|
القانون.. بين ضرورتي الوجود والعمومية |
حيدر البصري |
لا شك أن المجتمع الذي
تخلو ربوعه من ظلال القانون
سيكون بمثابة غابة يأكل القانون أمر لابد منه،
و لا يتسنى لمجتمـــع من
المجتمعات مهما كانـــت درجة
ثقافته ان يتملص نهائيا من وضع
قواعد يمكنه من خلالها تسيير
أموره. بناءاً على ما تقدم من
حتمية وجود القانون في
المجتمعات نعرف ان هناك أسباباً
لنشأة القانون، و لنــــا أن
نتساءل مـــا هي تلك الأسباب أو
بعبارة أوضح لماذا بات وجود
القانون ضرورة حتمية في المجتمع
البشري؟ |
ضرورة وجود القانون |
إن ضرورة وجود القانون
هو أمر لا يختلف فيه اثنان من
أبناء الجنس البشري، إذ ان وجود
القانون أمر يتناسب مع سلوكيات
البشر في إدارة حياتهم. بل وجود
القانون يتجاوز حدود المجتمعات
البشرية ليصل إلى عالم الحيوان،
فها هي ممالك الحيوانات بكافة
أنواعها تراها قد جبلت و فطرت
على الحياة المقننة في حين لم
تمتلك تلك الجوهرة الثمينة التي
يمكنها من خلالها السمو و
الارتقاء ألا و هي جوهرة العقل؛
فكيف بذلك الكائن الذي قد ألقيت
بين يديه هذه الجوهرة فهو لم يكن
مفطوراً على حب الحياة المنظمة
المقننة فحسب، بل كان بمقتضى
تملكه للعقل قادرا على سن
القوانين التي تنظم حياته. فالقانون إذن هو مما
تسالمت على ضرورته الكائنات
الحية غير الإنسان فضلاً عنه. |
وظيفة القانون |
إن معرفة الوظيفة التي
يتكفل بأدائها القانون أمر على
غاية من الأهمية، إذ يترتب عليه
معرفة الأسباب التي من اجلها نشأ
القانون. ان هذه المسألة – معرفة
وظيفة القانون – تختلف في
الاطروحات الوضعية عنها في
الإلهية. ففي الاطروحات الوضعية
نجد ان وظيفة القانون الأساسية و
غايته هي تنظيم سلوك الإنسان مع
غيره من أبناء نوعه. فالقانون
حسب تعريف تلك الاطروحات له هو: مجموعة القواعد العامة
التي تنظم سلوك الإنسان في
علاقته بغيره. و يقصد بهذا الغير –
طبعا – غيره من بني البشر حسب. أما في الأطروحة
الإلهية فالأمر مختلف، فوظيفة
القانون أو التشريع هي أوسع منها
في الاطروحات البشرية فالقانون
هنا هو مجموعة الأحكام –
الفرعية – التي تنظم سلوك
الإنسان في علاقته مع ربه و مع
نفسه و مع غيره. |
حاجة الإنسان إلى القانون |
تشكل معرفة حاجة
الإنسان إلى القانون – بالإضافة
إلى وظيفة القانون التي تقدم
الحديث عنها في الفترة السابقة –
ركيزة مهمة في التوصل إلى معرفة
الأسباب التي من أجلها نشأ
القانون و هو أحد جزئي الموضوع
الذي من أجله عقد المقال. لا تفترق هذه المسألة
عن سابقتها في كون الاطروحات
الوضعية تختلف في نظرتها إليها
عن الاطروحات الإلهية. فالاطروحات الوضعية
تعزي احتياج الإنسان إلى
القانون إلى كونه مدني بالطبع،
إذ ، كون الإنسان مدني بالطبع –أي
ميله إلى الحياة الاجتماعية و
نفوره من الحياة الفردية – يفرض
عليه إنشاء علاقات مع الآخرين، و
مع تشعب هذه العلاقات و اصطدام
مصالح البعض بمصالح البعض
الآخر، تصبح الحاجة ملحة إلى
وسيلة يمكن من خلالها تنظيم هذه
العلاقات. ان الوضعيين اعتبروا
حاجة الإنسان للقانون منطلقة من
ضرورة تنظيم سلوك الفرد في
علاقته مع غيره كون الإنسان
يندفع في جميع تحركاته بدافع
مصالحه الشخصية فيلزم من هذا
انتفاء الحاجة إلى القانون، و
ذلك في حالة وصول المجتمع إلى
المرحلة المثالية التي يفضل
الفرد فيها مصلحة المجتمع على
مصالحه الشخصية. و هذا ما صرح به بعض
الفلاسفة في قولهم: (انه لو كان
المجتمع مثالياً مكوناً من
الفلاسفة لم يحتج إلى القانون) و
لكن رأيهم هذا لم يكن تاماً،
فانه لو فرضنا بان كل اولئك
الفلاسفة كانوا في أعلى درجات
العدالة و النزاهة، أفليس
اختلاف الآراء يوجب بينهم
التخاصم و التدافع؟ أو ليس ذلك
بحاجة إلى قانون يقرره من هو
فوقهم - إذا اعتقدوا به – أو
يقرره أكثريتهم، إذا كانوا يرون
ذلك، أو حسب القرعة أو غير ذلك..؟ إذن فالقانون ضروري في
حياة المجتمع مهما كانت ثقافة
ذلك المجتمع و سواء كان بدائياً
ام متوسطاً ام مثالياً في ثقافته
و أخلاقه، فهو لا غنى له في كل
الأحوال عن القانون. هذه رؤية الوضعيين في
حاجة الإنسان إلى القانون، أما
الالهيون فهم ينظرون إلى القضية
من زاوية أخرى. فهم يرون بان حاجة
الإنسان إلى القانون منبعثة من
حوائج فردية و اجتماعية في مختلف
الجوانب و ليس كونه مدنياً
بطبيعته – كما تقدم – و ذلك
بدليل انه لو عاش في غابة أو كهف
بمفرده لاحتاج إلى قانون ينظم
سلوكه مع نفسه و مع خالقه و مع
الكون بصورة عامة. |
منشأة ضرورة وجود القانون |
بعد معرفة النقطتين
السابقتين أعني بهما وظيفة
القانون، و حاجة الإنسان إليه
يمكننا التعرف على منشأ وجود
القانون و ضرورته. و التي تختلف
في القانون الوضعي عنها في
القانون الإلهي و ذلك تبعاً
لاختلاف وظيفة كل من القانونين. فمنشأ حدوث القانون
الوضعي هو ضرورة حل الاختلافات
التي تحصل نتيجة التعارض بين
مصالح الناس، و هذا هو الأمر
المهم في المقام فحسب، إذ لا
علاقة أخرى تستحق التنظيم غير
هذه العلاقة. إذن فمنشأ حدوث القانون
هو احتياجات الإنسان لذلك، و هذا
ما يتفق القانون الإلهي فيه مع
القانون الوضعي، و لا خلاف
بينهما من هذه الناحية (فلا فرق
بين الأديان السابقة، و دين
الإسلام، و بين القوانين
المستندة إلى مختلف الفلسفات في انهم يريدون خير الإنسان
– سواء
كان الخير الواقعي أو المزعوم –
و البحث و التنقيب هو الوسيلة
الوحيدة لتمييز الصالح من غير
الصالح). فالخلاف هنا بين كل من
القانون الإلهي و الوضعي ليس في
الكبرى و إنما في الصغرى(1) و التطبيق. فالعامل المادي من
العلاقات الإنسانية فقط هو منشأ
حدوث القانون الوضعي، أما
القانون الإلهي فمنشأ حدوثه هو
العامل المادي و الروحي (المعنوي)
من العلاقات، و عليه فالنسبة بين
كل منهما من هذا الجانب هي نسبة
العموم و الخصوص المطلق(2). |
أصول الاحتياجات التي تشكل المنشأ لحدوث القانون |
هناك اصول كثيرة شكلت
عوامل أساسية في حدوث القانون و
هذه العوامل هي: 1 –
العوامل الاقتصادية: (فللعوامل
الاقتصادية الأثر الكبير في سن
بعض القوانين و الأنظمة و هذا
التأثير يبدو لنا بأجلى بيان في
عصرنا الحاضر حيث كان للتطور
الاقتصادي اثر بالغ في حالة
التشريع). إن هذا العامل يتعلق في
الحقيقة بمعائش الناس، و هذا
الأمر من اكثر الأمور تشعباً و
تفرعاً و كثرة تفرعات الأمور
تنشئ كثير من الاختلافات التي
تستدعي التنظيم. 2 –
العوامل الاجتماعية و السياسية: فالأفكار لها بالغ
الأثر ولادة التشريعات،
فالشريعة الإسلامية كانت وليدة
فكر حل محل أفكار فاسدة كانت
قائمة في واقع فاسد، و كذلك ما
أورثته بعض الثورات. 3 –
العوامل الجسدية: فأصول الاحتياجات
الجسدية المستدعية لوضع القانون
تسعة و هي: أ: المسكن، ب: الملبس، ج:
المركب، د: الطعام: من الماء، و
الغذاء، و الدواء، ه: الزوجة أو
الزوج و الأولاد، و: وسائل
الراحة و الجمال، ز: التجمع. فحسب رأي الفقهاء
الإسلاميين يعد (كل واحد من هذه
الأمور أصلا مما يطلبه الإنسان و
يحتاج إليه، فاللازم على
القانون أن يوفره حسب مختلف
المستويات. و منها تشعبت المهن و
الحرف و ملايين الأدوات و الآلات
من غير فرق بين أصحاب الكهوف، و
الصحارى، و المدن، و غيرها، سوى
ان لكل واحد منهم جملةً ما
يلائمه، حسب مناخه، و تقاليده و
شرائط حياته). 4 –
العوامل الروحية: ان هذه العوامل لم تكن
مورد عناية القوانين الوضعية،
إنما تناولتها بالاهتمام
القوانين الإلهية فحسب، فأصول (الاحتياجات
الروحية تسعة كذلك و هي: أ:
الأيمان، ب: العلم، ج: الفضيلة، د:
التقوى، ه: التقدم، و: الأمن، ز:
الاستقلال، ح: الحرية، ط:
المساواة). و يسرنا في معرض حديثنا
عن موضوع العوامل الجسدية
الروحية أن ننقل كلام سماحة آية
الله العظمى السيد محمد الحسيني
الشيرازي (دام ظله) الذي بحث هذا
الأمر في كتابه (القانون) إذ يقول
هناك ما نصه: (و كما ان الروح و
الجسد متشابكان يؤثر كل واحد
منهما في الآخر صحة وسقماً، و
حركة و سكوناً، كذلك الحاجات
المذكورة متشابكة فبعضها أولا و
بالذات مربوط بالروح، و ثانياً و
بالعرض مربوط بالجسد، و بعضها
بالعكس. و الإسلام كما نجده في
المتون الأولية و هي: الكتاب و
السنة، أعطى كل شيء من هذه
الحاجات حقه من القانون الصحيح،
و الاختلافات الاجتهادية
للعلماء لا يضر الجامع، كما هو
كذلك بالنسبة إلى سائر القوانين
و الأديان. لكن الإسلام يزيد على
القوانين – كما هي حالة الأديان
السماوية الأخر – في انه يبشر
بدار آخره، و لذا وضع لها سلسلة
طويلة من القوانين، و هذه
القوانين أمّنت سبل الحياة
السعيدة في الدنيا أيضا، إذ
الوازع الداخلي له أهمية قصوى
بالنسبة إلى تعديل الحياة و
إسعاد البشر بما لا يتمكن
القانون من توفيره إطلاقاً). 5 – بسط
العدل: رغم الأهمية التي تتمتع
بها العوامل المتقدمة، إلا إن
المنشأ الأساسي للقانون -الإلهي
و العادل من الوضعي –هو بسط
العدل و إقامته. فالفقهاء المسلمون
يرون (إن بسط العدل من أهم
المبادئ الأساسية في الإسلام،
فان الإسلام أهم ما ينشده من
الأهداف تحقيق العدل، و القضاء
على الظلم و الجور، و قد ارتبطت
جميع مناحي التشريع الإسلامي
بالعدل فلا يوجد ثمة حكم إلا
مرتبطاً به، فهو العلة في
التشريع). فهذا العامل يعتبر
الأساس في جميع ما تقدم من
العوامل، و إنما نشأت العوامل
جميعاً من هذا العامل و خصوصاً
في القوانين الإلهية. |
عمومية القواعد القانونية |
بعد الانتهاء من الشطر
الأول من البحث ننتقل إلى الشطر
الثاني و هو شرط العموم (كما يعبر
عنه في القانون الوضعي) الذي قد
تختلف الألفاظ التي تعبر عنه بين
كل من القانونين الإلهي و الوضعي
و لكن المعنى هو نفسه في كل منهما.
عليه يجب علينا تقديم تعريف بهذا
الشرط بحسب ما يعبر عنه في
القانونين قبل الخوض فيه. تجدر الإشارة إلى ان
هذا الشرط الذي يعبر عنه في
القانون الوضعي بالعموم يعبر
عنه في القانون الإلهي
بالمساواة أمام القانون. |
العموم في القانون الوضعي |
يشكل العموم إلى جانب
عنصر الإلزام جزء السبب الذي
يقوم القاعدة القانونية، أي أن
القاعدة القانونية - في القانون
الوضعي – لا يمكن أن تعد من ضمن
القواعد القانونية ما لم يتوفر
فيها عنصرا العمومية و الإلزام،
إذ أنها تنتفي عنها تلك الصفة
حينذاك، فما هو المعنى الذي
يعنيه عنصر العمومية؟ أن المعنى الذي تعنيه
العمومية هو كون القاعدة
القانونية ليست موجهة إلى شخص
معين بالذات، و لا تختص بواقعة
محدودة، بل هي تذكر الأوصاف التي
يتصف بها الأشخاص المقصودون، و
الشروط التي يلزم توفرها في
الواقع التي تطبق عليها. هذا هو معنى كون
القاعدة القانونية متصف
بالعمومية، و لكن هناك سؤال مهم
يمكن أن يثار هو: هل حقق القانون
الوضعي هذا الأمر، و هو خضوع
الرئيس و المرؤوس، و السيد و
المسود، و القوي و الضعيف، و
الغني و الفقير لسلطة القانون
على السواء أم لا؟ من خلال استقراء
الدساتير التي تسود العالم، و
الواقع الذي يعيشه يتضح لنا ان
القانون لم ذلك قطعاً. فهناك
استثناءات كثيرة لم تطال
أصحابها سلطة القانون من قبيل: 1 ـ استثناء
رئيس الدولة في اغلب الدول من
سلطة القانون:
هناك جملة من القوانين تعتبر في
الكثير من الدول تعتبر رئيس
الدولة سواء أكان ملكاً أم
رئيسا للجمهورية غير خاضع
للقانون بحجة انه مصدر السلطات
العليا في الدولة، و إنه مصدر
القانون فلا يخضع له، و قد اعتبر
ذلك الدستور الدنماركي و
الدستور الأسباني قبل إعلان
الجمهورية، و اعتبر الدستور
الإنجليزي ان ذات الملك مصونة و
مقدسة لا تسأل عن شيء كما إنها لا
تخطئ، و في الدستور البلجيكي و
المصري أن ذات الملك لا تُمس
بشر، و كذلك كان الحال في
إيطاليا و في رومانيا قبل إلغاء
النظام الملكي. و قد استمر الوضع على
صيانة الملك و عدم مسؤوليته عن
أي خيانة أو جرم حتى القرن
التاسع عشر فأعلن الدستور
الفرنسي مسؤولية رئيس الجمهورية
جنائياً في حالة واحدة و هي
الجناية العظمى للشعب. 2 ـ
استثناء رؤساء الدول الأجنبية: كما ان القوانين
الوضعية تستثني رؤساء الدول
الأجنبية، أو ملوكها (من أن
يحاكموا على ما يرتكبونه من
الجرائم في بلد آخر غير بلادهم
سواء دخلوه بصفة رسمية أو
متنكرين و هذا الإعفاء يشمل جميع
حاشية الملك أو رئيس الجمهورية،
و دليل الواضعين لذلك ان محاكمة
هؤلاء لا تتفق مع ما يجب من تكريم
الضيف و توقيره و احترامه). ان
هذا الدليل غريب في بابه حقاً
فان فيه تشجيعاً للرؤساء و
الملوك وحواشيهم للتجرؤ على
ارتكاب الجرائم ما داموا بعيدين
عن طائلة القانون. 3 ـ
استثناء أعضاء هيئات السلك
الدبلوماسي: إن
أعضاء السلك الدبلوماسي و هم
ممثلو الدول خارج حدودها من
المستثنين من سلطة القانون
الوضعي كذلك، و اكثر من ذلك ان
هذا الإعفاء يشمل حاشيتهم و
أفراد آسرهم كذلك. و دليلهم في ذلك بأنه
ليس لدولة على أخرى حق العقاب،
فالإعفاء ضروري في حق هؤلاء لكي
يفسح المجال أمامهم لتأدية
وظائفهم بحرية، فان خضوعهم
للإجراءات القانونية التي يخضع
لها غيرهم من الناس يؤدي إلى
تعطيل أعمالهم. إن تشنيع الأعمال –
التجسسية و الإرهابية – و تحويل
عمل الهيئات الدبلوماسية إلى
أعمال تجسسية لصالح الدول التي
يعملون لحسابها خير دليل لرد تلك
الحجج الواهية التي يتحجج بها
مشرعوا القانون الوضعي في
إعفائهم لأعضاء الهيئات
الدبلوماسية من الخضوع لسلطة
القانون. 4 ـ إعفاء
أعضاء السلطة التشريعية من
الخضوع للقانون: لقد أعفت القوانين
الوضعية في بعض الدول ممثلي
الشعب في البرلمان من العقاب و
هذا في الدول البرلمانية طبعاً.
فقد أعفتهم دولهم من الوقوع تحت
طائلة المسؤولية مهما بدر منهم
من الكلام. و لقد (أخذ الدستور
المصري بهذا الاتجاه فمنع من
مؤاخذة أعضاء البرلمان على ما
يبدونه من الأفكار) م(109) من
الدستور المصري. ان هذا الإعفاء لأعضاء
البرلمان يكون في عين الوقت الذي
يحرم فيه أعضاء المجالس
النيابية الأخرى كما لمجالس
المحلية و مجالس المديريات
العامة من إبداء ما يريدون
بعيداً عن طائلة المسؤولية. 5 ـ تمييز
الغني: إن
الكثير من الدول ترفع العقوبة
عمن يدفع الغرامة المالية، في
حين من لم يقدر على دفع الغرامة
يقضي مقدار العقوبة في السجن و
هذا فيه تمييز ضمني للغني، إذ ان
الغني قادر عادة على دفع مقدار
الغرامة فيفر و يتخلص من العقوبة
في حين يبقى الفقير يعاني من،
الوقوع تحت طائلة العقوبة دون
مفر. 6 ـ تمييز
بعض الشخصيات البارزة: وكذلك ميزت بعض
القوانين الشخصيات البارزة على
غيرهم في طريقة خضوعهم للقانون،
فالقانون المصري مثلا (أجاز رفع
الدعوى على المتهم من دون
استئذان جهة ما، و لكن إذا كان
المتهم من ذوي النفوذ كما إذا
كان موظفاً، إداريا أو حاكماً،
أو ضابطاً، أو عضوا في البرلمان
فان الدعوى لا تقام عليه إلا بعد
استئذان بعض الجهات المعينة، و
يجوز للمحكمة ان تحفظ القضية و
تكتفي بجزاء إداري يوقع على ذلك
الشخص.. و مثل هذه الإجراءات لا
تتخذ بالنسبة إلى أفراد الشعب
العاديين). كما يقضي القانون
العراقي كذلك بعدم جواز إلقاء
القبض على المحامي ما لم يستحصل
إذن بذلك من قبل نقابة المحامين
و يعطى القانون المصري مثلا الحق
لمن وقع عليه ضرر من جريمة ان
يطالب بتعويض ما أصابه من الضرر،
و المحاكم حين تقدر هذا التعويض
تراعي مركز الشخص و أهميته. هذه هي العمومية التي
يشترط القانون الوضعي توفرها في
القاعدة القانونية، و التي
يفترض فيها ان تُخضع جميع من
تشمله لحكمها. يقول عبد القادر عودة
بعد ذكره لهذه الاستثناءات في
كتابه التشريع الجنائي الإسلامي
معلقاً على ذلك بما نصه: (هذه
هي نظرية المساواة كما تطلع
علينا بالقوانين الوضعية
الحديثة، لا تزال مهيضة الجناح
مقصوصة الأطراف لم تسوّ بين
الرؤساء و المرؤوسين، و
الحاكمين و المحكومين، لم تسوّ
بين الفرد و الفرد، و لا بين
الجماعة و الجماعة، و لا بين
الغني و الفقير). ان هذه القوانين قد
ميزت بين الناس، و جعلت منهم
طبقات، كما أوجبت انهيار
المساواة، و تحطيم أسس العدالة
التي يفترض فيها تحقيقها فيما
بين الناس. |
العمومية (المساواة) في القانون الإلهي |
تقدم ان العمومية التي
ينادى فيها من قبل القوانين
الوضعية هي عين ما يعبر عنه في
القانون الإلهي بالمساواة، و
لكن لا مطلق المساواة، إذ ان
المساواة لها مصاديق كثيرة
فمنها المساواة الاجتماعية و
منها المساواة السياسية و هكذا،
و لكن مورد حديثنا هنا هي
المساواة أمام القانون. (إن
المساواة العادلة بجميع أشكالها
و ألوانها لا ظل لها إلا في
الشريعة الإسلامية التي ساوت
بين جميع الناس في الحقوق و
الواجبات و المسؤوليات فلا فضل
لأحد على أحد، و لا ميزة لقوم على
آخرين، فليس في الإسلام رجال لا
يخضعون للقانون، و ليس فيه ملوك
و أمراء، أو شخصيات لا تطبق
عليهم أحكام الدين و حدوده فيما
إذا شذوا عن الطريق، ان القانون
الإسلامي ينفذ على أفراد
المجتمع من غير فرق بين أحد و أحد
منهم فليس هناك من هو غير مسؤول
عن جريمته و خطأه). لقد أعلن الرسول الكريم
مبدأ المساواة هذا أمام العالم
اجمع، كما طبقه على واقع الحياة
فضرب بذلك أروع مثال على التطابق
بين النظرية و الواقع. فقد سئل ? – يوماً – ان
يعفو عن امرأة كانت قد سرقت و ذلك
لما كانت عليه أسرتها من الشرف
فأجابهم عن طلبهم ذلك قائلاً: (إنما هلك من كان قبلكم
لانهم كانوا إذا أذنب الضعيف
فيهم عاقبوه، و إذا أذنب الشريف
فيهم تركوه كما انه صعد المنبر
رغم مرضه (صلى الله عليه وآله) –
حين شعر بدنو اجله، و مفارقته
لهذه الدنيا –و خطب في الناس
قائلاً: (أيها الناس من كنت جلدت
له ظهراً فهذا ظهري فليستقد مني،
و من شتمت له عرضاً فهذا عرضي
فليستقد مني، و من أخذت له مالاً
فهذا مالي فليأخذ منه، و لا يخشى
الشحناء من قبلي فإنها ليست من
شأني إلا و إن احبكم الي من اخذ
مني حقاً إن كان له، أو حللني
فلقيت ربي و أنا طيب). ثم نزل عن المنبر فصلى
صلاة الظهر ثم رجع إلى المنبر و
أعاد مقالته الأولى. لقد أعلن النبي(صلى
الله عليه وآله) المساواة
العادلة أمام القانون بلا فرق
بينهم في ذلك و هذا هو جوهر
المساواة و أساس التسوية بين
الناس، لاعلى المستوى النظري و
اللساني حسب، و إنما بالتطبيق
العملي لصاحب الرسالة ذاته. (و
يتفرع على التسوية أمام القانون
التسوية أمام القضاء، فقد جرت
السنة الإسلامية على محاكمة
الخلفاء و الولاة و تقديمهم إلى
ساحة القضاء فيما إذا كان لهم
خصم، و إذا كانت لهم دعوى على أحد
فانهم يرفعون أمرهم إلى القاضي
ليحكم بينهم). لقد ساق لنا محور الحق
– الإمام علي بن أبي طالب(عليه
السلام) - اعظم درس في المقام،
وروعة هذا الدرس ليس في كونه من
قبيل الدروس التي تلقى في
المدارس، و إنما هو درس عملي
دلنا عليه الإمام بسلوكه ليكون
له ابلغ الأثر في النفوس. فقد ورد
في كتب الأخبار الآتي: لقد فقد الإمام علي(عليه
السلام) درعاً له أيام خلافته،
فوجده عند يهودي فادعى ملكيته
فرفع الإمام(عليه السلام) أمره
إلى القاضي فحكم به لصالح
اليهودي فما تأثر الإمام(ع) و
انصاع للقضاء. كما روي كذلك بأنه: خاصم
يهودي علياً(عليه السلام) في
أيام عمر بن الخطاب فقال له عمر: قم
يا أبا الحسن و قف مع خصمك. فتغير وجه الإمام(عليه
السلام) لذلك، لقد ظن والحضور
بان الإمام(عليه السلام) كان قد
امتعض وتغير وجهه لأجل إيقافه
ذلك الموقف مع اليهودي في ساحة
القضاء. لذلك توجه إليه بعد
الانتهاء من المرافعة قائلاً: يا
أبا الحسن لعله ساءك أمري ان تقف
مع خصمك اليهودي؟ فقال?: (كلا، إنما ساءني
إنك كنيتي، و لم تساو بيني و بين
خصمي، و المسلم و اليهودي أمام
الحق سواء). فهل بعد هذه المساواة
التي ساقها إلينا الإسلام،
مساواة يا ترى. لقد شاع الحديث عن
المساواة في فكر الحضارة
الغربية منذ أن أعلنت المساواة
مبدأ من مبادئ حقوق الإنسان، في
الإعلان الذي أصدرته الثورة
الفرنسية سنة 1789م دخلت منذ ذلك
التاريخ في الكثير من الدساتير و
المواثيق الدولية. و نحن بدورنا
لا ننكر ما للإعلان الذي أصدرته
الثورة الفرنسية من الأثر في
ترسيخ مبدأ المساواة في الحضارة
الغربية و لكن اين المساواة التي
دعت إليها الثورة الفرنسية من
المساواة التي دعت إليها
الشريعة الإسلامية الغراء كي
تتكالب الدول الإسلامية على
استقاء قواعدها من هذا الإعلان
أو ذلك في حين تدير ظهراً
للدستور الذي جاءنا بأروع صور
المساواة و التي تجسدت عملياً
فيما تقدم من الصور المارة الذكر
لصاحب الرسالة ووصيه. |
موقف فقهاء الإسلام من القانون الذي يخضعون لسلطته |
من خلال قراءتنا للواقع
المعاش، و اقترابنا من العلماء
نرى إن موقف العلماء من القانون
الوضعي هو موقف إيجابي لا معادي،
و ان كانوا لا يرون فيه ما يحمل
الخير الأتم للبشرية، و يظهر لنا
ذلك خلال سيرتهم سالفاً عن سالف
في طاعتهم لاحكام القوانين
الوضعية التي يعيشون في
دائرتها، فعلماؤنا لا ينكرون
على القوانين الوضعية سعيها إلى
نشر العدل و بسطه، و حملها للخير
و السعادة من خلال تنظيم
العلاقات البشرية. يقول سماحة آية الله
العظمى السيد محمد الحسيني
الشيرازي (حفظه الله) في ذلك ما
نصه: (فلا فرق بين الأديان
السابقة و دين الإسلام، و بين
القوانين المستندة إلى مختلف
الفلسفات في انهم يريدون خير
الإنسان –سواء كان الخير
الواقعي أو المزعوم و الكل يرضخ
للحق إذا وجده). و بما إن القوانين تنشد
الخير و العدل – كل بحسبه – فإنها
سارية على جميع أفراد المجتمع
بما فيهم العلماء – اعني علماء
الدين، و هذا ليس رأيي فحسب و
إنما هو رأي الأعاظم من علمائنا
و قد صرح به البعض و استفدنا رأي
الآخر فيه من خلال سيرته و حرصه
على طاعته، و احترام قواعده. عليه نقول ان القانون الوضعي واجب الطاعة ما لم تؤدي طاعته إلى معصية الخالق تعالى، إذ بدون طاعة القانون يختل النظام و تستحيل إمكانية الحياة. |
(1) الكبرى و الصغرى: مصطلحان في علم المنطق، أما الكبرى فيقصد بها: مقدمة كبرى، و أما الصغرى فيقصد بها: مقدمة صغرى. و هذا نوع من أنواع القياس المنطقي يعرف به صحة و سقم قضية مجهولة عن طريق قياسها بقضية معلومة تسمى كبرى. (2) أحد النسب الأربع في علم المنطق. |