الاستدانة وأثرها في  الاستقلال الاقتصادي

حيدر حسين الكاظمي

عن الإمام الصادق(ع) قال:

(أشتدت حال رجل من أصحاب النبي(ص) فقالت له امرأته: لو أتيت رسول الله(ص) فسألته (أي طلبت منه مساعده مالية) فجاء إلى النبي(ص). فلما رآه النبي(ص) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله. فقال الرجل ما يعني غيري. فرجع إلى امرأته فأعلمها فقالت: ان رسول الله بشر فأعلمه، فأتاه فلما رآه رسول الله(ص) قال: من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله، حتى فعل الرجل ما ذكرته ثلاثاً، ثم ذهب الرجل فاستعار معولاً ثم أتى الجبل فصعده فقطع حطباً ثم جاء به فباعه بنصف مد من دقيق فرجع فأكلوه ثم ذهب من الغد فصعده فجاء بأكثر من ذلك فباعه فلم يــزل يعمل ويجمع حتـــى أشترى معولاً ثم جمع حتى اشترى بكرين وغلاماً ثم أثرى حتى أيسر فجاء النبي(ص) فأعلمه كيف جاء يسأله وكيف سمع النبي(ص) فقال النبي(ص): قد قلت لك من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله)(1).

انبثق فجر الإسلام الخالد وهو يضع الأغلال التي كانت تلف أعناق المضطهدين في كل مكان وزمان وراح يشهر شعاره الخالد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ويصنع في نفوس الطبقة المؤمنة شعوراً يختلج في أعماقهم لأول مرة ألا وهو العزة والحرية والاستقلالية في كل ما يميز الانسان عن باقي الكائنات ورسم الرسول الاعظم(ص) برحمته التي وسعت الصغير والكبير رسم خطوطاً عريضة تصلح ان تكون واحات أمان ومناطق سلام للأمة الإسلامية وتصنع للأجيال أنموذج القيادة الواعية التي ترى شعوبها بقلوبها قبل أن تراها بسياطها من بين ما رسمه الإسلام الخالد لنا كمسلمين هو ضرورة الاعتماد على الذات وعلى قدراتنا الكافية في كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومثال حادثة الاعرابي تؤكد وبصورة واضحة أن الاعتماد على الذات خيرٌ من الاستجداء والتذلل أمام الخلق.

و النفس الإنسانية تحمل في طياتها قدرات لا يمكن لها أن تظهر إلا إذا اشتدت الأهوال وتلبدت سماء الحياة بغيوم الحاجة وثقلها لذلك لم يدخر لنا النبي(ص) وأهل بيته الأطهار(ع) جهداً إلا ,أعطوه لأمتهم دروساً وعبراً لوضع روح الاستقلالية في الذات وعدم الركون إلى أعداء الدين لأنهم لا محالة يحاولون انتهاز الفرص ليحكموا طوق التبعية حول أعناقنا.

الاعتماد على النفس ضرورة إسلامية

حفلت الأحاديث الواردة عن النبي(ص) واهل بيته الأطهار بالعديد من الشواهد الحقة التي تصب في موضوع الاستغناء والاعتماد على النفس فقد قال الإمام الصادق(ع): (اتقوا الله وقوا أنفسكم بالاستغناء عن طلب الحوائج واعلموا ان من خضع لصاحب سلطان جائر او لمن يخالفه في دينه طلباً لما في يديه في دنياه أخمله الله ومقته عليه ووكله إليه فأن هو غلب على شيء من دنياه فصار اليه منه شيء نزع الله البركة منه ولم يؤجره على شيء ينفعه منه في حج ولا عتق ولا بر) (2).

و يعلمنا الإمام الباقر(ع) درساً في الاعتماد على الذات والاستغناء عن ما في أيدي الناس فهذا محمد بن المنكدر كان يقول (ما كنت أظن أن علي بن الحسين(ع) يدع خلقاً أفضل منه حتى رأيت أبنه محمد بن علي(ع) فأردت أن أعظمه فوعظني: فقال له أصحابه بأي شيء وعظك؟ فقال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقاني ابو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام وكان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكيء على غلامين أسودين أو موليين فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحال في طلب الدنيا أما أني لأعظنه فدنوت منه فسلمتُ عليه فرد علي بنهر وهو يتصابُ عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذ الحالة في طلب الدنيا أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال.. فقال: لو جاءني الموت وانا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعة الله عز وجل أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس وانما كنت أخاف لو أن جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله فقلت: صدقت يرحمك الله أردت ان أعظك فوعظتني)(3).

و بهذه النصوص يتبين لنا شدة تمسك ائمتنا(ع) بتعليمنا آداب الاعتماد على الذات وعدم الخضوع للناس حتى نظل أحراراً في دنيانا وفي قراراتنا وخاصة المبدئية منها.

المضار العامة للاستدانة

إن لجوء الدول الإسلامية إلى الاستدانة الخارجية بصورة مستمرة بغية وضع أسس تنمية مركزة ذاتياً يحتوي على نوعين من الأضرار يعمل النوع الأول منهما على الأضـــرار بنموذج التـــنميــة المستقلة والحفاظ على القرار الاقتصادي والسياسي المستقل والثاني له أضرار. وتأثيرات التوائية على البنى الاقتصادية للدول هذه، علاوة على ذلك فالاستدانة الخارجية تضيف عنصراً جديداً إلى مختلف آليات التمويل المعاكس للموارد في اتجاهه في بلدان العالم الثالث نحو البلدان المصنعة وهو عنصر يوشك أن يصبح رئيسياً في الأحوال الاقتصادية الدولية الراهنة ومن أهم الأضرار الناجمة عن الاستدانة هي:

اولا: تثبيط الجهود الرامية إلى تعبئة الادخار الكامن:

البلاد التي تكون فيها القدرة المحلية على تكوين رأس المال غير معبأة بالصورة المثلى وهذه حال غالبية بلدان العالم الإسلامي، والتي يكون للجوء فيها إلى الاستدانة الخارجية نتائج تثبيطية على جهود تعبئة الادخار المحلي الكائن او الكامن وينتج عن ذلك بعدها بطالة دائمة يصحبها تهميش بالنسبة لبعض الفئات الاجتماعية او عن محافظة على استهلاك الكماليات بالنسبة لفئات اجتماعية أخرى. إن محاولة تسهيل تحرك الاستيراد المكثف لرأس المال من الخارج يقيد ديناميكية حركة تجمع الادخارات وأعادة توزيعها وما يقال عن حالات الاستدانة يقال كذلك عن المساعدات في تأثيراتها الاقتصادية 0ان طبيعة الادخار يجب أن توجه نحو الاستثمارات التي تساعد البنية الاقتصادية على التوسع افقياً او عامودياً أما حالات الاستدانة سوف تعني تهيئة هذه الموارد مباشرة نحو الاستهلاك وبالتالي تتوجه الادخارات في نهاية المطاف نحو تسديد هذه المديونية وبالتالي لم تساهم في أي خطوة بناءة في توسيع قاعدة البنية الاقتصادية ولقد أظهرت التجارب الماضية منذ القرن التاسع عشر كيف أن تدهور البنية الاقتصادية يولد في المقابل انتشاراً للربا الشال لقدرة التمويل الذاتي لدى صغار المنتجين الساعين إلى تحسن إنتاجيتهم وفي المقابل تتوجه رؤوس الأموال الربوية نحو الاستهلاكات الكمالية او الاكتناز او نحو توظيفها في الخارج ومن النادر ان يعاد توظيف هذه الرؤوس من الأموال في الاقتصاد الوطني بصورة استثمارات منتجة وفي افضل حالات هذا التوظيف لرأس المال هذا في ان يوظف في القطاعات المشجعة على عولمة الاقتصاد او على تخصصه في إنتاج المواد الأولية الزراعية او البترولية المعدة للتصدير بينما بالمقابل سوف يقل الحافز في إبداع صور مفيدة من داخل الأمة او البلد الذي يمكن ان يساهم مساهمة عظيمة في بـــلورة الاقتـــصاد الإسلامي والوطني بلورة ناجحة ومفيدة.

يقول أمير المؤمنين(ع) (لو شئت لا تخذت من هذا الماء نوراً)(4).

و يقول مولانا أبو عبد الله(ع) عندما سأله أحد أصحابه عن اصل النحاس قال(ع) (فضة إلاّ أنّ الأرض أفسدتها فمن قدر على أن يخرج الفساد منه انتفع بها)(5).

و يقول النبي(ص): في الجبال (ظهورها حرز وبطونها كنز)(6).

و يعلمنا الإمام الصادق(ع) في كيفية الاستفادة من مواردنا الداخلية بحيث يمكن أن تكون قوة اقتصادية عظيمة لانفسنا ولو من اضعف وأخس الأشياء، يقول(ع):

(اعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيساً في سوق العلم، فـــلا تستصغر العبرة فــي الشيء لصـــغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالبوا بها (غالوا بها) )(7).

و بهذا ينبهنا الإمام الصادق(ع) عبر طرحه لفكرة العلم والإيمان معاً على أن الإسلام يشجع الصناعات والفعاليات العلمية في إطار الإيمان إذ العلم بدون الإيمان يجر على البشرية أسوأ الويلات كما هو الحال ولا خلاص للعالم من ويلات العلم الحديث ومآسي التكنولوجيا الحديثة الاّ بالعودة إلى رحاب الإيمان بالله والالتزام بقيم الإسلام انطلاقاً من قوله سبحانه (و قال الذين أوتوا العلم والإيمان) وهو بذلك ينبه (عليه السلام) إلى مسألة مهمة جداً في ميدان الاكتشاف والعلوم الطبيعة، فهو يدعوا إلى عدم استصغار واستحقار أية مادة خام من مواد الطبيعة وأي عنصر من عناصرها إذ ربما تنتهي هذه المادة بعد التحليل العلمي والتجارب الطبيعية في المختبرات إلى مادة غالية الثمن بالغة الأهمية في ميدان العلم وقد أثبتت هذه النظرية صحتها في عالم اليوم فمعظم الدول الأوربية قد استفادت استفادة بالغة من مسألة فضلات الإنسان وسخرتها في خدمة وتلبية حاجاتها ويذكر أن الدانمارك تستخرج الماء الصالح للغسل من بقايا فضلات الإنسان بعد عمليات كيماوية متعددة ومتطورة وتستخرج دول اخرى أسمدة كيماوية متعددة تساهم في زيادة إنتاجية المحاصيل الزراعية.

ثانيا: تثبيط تحسن الإنتاجية المحلية:

من المضار الأخرى للاستدانة على الاقتصاد الوطني هو تثبيط تحسن الإنتاج المحلي نوعاً وكماً ،إن تأمين وسائل المدفوعات الخارجية الإضافية أي جانب ما يربحه بـــلد ما من مــجرد فائض علاقاته مع الخارج يقوي النزوع إلى استيراد السلع الإنتاجية وبالطبع فان الحكومة سوف تساهم في هذه الحالة بالعديد من التدابير المحلية كتخفيض الرسوم الجمركية وتيسير معدلات الفوائد الخ  ونتيجة لإجراءاتها في المجالين المالي والاقتصادي تكون قد أضاعت على المجتمع فرصة اكتساب المهارات التكنولوجية من خلال عدم حرية انتقال وتحرك الادخار المحلي في المكان الصحيح ووصوله إلى رأس مال منتج يكون وليد القدرات المحلية ولهذه الإجراءات سوف تثبط وبصورة مباشرة بروز قدرات محلية في المجال الهندسي وبصورة خاصة في قطاع السلع الإنتاجية وقطاع إنشاء الوحدات الإنتاجية وهكذا يضمحل كل أثر للاكتساب الحقيقي للتكنولوجيا القائم على (التعلم بالممارسة) أضف إلى ذلك أن قياسات ومواصفات السلع الإنتاجية المستوردة تؤدي إلى الارتباط التبعي للتكنولوجيا الغربية او الخارجية في حين أن الله سبحانه وتعالى علم الأمة الإسلامية من خلال القرآن كيفية الاستفادة من موارد بلادهم ليكونوا لانفسهم قوة وارشدهم حتى على مكامن هذه القوة الموجودة في الأرض قال تعالى (و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)(8) وقال تعالى (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون)(9) وقال تعالى (ولقد أتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن أعمل سابغات، وقدر في السرد واعملوا صالحاً، إني بما تعملون بصير) (10).

ويعلمنا الأئمة الأطهار أيضا دروساً في هذا الباب الذي يدعو إلى بذل الجهد الذاتي للاستغناء عما في أيدي الناس.

يقول مولانا الصادق(ع) (طلب الحوائج إلى الناس استلاب للعزة ومذهبة للحياء واليأس مما في أيدي الناس عز للمؤمن في دينه والطمع هو الفقر الحاضر)(11).

ثالثاً: الاضطراب المستمر في مستوى الأسعار والمداخيل:

أن آثار الاستدانة المستمرة تُضعفْ القدرة الادخارية المحلية وينتج عن هذا الضعف أيضا تثبيط مجهودات التمويل الذاتي وبالتالي تؤدي الأعباء المالية المتراكمة نتيجة الاستدانة إلى تضخم في أسعار الكلفة وإلى عرقلة تطور إمكانيات التمويل الذاتي ويضاف إلى هذه الكلف كلفا أخرى ناتجة في النمط الحالي لنقل التكنولوجيا المغلق على شكل (علاوات في أسعار شراء المدفوعات لقاء شهادات البراءات، وامتيازات في توزيع أنصبة الأرباح.. الخ) وهنا سوف تظهر عدة نتائج سلبية على صعيد الاقتصاد المحلي منها:

1) انعدام مجال المنافسة في التصدير إزاء السلع عينها المنتجة في البلدان المصنعة انعدام هذه المنافسة يسببه تأثير أخر ألا وهو الصعوبة في تأمين الموارد اللازمة لإيفاء القروض.

2) ارتفاع مستوى أسعار السلع الصناعية في الداخل مقارنة بمتوسط دخل الفرد أو ما يقال عنه خوف مستوى قدرته الشرائية وهذا سوف يستهلك بالتأكيد معظم ادخارات الأفراد لدى طبقات واسعة جدا من السكان  الذين يثابرون على شراء تلك السلع لضرورتها في حياتهم اليومية سواء على صعيد البناء او على صعيد الكماليات وغيرها وبالتالي سوف تصاب قطاعات اجتماعية واسعة بهذا الاستنزاف للادخارات وسوف ينعدم بعدها التوزيع الأمثل للمداخيل وعـــلينا ان لا نــنسى إن هذه الأعباء تتزايد بتزايد القروض التجارية للدولة وارتفاع معدلات الفائدة السنوية على تلك القروض ومن خلال ذلك يتبين لنا أخطار الاستدانة على هذا الصعيد، وطالما حذر الإسلام من هذه النقطة بالذات من خلال الأحاديث المتواترة والمستفيضة التي وصلت إلينا ولو اعتمد أبناء البلد على قدراتهم المحلية وحاولوا  تسخير هذه الموارد ما احتاجوا يوماً إلى قروض المرابين التي لن تعود على الأمة إلا بمزيد من الآثار السلبية. يقول الرسول(ص) (من فتح على نفسه باب المسألة فتح الله عليه باب الفقر)(12) وقال مولانا الصادق(ع) (إياكم وسؤال الناس فانه ذل في الدنيا وفقر تستعجلونه وحساب طويل يوم القيامة)(13) ويعلمنا أيضا رسول الإنسانية (ص) درساً في كيفية الاعتماد على الذات وعدم الطلب والسؤال من أحد يقول (ص)  (الأيدي ثلاثة: يد الله العليا ويد المعطي التي تليها ويد المعطى اسفل الايدي، فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم إن الارزاق دونها حجب، فمن شاء قني حياءه واخذ رزقه، ومن شاء هتك الحجاب واخذ رزقه، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلاً ثم يدخل عرض هذا الوادي فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ثم يدخل السوق فيبيعه بمد من تمر فيأخذ ثلثه ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو حرموه)(14).

رابعاً: انحرافات في توزيع الاستثمارات وضعف في القدرة على استيعاب استثمارات جديدة

تساهم الأعباء المالية للدول التي تستورد (رأس المال) المستدينة تساهم هذه الأعباء وخاصة على المستوى الاقتصادي العام في رفع سعر الكلفة بصورة غير طبيعة سواء نتجت هذه الأعباء عن قروض معقودة مباشرة بالعملات الصعبة او عن قروض خارجية محوّلة إلى قروض بالعملة المحلية ويظهر أثر الديون او الاستدانة الخارجية في توزيع الاستثمارات بصورة مثلى على القطاعات الاقتصادية على النحو التالي:

من الطبيعي أن في كل دولة عدة قطاعات تساهم في العملـــية الاقــتصادية لتلك الدولة كالقطاع الصناعي والزراعي والخدمي والتجاري والإنتاجي وغيرها، عندما تقوم الدولة بالاستدانة فأنها سوف تحاول توجيه هذه الاستثمارات او هذه الاموال نحو قطاعات معينة تعتبرها ضرورية في البناء الاقتصادي ولنفرض إنها توجهت نحو القطاع الصناعي والقطاع الزراعي أذن سوف لا تتحمل هذه القطاعات أي أثر من أثار المديونية بمعنى آخر ان الفوائد المتراكمة او المفروضة أصلاً على هذه القروض سوف لا يسددها القطاع الصناعي مثلاً او القطاع الزراعي وفي هذه الحالة سوف يقع العبء على قطاعات اقتصادية أخرى وبصورة خاصة قطاع الطاقة والمناجم والبترول وقطاع الإنتاج الزراعي غير الغذائي مما يؤدي بهذه القطاعات إلى مواجهة أعباء المديونية فتلتجئ إلى مزيد من التصدير وفي  هذه الحالة وخاصة في قطاع النفط مثلاً سوف تتخلى الدولة عن مواردها الثمينة الغير قابلة للتجدد ولا غنى عنها في التصنيع الفعلي وفي القطاع الزراعي أيضا فأن الزيادة في الإنتاج تكون على حساب نقص في الزراعات الغذائية أذن يتضح من خلال ذلك أن التوزيع الأمثل الذي يجب ان تقوم به الدولة في استثماراتها في القطاعات كافة سوف ينعدم. وبما أن بنية الاقتصاد الوطني لا تتكامل الاّ من خلال تكامل قطاعاتها وتآلفها في العملية الاقتصادية فأن هذا الخلل سيعوق عملية التنمية وسوف يؤدي لعدم التوزيع الصحيح للاستثمارات وبالتالي فان تلك القطاعات سوف لا تتحمل مزيداً من الاستثمارات الجديدة لضعفها عن تسديد الاستثمارات السابقة.

خامسا: الاستدانة تساهم في تحويل معاكس للموارد المحلية

إن إعادة الفوائد المترتبة على هذه الديون إلى مواطنها الأصـلية والحاجة الــمستمرة لاعادة تمويـــل الديون (إعادة جدولة الديون) والتي تفتقر غالبية البلدان الإسلامية إلى القدرة الفعلية على تسديدها يؤديان إلى زيادة تكاليف الاستدانة الخارجية وتشكل هذه التكاليف نزيفاً معاكساً للموارد بالغ الأهمية بالنسبة للبلدان الإسلامية يذهب باتجاه البلدان الدائنة او المصنعة وحتى لو تم إعادة جدولة هذه الديون فأنها سوف تتم بشروط شديدة ملائمة للجهات الممولة في البلدان الدائنة لا سيما إذا قارنا هذه الشروط بتلك التي كانت ولا تزال قائمة في البلدان الصناعية، أن مجموع قيمة الفوائد التي تدفعها حالياً دول العالم الإسلامي إلى البلدان المصنعة يبلغ عشرات ومئات المليارات مضافاً إلى ذلك النزيف المعاكس للموارد والتي تأخذ عدة صور وأشكال من بينهما:

1 ـ هجرة أرباح الشركات المتعددة الجنسيات الناتجة عن استثماراتها في الدول الإسلامية إلى الوطن الأم.

2 ـ المدفوعات لقاء براءات الاختراع ورخص استعمالها.

3 ـ المدفوعات لقاء الخدمات (أعانة تقنية، مكاتب استثمارات وهندسة، تأمين، نقليات).

4 ـ الأعباء الناتجة عن تضخيم الأسعار من قبل الجهات المصدرة عند تصديرها فيما يتعلق بالسلع التجهيزية او السلع المنجزة.

5 ـ الخسائر الناجمة عن الممارسات التجارية المفيدة التي تفرضها الشركات المتعددة الجنسيات.

6 ـ الخسائر الناجمة عن التمويل المعاكس للتكنولوجيا وتظهر بصورة هجرة الكوادر او التقنيين نحو البلاد الغنية.

و هناك أثار سلبية أخرى لهذه الاستدانة تتمثل في الإجحاف في شروط التبادل بين الدول الدائنة والمدينة وكذلك آثار التضخم التي سوف تظهر واضحة في الدول المستوردة لرأس الماس وكذلك انخفاض قيمة العملة وتأثير هذه العوامل جميعا في خدمة الدين الخارجي.

سادساً: الاستدانة مصدر إضافي للتبعية في العالم الإسلامي

إضافة إلى الآثار السابقة على الدول المستدينة فأن الدول الدائنة سوف تحاول بشتى الوسائل التدخل بكل صورة في سياسات هذه الدول الأخرى عن طريق الحجة الاقتصادية القائلة (بضمان أموالها) فهي سوف لا تؤمن إقامة ديون جديدة قبل أن تقبل هذه البلدان بالبرامج التصحيحية حسب مقالتها التي تفرضها على الدول المستدينة وتؤدي غالباً هذه الشروط إلى الحد من حريات الحكومات الإسلامية في سعيها إلى تغيير سياستها الاقتصادية الداخلية.

و بازدياد الاستدانة تتضاعف الشروط القسرية في اتفاقيات القروض وتتضاءل قدرات البلد المدين على تغيير السياسة في محاولته للحد من تبعيته الخارجية ويبقى خيار وحيد لهذه الدول هو اللجوء إلى دفع عجلة القطاع التصديري على أمل الحصول على فائض من الموارد الخارجية يسمح بالحد من الاستدانة الخارجية وعلينا أن لا ننسى بأن البلاد الإسلامية التي تتبع هذه السياسة سوف تخسر الكثير من عاداتها وتقاليدها من خلال السلع المصدرة إليها والتي تمارس سياسة العولمة في أذواق وميول واتجاهات المستهلكين ان اغلب السلع التي تصدرها تلك الدول إلى  الدول الإسلامية هي عبارة عن سلع كمالية تحد في حقيقتها من حركة الإنسان المسلم وتطور فكره ونضوج تطلعاته أنها توفر له كل شيء في المطبخ والملبس والمشرب والمركوب وغيرها إنها تحاول ان تصنع منه إنسانا أتكالياً جامد التفكير باهتاً أمام الحركة النشطة للاختراعات في التيار المعاكس وبالتالي فهي تجعل من أرادته مستسلمة لقوة الغرب وعاجزة حتى عن التفكير بمجرد المنافسة له. في حين إن الإسلام العظيم حثّ الأمة الإسلامية على النهوض بكل قدراتها لمواجهة سياسة الأعداء وأنه لا محال في عالم التحدي وتوحيد الهم لممارسة التغيير (و على الإنسان المسلم أن يعرف ان تجمع القطرات يسبب تكون البحار وتجمع صغار الرمال يسبب تكون الصحارى وتجمع الخلايا الصغيرة يكون بدن الإنسان والحيوان والشجر إلى غير ذلك فعلى الإنسان الذي يريد ممارسة التغيير ان يجمع القطرات من أجل هدم الأبنية السابقة وتشييد الأبنية الجديدة مهما طال الزمن ومهما احتاج إلى ضم قطرة إلى قطرة وذرة إلى ذرة وعمل إلى عمل وجهاد إلى جهاد وذلك بفارغ الصبر وجميل الانتباه)(15).

(و ينبغي أيضا أن تمارس الدولة الإسلامية أقصى طاقاتها للحيلولة دون اللجوء إلى هذه الديون المثقلة على تطور الشعب المسلم وحريته في كل نواحي الحياة ولذا نحتاج إلى همة عالية وقد قال الإمام علي(ع) (المرء يطير بهمته كما يطير الطائر بجناحيه) وقد قال الشاعر حول رسول الله(ص):

له همم لا منتــهى لـكبارها      ومهمته الصغرى اجل من الدهر(16)

و نختم هذه المقالة بمقولة الإمام الشيرازي(دام ظله) بقوله  (ونحن المسلمون الذين نتطلع إلى إقامة صرح الأمة الإسلامية وإنقاذ العالم يجب علينا ان نعد أنفسنا في التنسيق بين خبراتنا وطاقاتنا وتوجيهها التوجه السليم في التخلص من الحكام الذين يقفون أمام تقدم الأمة   والذين يثقلون الأمة بأعباء تؤدي إلى تراجعهم وان بناء الحضارة في الوقت الحاضر يعتمد اعتماداً كلياً على التقنية وعليه فنحن كأمة تطمع إلى بلوغ أهدافها واقامة حكومتها التي ستكون القاعدة لتغيير العالم حضارياً يجب ان نتبع الأسلوب العلمي والتقني لا أن نعتمد على أموال الغرب وعوائدهم حتى نحسن تفجير مواهبنا بشكل جيد في عملية الصراع)(17)  والتجارب تقودنا إلى الوصول إلى منتهى الغايات يقول الإمام علي(ع) (في التجارب علم مستأنف والاعتبار يقود إلى الرشاد)(18) ويقول أمير المؤمنين(ع) (العقل عقلان، عقل الطبع وعقل التجربة وكلاهما يؤدي إلى المنفعة)(19) .

المصادر

1 ـ مشكاة الأنوار لابي الفضل الطبرسي: ص 184.

2 ـ مشكاة الانوار: للطبرسي: 184.

3 ـ وسائل الشيعة: ج 12: ص 9 الحديث 1.

4 ـ التكامل في الإسلام: احمد آمن: ج 3: ص 51.

5 ـ بحار الأنوار: ج 60: ص 185.

6 ـ بحار الأنوار: ج 60: ص 185 عن كتاب المجازات النبوية للسيد الرضي.

7 ـ توحيد المفضل ص 165.

8 ـ الحديد: اية 25.

9 ـ الانبياء: اية 80.

10 ـ سبأ: اية 10 11.

11 ـ مشكاة الأنوار للطبرسي: ص 184.

12 ـ وسائل الشيعة: ج 6: ص 305.   

13 ـ الكافي: ج 1: ص 167.

14 ـ وسائل الشيعة: ج 6: ص 307.

15 ـ ممارسة التغيير لانقاذ المسلمين لاية الله العظمى السيد محمد الشيرازي: ص 74.

16 ـ ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين لاية الله العظمة السيد محمد الشيرازي: ص 76.

17 ـ الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلاح: لاية الله العظمى الشيرازي: ص 722.

18 ـ تحف العقول: ص 96.

19 ـ بحار الأنوار ج: 17: ص 119.