والذي يقع ضمن التقليد الأخلاقي.. ووفقاً لهذا الفيلسوف فإن حرية النفس تعني أن النفس إما ألا تكون تائقة بغريزتها إلى الأمور البدنية وإما أن تكون تائقة، فالتي تكون تائقة هي الحرية وإنما سمينا هذه الحالة بالحرية لأن الحرية في اللغة تقال على ما يقابل العبودية ومعلوم أن الشهوات شيء مستعبد.. وأما التائق إلى الأمور البدنية فإنه سواء تركها أو لم يتركها فإنه لا يكون حراً بل التائق التارك أسوأ حالاً من التائق الواجد في الحال، من حيث أن التوقان مع الحرمان قد يشغل النفس عن اكتساب الفضائل، وإن كان أحسن حالاً منه في المآل لأن عدم وجدانه لها في الحال واشتغاله بغيرها ربما يزيل عنها ذلك التوقان في ثاني الحال.. فظهر مما قلنا: أن الحرية عفة غريزية للنفس لا التي تكون بالتعويد والتعليم وإن كانت تلك أيضاً فاضلة وهي معنى قول أرسطو: (الحرية ملكة نفسانية حارسة للنفس حراسة جوهرية لا صناعية..). وبالجملة فكلما كانت علاقة النفس بالبدن أضعف وعلاقتها العقلية أقوى كلما كانت أكثر حرية ومن كان بالعكس كان بالعكس والى هذا أشار أفلاطون بقوله: (الأنفس المرذولة في أفق الطبيعة وظلها والأنفس الفاضلة في أفق العقل وضوئه)(10). |
|
ما الذي يمكن أن نتستشفه من كل تلك التعريفات للحرية؟ |
|
الإنسان باعتباره كائناً اجتماعياً تحيط به جملة من الضوابط الأخلاقية كونه فرداً في مجتمع متعدد الأفراد يراعي مسألة الأخلاق في تعامله وسلوكه.. فهو كلما كان ملتزماً بتلك الضوابط والقواعد الأخلاقية التي أرساها المجتمع كان حراً وبالتالي فإن تلك الحرية المتحصلة عن هذا الطريق لا تتجاوز حرية الآخرين أو محاولة تهميشها في سبيل الاندفاع اللامسؤول لتحقيق حريته.. وعودة لمقولة هوبز الذئبية والتي كانت في بداية السطور نلمح بوضوح تلك الصلة الحميمة بين الحرية والأخلاق أو قل نلمح المفهوم الأخلاقي للحرية الذي عالجته جميع الدراسات الفكرية ونادت به لتكون الحرية منهجاً وسلوكاً واقعياً ينسجم مع حركة الذات وتفاعلها مع حركة المجموع.. فالحرية الأخلاقية تعني رغبة الإنسان في أن يكون طيباً.. وهي بتعبير آخر: (خدمة الإنسان للخير وإنهماكه فيه وبقدر خدمته له تكون حريته لأن من لم يتمسك بالخير فليس بحر)(11). وتعني أيضاً ضبط النفس إذ (لا يعد حراً من لا يتمكن من ضبط نفسه)(12). فالطمع أحد الوجوه للعبودية التي هي نقيض الحرية.. يقول أمير المؤمنين… : (لا يسترقنك الطمع وقد جعلك الله حراً)(13)، فالاسترقاق هنا يوازي الحرية ويعادلها إذا تمكن الطمع من النفس البشرية. والحرية تساوي الحب والمودة والسلام.. وهي حرية الأسوياء والأتقياء في عالم ينضح بالكراهية والحقد والبغضاء.. وهي صفاء القلب ووضوحه وصدقه وليس مخاتلة أو مداورة أو رياء فالحرية على حد تعبير أبي تراب… : (منزهة من الغل والمكر)(14). إن هذا المسار الأخلاقي للحرية إذا تمكن من النفس شرط ضروري لسيطرة الإنسان على غيره، وهي سيطرة التكافؤ والتماثل لا سيطرة التناقض والتنافر.. إن الحرية تعطي الإنسان القدرة على تجريد نفسه من قيود بيئته الطبيعية وعاداته الرتيبة، وبذلك تجعل فيه إنساناً حكيماً حقاً.. إنما يمتلك الحرية الحقيقية ذلك الذي يمتلك الذكاء والحقيقة (فزيادة كلمة في مخاطبة الحر أحب إليه من زيادة جزيلة في أجرته، وإحسانك إلى الحر يحركه على المكافأة واحسانك إلـــى الخسيـــس يحركه عــــلى معاودة المسألة)(15) وهو مأخوذ وإن بتعبير آخر من قول الإمام علي… : (من قضى ما أسلف من الإحسان فهو كامل الحرية)(16). فالحرية هي إذن التحرر من الشر بجميع مفرداته والاندفاع نحو الخير والحب، ومن العوامل التي تعيق الإنسان عن بلوغ الهدف الحقيقي لإنسانيته.. إن تجنب الشرور التي ترتكبها الكائنات البشرية عادة هو الحرية الحقيقية (فعسير على الإنسان أن يكون حراً وهو ينصاع للأفعال القبيحة الجارية مجرى العادة)(17). إن التحرر من البدائية والبلاهة والجهل يعد النفس للحرية الحقيقية (وبسلوك هذه السبل تصير حرة معتوقة من رق الجهالة وعبودية الحداثة)(18)، أو كقول سقراط:)الحرية تعني أن امرءاً ما تحرر من الجهل وانه لا يفعل إلا ما يتطلبه العقل)(19). هل نستطيع لملمة ما تناثر من موضوعنا على أسطع الأوراق وسطورها الزرقاء؟ ومما تناثر فيما سبق نخلص إلى النتيجة التالية: الحرية.. عنينا بها الحب والمودة والصدق والتواضع والبساطة وضبط النفس أمام الأهواء والشهوات.. وهي المعرفة والحكمة واتزان العقل في تعاطيه مع ما يصادفنا في طرقات الحياة.. ونسأل.. كيف نظر الإسلام بتلك المجموعة من القيم والتشريعات الإلهية إلى الحرية.. سواء على مستوى النظرية أو الممارسة؟ لقد رأى الإسلام أن (الأصل في الإنسان الحرية في قبال الإنسان الآخر.. إذ لا وجه لتسلط الإنسان على إنسان آخر وهو مثله، كما أن الأصل في الإنسان العبودية لله سبحانه وتعالى)(20). في هذه الفقرة.. الحرية هي حق طبيعي للإنسان وليست منة من أحد ما سواءً كان فرداً أو مجموعة.. فهي في فطرته توجد معه منذ لحظة الولادة وحتى لحظة الموت.. ولا أحد يقدر على سلبها إياه إلا الله سبحانه وتعالى لأنه الموجد والمانح لها.. وقد طبق الرسول الكريم(ص) في أول حكومة إسلامية ذلك المبدأ في السلم والحرب وفي جميع تعاملاتها مع الآخرين مسلمين كانوا أو مشركين وكفاراً.. وكذلك أمير المؤمنين… في حكومته القصيرة زمنياً الطويلة بما قدمته من نماذج في التعامل يحتذى بها.. وليس بخاف على أحد موقفه مع الخوارج الذين رفعوا السيف بوجهه وهو خليفة المسلمين إذ قال لهم (لكم عليّ ثلاث: ألا أمنعكم من مساجد الله تذكرون الله فيها وأن لا أمنعكم أرزاقكم وأن لا أبدأكم بقتال). إلا أن هذا المفهوم الإسلامي الشامل والواسع لمبدأ الحرية قد تعرض لانتكاسات عديدة على مستوى التطبيق والممارسة.. لابتعاد الإنسان عن جادة الصواب واندفاعه وراء الشهوات والأهواء.. مما جعل أحد المفكرين الفرنسيين يخلص إلى القول في دراساته حول الحرية القانونية وضماناتها في المنظومة السياسية والاجتماعية للحضارة الإسلامية (إن الحرية في الدولة الإسلامية النموذجية لم تكن الحرية التي يموت الإنسان ـ ربما ـ من أجلها، والتي تعطي للحياة قيمتها الحقيقية والتي تتناول احترام الإنسان ككائن مخلوق على صورة الله.. إن معنى الحرية الحقيقي في الإسلام يوجد في العلاقة بين الإنسان والله)(21) . وهذا المفهوم للحرية هو المفهوم الميتافيزيقي الذي تبناه متصوفة الإسلام في جميع أقوالهم وممارساتهم حتى باتت تغيب عن أنظارنا الصورة الحقيقية لهذا المفهوم الذي كرسه الإسلام بجميع تشريعاته.. ووصلنا إلى الألفية الثالثة ونحن ننظر إلى تجارب الآخرين نحاول استعارتها.. والذي نأمل منه أن تكون هذه الكتابات وغيرها بادرة خير لعودة الحرية الواقعية لأبناء أمتنا الإسلامية ليعيشوا في أوطانهم عيش الأحرار الأبرار وما ذلك ببعيد. |
|
الهوامش |
|
(1) نحو حرب دينية: روجيه غارودي ص14. (2) لسان العرب: لابن منظور، ح ر ر. (3) يتيمة الدهر: الثعالبي، ج4 ص248. (4) مقاتل الطالبيين: الأصفهاني، ص 104. (5) العهد القديم: سفر الملوك الأول. (6) التعريفات: الجرجاني، ص90. (7) موسوعة السياسة: د. عبد الوهاب الكيالي، ج2 ص244. (8) الموسوعة الفلسفية العربية: د.معن زيادة، ص266. (9) المصدر السابق. (10) المباحث الشرقية: الرازي، ج2 ص413. (11) محاسن الكلم: المبشر بن فاتك، ص113. (12) المصدر السابق: ص67. (13) غرر الكلم. (14) المصدر السابق. (15) محاسن الكلم: المبشر بن فاتك ص128. (16) غرر الكلم. (17) محاسن الكلم: ص64. (18) المصدر السابق: ص12. (19) لباب الأدب: أسامة بن منقذ ص434. (20) الفقه السياسة، السيد الشيرازي مسألة 44 ص454. (21) مفهوم الحرية في الإسلام: فرانز روزنتال ص102. |