(فن التوجيه)

(التوازن النفسي للداعية)

د . محمد عصمت

طبيعة الإسلام أنه دين قوي ومحكم، كابح لجماح النفس الشريرة، وقوانينه تتعارض مع كثير من المتسلطين واصحاب الهوى. لذلك فإن طريق الدعوة إلى هذا الدين الحنيف غير مفروش بالورود، ولا تحف جانبيه أشجار وثمار وظل ظليل، ولا تحيطه نسمات الربيع، ولا يغمره عبق الزهور. ومن ثم! لن يحرق الناس على مقدم الدعاة إليه أعواد البخور. وانما على الداعية أن يعلم أن طريق الدعوة إلى الله مليء بالاشواك والعثرات ومحفوف بالمخاطر والعقبات. فلا بد للسالك فيه أن يكون جلدا صبورا محتسبا.

وأن يكون قد اعدّ العدّة وتزود بكل ما يمكنه التزود به من زاد وعتاد وعبأ قدراته لهذا المشوار الشاق الطويل. وأن يعلم أن الامر جاد وليس بالهزل.

ولذلك قال تبارك وتعالى لرسوله الكريم موضحا تلك الحقائق: (يا ايها المزمل قم الليل الاّ قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا انّ ناشئة الليل هي اشد وطأ واقوم قيلا أن لك في النهار سبحا طويلا) 7:1 المزمل.

هذه الآيات الشريفة رسمت صورة واضحة لطبيعة هذا الدين، وطبيعة الدعوة إليه، وأن امر الدعوة جدّ خطير وشاق، وليس لعبا أو سهلا. فقوله أن لك في النهار سبحا طويلا أي جهداً شاقا يجب أن تتسلح وتتهيأ له عن طريق شحذ الهمة وتجميع قواك لأن ما ستدعو إليه قولا ثقيلا استعن على انجازه بقيام الليل، والتوكل على الله والاستعداد له بكل ما تملك من قدرات.

فان الداعية إلى الإسلام لابد أن يعلم أنه سيواجه الجاهل والعالم، والمعاند، والحاكم الظالم، وغير ذلك من أصناف وألوان البشر وأنواع الفكر وعليه أن يعامل كل صنف أو نوع منها بما يناسبه.

ومن ثم يلزم الداعية التمتع بمقدرات خاصة يتزود بها قبل خوض غمار تلك الساحة الشريفة.

والقدرات التي يمكن للداعية اكتسابها تارة تكون قدرات ذاتية نابعة من داخله مثل هذه القدرات تكتسب من ترويض النفس وتربيتها بشكل تنمو عندها تلك القدرات وتقوى وتارة أخرى تكون تلك القدرات خارجية أي أنها تكتسب من خارج النفس البشرية عن طريق الممارسة والتحصيل... تفصيل ذلك.

أولا: القدرات المكتسبة من الذات:

إن أهم القدرات التي يحتاج إليها الداعية ليتزود بها من داخل نفسه قد ذكر الله سبحانه وتعالى أهمها في أول تعليمات وجهها إلى رسوله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: (يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) 7:1 المدثر.

تضمنت الآيات الشريفة أهم قدرات لازمة للداعية وهي:

وثيابك فطهر، بمعنى القدرة على الترفع عن الدنايا.

ولا تمنن تستكثر، بمعنى القدرة على التواضع.

ولربك فاصبر، بمعنى القدرة على الصبر.

أولا: القدرة على الترفع عن الدنايا. (طهارة النفس)

إن قوله تبارك وتعالى (و ثيابك فطهر) في معرض الحث والتحريض على الاستعداد للقيام بمهام الدعوة إلى الله لا شك أنها لا تعني طهارة الثياب التي نرتديها، ولكن العرب استعمل طهارة الثياب كناية عن طهارة النفس، كقولهم كناية عن الشرف أبيض الوجه. وغير ذلك مما استعمله العرب.

صحيح! إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولد، وعاش، ومات طاهر النفس. وهذا مما لا شك ولا ريب فيه فسلام عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيا. ولكن تلك الأوامر الإلهية كان لا بد من ذكرها استعدادا لخوض مرحلة جديدة من حياته. وهي مرحلة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى فلابد أن يتجهز لها بنفس طاهرة عالية مطمئنة.

ما المقصود من طهارة النفس؟

إن طهارة النفس تعني استقامتها وسلامتها من الاضطراب والخلل وتوازنها بين المدّ والجزر الحاصل بين رغبات الغرائز وسيول الملكات داخل الإنسان فللانسان غرائز لها رغبات لابد أن يقضيها بالحلال كانت أم بالحرام  بالعدل أو بالظلم. وفي مقابلها ملكات تميل إلى الكمال والسمو، فيحدث التنازع بين طبيعة الغرائز ونزواتها وبين طبيعة الملكات وميولها.

فإذا مالت النفس إلى طرف دون طرف من طرفي النزاع داخل الإنسان حدث الخلل وعدم التوازن.

والنفس البشرية بطبيعة خلقتها سوية مستقيمة. أي أنها سوية مستقيمة طاهرة بأصل الخلقة. ومع ما بداخل الإنسان من تناقض جسدي غرائزي، وملكات روحية. ولّدَ في النفس الاستعداد للميل إلى جانب دون جانب، وهذا هو معنى قوله تبارك وتعالى: (ونفس وما سوّاها فالهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها) فإن حرف العطف في قوله (فألهمها) الذي يدل على الترتيب والتعقيب يدل على أن مرحلة الإلهام بالفجور والتقوى كان بعد مرحلة خلق النفس على الطهارة والاستقامة (و نفس وما سوّاها) أي خلقها سوية بدون ميل أو انحراف ثم الهمها التغيير بين الجور والتقوى. أي أنه وضع فيها الاستعداد للميل جانب الغرائز بحيث يزداد هذا الميل على حساب حق الملكات في السمو فيكون فجورها.

أو الاستعداد للتوازن باعطاء الغرائز حقها والملكات حقها وهذا هو المقصود بالتقوى.

ولا بد من القول أن ميل النفس إلى الغرائز بحيث تهمل الملكات، فجور.

كذلك الميل الى الملكات بحيث تهمل الغرائز فجور أيضا. لان الفجور بمعنى الظلم والزيادة فيه كالطغيان. فنقول انفجر الماء أي زاد عن حدّه في الأرض فانفجر. فظلم الغرائز على حساب الملكات ظلم يحدث معه عدم التوازن ولذلك قالوا: من طلب أخلاق الملائكة أدركته غرائز البهائم، لأن الإنسان خلق إنسان ولم يخلق ملكا.

ومن الجانب الآخر ظلم الملكات على حساب الغرائز نزول وتدني من مستوى البشرية إلى مستوى البهائمية.

وخلاصة القول إن المغالاة في جانب من جوانب النفس فجور، والاعتدال والتوازن استقامة وتقوى. وهذه هي التقوى الشرعية الصحيحة المرادة من قبل الله. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو أتقى الأتقياء. كان يأكل الطعام، ويمشي في الاسواق، وينكح النساء ومع ذلك كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه يصوم حتى يُظن أنه لا يفطر وهذه هي استقامة النفس وتوازنها وطبيعتها الأولى.

فكما أن الفارق في الملذات غير طبيعي كذلك الرهبانية غير طبيعية.

ولذلك عقب الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله (قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها).

نتيجة التوازن النفسي

إن أول ما تتمتع به النفس المتوازنة هي طهارتها. وتنعكس بالتالي على الاعتدال في السلوك، والاعتدال في الاحكام على أفراد المجتمع والسعي والطهارة النفسية قدرة خاصة يستطيع الإنسان اكتسابها وتنميتها عن طريق ممارسة الشرع. كممارسة ما أباحه الله في الشرع للجسد من مأكل وشرب وملبس وزينة وزواج، والسعي إلى التقدم الاجتماعي، والسعي وراء الرزق وغير ذلك من أمور شرّعها الله لتغذية الجسد والرغبات. ومن جهة أخرى نلتزم بما جعله علينا من عبادات ومناسك لتغذية الروح.

والاّ نخشى من فعل ما أحله الله لنا أو أباحه وإنما  الخشية من فعل الحرام.و يتولد من طهارة النفس الخشية من الله سبحانه وتعالى مما يؤدي بالداعية أن يضع الله نصب عينيه.

إكتساب قدرة الحفاظ على طهارة النفس

إن أهم رياضة يمكن أن تمارس لاكتساب القدرة على طهارة النفس هي رياضة  النفس على الترفع عن الدنيا وهي الصغائر التي تستهين النفس بها الاّ أنها تصبح عادة فتمارس حتى تألفها النفس وتعتادها فتكثر الدنايا والصغائر حتى تتحول إلى مرض يستعصي على المرء العلاج منه. وهذه الطريقة (الترفع عن الصغائر والدنايا) جاءت في قوله تبارك وتعالى بعد قوله (و ثيابك فطهر) وهي قوله (و الرجز فاهجر). والرمز في الآية الشريفة يعني الأعمال السيئة المشينة التي من شأنها النزول بصاحبها إلى مستوى لا يليق به وهي ما يمكن أن نطلق عليه الأعمال الدنيئة.

وللرجز معنى آخر وهي عبادة الاصنام. ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يعبد صنما قط. وكانت ولادته صلوات الله عليه على الفطرة وعلى دين إبراهيم عليه السلام. وكذلك مما لا شك فيه أنه أبعد الناس عن الأفعال المشينة والمسيئة لأخلاقه ولنفسه حتى أنه صلوات الله عليه وآله لم يذق ذبائح المشركين لأنها كانت تذبح على النصب.

وإنما جاءت الآية الشريفة المتضمنة الأمر (و الرجز فاهجر) كانت بمثابة التركيب على قوله (و ثيابك فطهر) بمعنى أنه الحفاظ على طهارة النفس يأتي عن طريق هجران الرجز فكأنها جاءت من باب ذكر السيء ولازمه.

والواقع أن القرآن الكريم والخطاب القرآني للرسول صلوات الله عليه وآله في الواقع هو خطاب لغيره ممن يعتقد عقيدته. خاصة إذا كان الخطاب نوعيا. أي نوع الخطاب للنبي بصفته داعية وأنه داخل إلى مرحلة جديدة لا بد له من التزود بتعليمات الهية تلزمه في هذه الأوامر ليست متعلقة بمحمد(ص) الشخص. بل بمحمد(ص) الذي تلبس بالرسالة وبصفة الداعية إلى الله. ومن هنا يصير الخطاب عاما لجنس الدعاة إلى الله وإن كان المخاطب فيه هو رسول الله صلوات الله عليه وآله.

والهجران في الآية الشريفة لا يعني ترك الرجز، بل يعني الابتعاد والترفع عنه مع عدم جواز العودة أو الإقتراب منه.

والداعية الإسلامي لابد أن يبتعد عن تلك الخبائث من الأعمال حيث لا يمكن أن يكون كلام الداعية مقبولا، أو يكون له وزنا عند المدعو إذا كان يأمر ولا يأتمر هو، وينهى ولا ينتهى. ويرشد وهو ضال. ويعطي وهو فاقد لما يعطي.

والترفع عن الخبائث من مقومات سلامة النفس وصيانتها من الخلل لأن ممارسة السلوك مع مخالفة الاعتقاد بها مع عدم وجود الإضطرار يؤدي إلى عدم توافق ما في النفس مع السلوك. أي أنه يحدث التناقض بين باطن آثم، وظاهر طاهر أو ظاهر آثم مع باطن طاهر. فان كلا الحالتين في حقيقتيهما عدم توافق نفسي لذلك قد جمع الله أمري الصلاح ولم يفرق بينهما في كثير من الموارد (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإن ذلك توافقاً بين السلوك والإيمان الداخلي وممارسة الداعية للدنايا والخبائث لا تسلم نفسه من تأنيب الضمير الذي يحدث قلقا واضطرابا عند الداعية مما يفقده القدرة على التوازن وضبط النفس فتكون النتيجة الحتمية هو الفشل في عمله كداعية. لذلك عندما يشعر الداعية بهذه الحالة لابد له أن يتوقف عن الدعوة حتى يراجع نفسه ويهذب من سلوكه بحيث تنسجم مع ايمانه، فتربية النفس تأتي قبل تربية الآخرين.

ومن لطائف القول في هذه المسألة ما قاله (مصطفى المراغي) في تفسيره قال (إن السابقة ـ يقصد سورة المزمل ـ بدأت بالأمر بقيام الليل وهو تكميل لنفسه صلى الله عليه وآله وسلم بعبادة خاصة. وهذه ـ سورة المدثر ـ بدأت بالإنذار لغيره وهو تكميل لسواه)(1).

والحقيقة أن هذا الكلام صحيح. فإن أوائل السورتين ذات موضوع واحد يكمل بعضهما بعضا فكلاهما تتضمن قدرات تلزم الداعية إلى الله سبحانه وتعالى فقد جاءت سورة المزمل للتمهيد النفسي، والاستعداد الروحي، عن طريق تريية النفس بقيام الليل. والتنبيه على طبيعة الرسالة (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) ثم جاءت أوائل سورة المدثر لتكمل الموضوع وتعلن عن بداية ممارسة الدعوة الإسلامية ومواجهة الناس بالحقيقة الالهية، والطلب المباشر منهم الدخول في الإسلام (يا ايها المدثر قم فأنذر) مع عدم تجاهل تربية النفس وتطهيرها بالترفع عن الرجس، وأن تكون عملية التربية الذاتية مساوقة لعملية الدعوة.

فعدم هجران الرجز يسيء إلى الداعية في مسيرته الدعوائية سواء كانت تلك الإساءة ناشئة عن تنازع الضمير مع النفس الأمارة بالسوء، أو من المجتمع الذي لا يرى مصداقية للداعية في دعوته.

صحيح!!! إنه ليس من المعقول أو من الممكن أن نطالب الداعية أن يكون معصوما لا يعتريه الخطأ والتأثر بالأحداث والمتطلبات الحياتية، ولا هو مطالب أن يكون ملاكا. يقتل في نفسه غرائزه. وانما المطلوب منه أن يكون متكاملا على وجه من الإجمال. أو تكاملا نسبيا. ومتوازنا إلى الحد المتعارف عليه بين الناس ولا ولن يحدث ذلك الاّ بإشباع غرائزه شرعا وتهذيب نفسه وتنمية ملكاته بقراءة القرآن وقيام الليل وصحبة الصالحين، والتنفل بالصيام، وعف اللسان عن البذاءات، وصون أعراض الناس. وذكر الله كثيرا، وإكثار الإستغفار، ومحاسبة النفس وغير ذلك من سلوك تربوي يروض عليه الإنسان نفسه.

وقبل أن انتقل من موضوع طهارة النفس والسعي الذاتي إلى توازنها لابد من الحديث والنظر البحثي حول ما هو مشهور في تقسيم النفس إلى ثلاثة أنفس النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الامارة بالسوء والحقيقة هي أن النفس البشرية لا تتنوع تنوعا عرضيا كما يفهم من هذه النفوس الثلاثة التي ورد معناها في القرآن الكريم.

قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية)

وقوله تعالى: (و لا أقسم بالنفس اللّوامة) 2 القيامة

وقوله تعالى: (و ما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء الاّ ما رحم ربي) 53 يوسف

في الواقع أن هذه الآيات ليست تنويعا للنفس وإنما هي توصيف لها. وهذه الملاحظة في غاية الأهمية. لأن الأوصاف تتبدل وتتغير وتتحول على العكس من النوع الذي يتصف بثبات الوصف المشترك في جميع أفراده، بمعنى لو أن الله خلق النفس أنواعا فمعنى ذلك أنه سبحانه وتعالى عندما خلق النفس خلق منها نفسا مطمئنة ونفسا أخرى لوّامة وأمارة بالسوء. ولا اللّوامة تصير مطمئنة، ولا أمارة بالسوء كذلك الامارة بالسوء. وهذا خلاف قوله تعالى (و نفس وماسوّ‍اها) أي أنه خلقها سوية مستقيمة ثم لحقتها بعد ذلك عوارض كالعوارض التي تصيب الجسد.

وتنوع النفوس بهذه الطريقة يلحقه القول بالجبر الذي يتعارض مع العدل الإلهي فالنفس المطمئنة لا تستحق أن تدخل الجنة لأنها مجبرة على الاطمئنان. كذلك النفس الأمارة بالسوء لا تستحق النار لان كل منهما خلقت على ما هي عليه حسب التوزيع وأما التوصيف يعني أن النفس اللوّامة تتحول بالترويض إلى وصف آخر أرقى وأعلى حتى تكتسب الشعور بالذنب، وهذا ما نسميه (احياء الضمير) بل يمكن أن تصل النفس بالترويض والتربية إلى اعلى من ذلك وتصل إلى حد الإطمئنان والثبات.

وإذا اهملت النفس نزلت في أوصافها من المطمئنة إلى أمارة بالسوء وقد نرى في الحياة كثيرا من هذه النماذج فكم رأينا مؤمنين غرتهم الحياة وأهملوا تربية نفوسهم فانحطت نفوسهم وكم رأينا أشقياء تابوا وهذبوا أنفسهم فارتفعت وسمت.

ولنأخذ مثالا لتلك المرأة التي قالت (إن النفس لأمارة بالسوء) وهي امرأة عزيز (مصر) التي راودت يوسف(ع) عن نفسه فقد قالت هذه الكلمة في معرض تبريرها لما فعلته مع يوسف من مراودته لنفسه أي أنها وصفت الحالة التي كانت عليها نفسها وأنها استسلمت لنزعات الهوى والغرائز فانجرفت إلى مراودة يوسف عليه السلام عن نفسه ولكن بسبب ما ظهر لها من تقواه واحسانه ندمت وتابت وهذبت من نفسها فأوصلتها إلى حالة لم تخجل عندها من الإعتراف بالحقيقة على ملأ من القوم فيهم زوجها الملك وتصرح بكل قوة قائلة (أنا راودته عن نفسه فاستعصم).

وهذه مرحلة يمكن توصيف النفس فيها بأنها نفس مطمئنة أي أنها استطاعت عن طريق التأمل والاتعاظ والتربية والتهذيب الذاتي أن تصل بنفسها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس مطمئنة.

وفي القرآن الكريم مثال لحالة معاكسة لحالة امرأة عزيز مصر، وهي حالة رجل آتاه الله آياته ولكنه انسلخ عنها (و اتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) 176:175 الأعراف.

ولا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يعطي آياته ودلائله الاّ لمن صفت نفسه  اطمأنت ولكن غرور النفس بما وصلت إليه أهملها صاحبها فتدنت من سموها إلى أدنى مستوى لها فشبهه الله بالكلب اللاّهث في جميع حالاته إن تركته أو أرهقته وقوله تعالى أخلد إلى الأرض واتبع هواه هو أنه قد تغلبت عليه غرائزه البهيمية بسبب كبته غير المبرر لها وهذا أيضا مصداق لقولهم الذي ذكرته (من طلب أخلاق الملائكة أدركته غرائز البهائم).

وهذان مثالان الأول يدل على سمو النفس بعد هبوطها والثاني يدل على هبوطها بعد سموها.

وهذا لا يعني أن قولنا: (زيد ذو نفس شريرة) محالية العلاج أو الإصلاح وكذلك إذا قلنا (زيد ذو نفس مطمئنة) محالية الهبوط أو تعرض النفس للأمراض.

فلا يأس للأول في سمو نفسه وتطهيرها ولا غرور للثاني بما وصلت إليه نفسه وفي القرآن الكريم ما يؤكد أن النفس في يد صاحبها أي أن كل إنسان يمتلك القدرة على نفسه سواء في سموها أو هبوطها، طهارتها أو دناستها.

قال تبارك وتعالى للرسول صلوات الله عليه وآله وسلم (و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدو عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) 28 الكهف فأن قوله تبارك وتعالى (و اصبر نفسك) بمعنى احبس نفسك بحب المؤمنين حتى ولو كانوا من طبقة اجتماعية متدنية واكبحها عن الميل الى جانب الأغنياء الذين تجد عندهم زينة الحياة الدنيا.

وقال تبارك وتعالى في سورة النازعات (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) 41:40 النازعات.

فالنفس في يد صاحبها يمكن له حبسها على ما يريد، ونهيها عما لا يريد.

صحيح إن ضبط النفس وأمرها أو نهيها ليس أمرا سهلا بل يصعب السيطرة على هذا الشيء المتمرد بداخلنا والذي نسميه بالنفس. لذلك يستخدم العارفون بالنفس البشرية كلمة (ترويض) التي تستعمل للحيوانات البرية المفترسة فنقول. ترويض الأسود، أو ترويض النمر أو تستخدم لترويض الحصان العنود.

فان تركت النفس وما تهوى مالت بشدة إلى جانب الغرائز لأن للغرائز جاذبية أقوى من جاذبية الملكات لذلك تجد النفس في حالة تمرد دائم ميولا إلى الغرائز ولكنها بالمراوضة واستعمال الوسائل الصحيحة في تربية النفس يمكن الوصول إلى ضبطها.

(نضرب مثالا على ذلك):

لو جئنا بطفل ووضعنا أمامه قطعة من الحلوى وقلنا له لو أكلتها سوف نعاقبك غدا أو بعد غد لا شك أن الطفل تنزع نفسه لاكل الحلوى وتدفعه إلى ممارسة ذلك بقوة ويتغاضى عن التهديد والوعيد.

كذلك لو جئنا بشاب قوي ووضعنا معه امرأة حسناء فاتنة قادر على ممارسة الفحشاء معها وقلنا إن فعلت معها الفاحشة سوف نعِذبك بالاحراق يوما  من الايام كذلك لا نشك في أنه سوف يمارس الفاحشة ويتناسى الوعيد. وهذا السلوك يحدث من الطفل أو شاب مع ايمانهم بصدق الوعيد ولكن النفس في هذه الحالة تخير بين لذة حاصلة تشد النفس وبين تهديد مؤجل فتتغلب حينئذ جاذبية اللذة للنفس على الارتداع بسبب التهديد.

ثم جدد التجربة وضع أمام الطفل الحلوى واحمل معك العصا وقل له أن أكلت هذه الحلوى ضربتك الآن، في هذه الحالة سوف يرتدع وينهى النفس عن الهوى.

كذلك الشاب الذي مثلنا به لو أريناه نوع العذاب وأحضرناه له فإنه سوف يرتدع عن ممارسة الفاحشة.

لذلك المؤمنون بوعد وعيد الله والخوف من مقامة وتخيله كأنه أمامهم وواقع بهم إن فعلوا ما حرم الله. فإن في هذا العزم ردعاً قوياً عن فعل المحرم. لذلك قال الله سبحانه وتعالى: (و أما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى) أي أنه خاف مقام ربه حقيقة إلى درجة تصوره أمامه في هذه الحالة سوف ينهى نفسه عن الهوى.

وفي هذا المقام قال رسول الله. اعبد ربك كأنك تراه، فان لم تكن تراه فإنه يراك)

ونكرر التجربة السابقة مع الطفل والشاب بشيء من التعديل لو اطعمنا الطفل بعض الحلوى التي تكفيه. ثم كررنا التجربة ووضعنا أمامه قطعة من الحلوى وقلنا إن أكلتها سوف نضربك بعد يوم أو يومين فإن نفسه في هذه الحالة لن تندفع كثيراً إلى أكل الحلوى وفي هذه الحالة سوف يرجح جانب ترك الأكل خوفا من العقاب على الاكل. والعقاب الذي ساعده على هذا الترجيح هو إشباعه قبل ذلك بالحلوى.

كذلك الشاب لو أشبعنا له رغبته الغريزية بالجماع الحلال ثم كررنا أمامه تجربة المرأة الحسناء وهددناه بالعقاب فلا شك أنه سوف يفعل ما فعله الطفل مع الحلوى ويرجح ردع النفس عن ممارسة الهوى مخافة العقاب المؤجل وسبب الترجيح عند الشاب هو نفس سبب الترجيح عند الطفل. فبعد أن أشبع الشاب غريزته في الحلال يسهل عليه حينئذ ردع نفسه عن ممارسة الحرام.

وهكذا يستطيع المرء عموما والداعية خصوصا ترويض نفسه وتطهيرها وفي هذا المعنى قال العارف بالله (البوصيري) في قصيدته المعروفة بـ (البردة):

حبِّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
إن الهوى ما تولّى يصمْ أو يَصِمِ
و إن هي استحلت المرعى فلا تُسم

و النفس كالطفل إن تهمله شبّ على
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
وراعها وهي في الأعمال سائمة

نعم! إن النفس كما قال البوصيري كالطفل ينزع إلى ما يرغب بلا عقل ويصعب عليه ترك ما تعود عليه ولا يروض الطفل كما لا تروض النفس إلا بوسيلتين:

الأولى: هي استحضار العقاب في النفس فان هم إنسان بمعصية عليه أن يستحضر في نفسه عقاب الله سبحانه وتعالى كرفع العصا أمام الطفل كما مثلنا لذلك.

الثانية: هي إشباع النفس بما تهوى بما أحل الله لها كما مثلنا أيضا لذلك.

هكذا النفس البشرية تارة نرضيها لنشبعها، وتارة نخيفها لنردعها عن غيها ولنكبح جماحها أي بالشدة، و واللين، وبهذا يستطيع أن يصل الداعية بنفسه إلى بر الأمان النفسي بعد يطهرها ويحفظها من الزلل والسقوط الذي لا يمكن معه أن ينجح الداعية في دعوته إلى الله سبحانه وتعالى.

1 ـ تفسير سور المدثر (تفسير المراغي).