مجلــة النبــأ  ــ  العــدد  35  ــ  السنــة الخامســة  ــ  ربيــع الثــاني  1420

التربية الأخلاقية لقاح العلم وميزة العلماء

من المحاضرات الأخلاقية لسماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله العظيم في محكم كتابه الكريم:( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) صدق الله العلي العظيم

تعتبر مسألة الأخلاق من وجهة النظر الشمولية، مسألة واحدة فقط، ألا وهي تربية النفس.

والحق أن هذه المسألة من أهم المسائل وأعقدها وكذلك هي صعبة المنال، لأن الناس كثيراً ما نجحوا في مسائل صعبة، ولم ينجحوا في هذه المسألة وهذا دليل على أنها من أصعب المسائل.

فالله سبحانه وتعالى الذي خلق الانسان والكون والحياة، أرسل الأنبياء والوصياء وأمرهم بالتركيز على إرساء قواعد هذه المسألة وهي تربية النفس.

وهذا ما نلاحظه بصورة واضحة في كثير من آيات القران والأحاديث الشريفة، يقول تعالى: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) . ولا يقصد به أهمية الانفاق فقط، بل المقصود منه ايضا ان تنفق مما تحب.

فالانفاق من غير ما تحب لا يربّي نفسك. والله تعالى لا يحتاج الى الانفاق ولا إلى المنفقين وهو تعالى قادر على ان يخلق الناس جميعاً أغنياء. لكنه امتحان لتربي نفسك..

مثلاً: هناك فقير يحتاج الى قرص خبز، وأنت عندك أقراص كثيرة من الخبز لا تحتاج إليها وأنفقت قرصاً منها هذا يسمى إنفاق، وله ثواب، حيث أن الفقير سدّت جوعته.

والسؤال هنا هل يدخل هذا في الجانب التربوي للانفاق؟

الجواب: لا لأنك لم تنفق مما تحب.

فإذا بلغت مبلغاً استطعت أن تنفق مما تحب، بلغت مرحلة من التربية تنال فيها البر.

جاء في القرآن الكريم:( ويطعمون الطعام على حبه) على بعض التفاسير ان الضمير في حبه يرجع الى الطعام والآية تأتي في نفس السياق الذي ذكرناه.

إن كل الفضائل المتمثلة في حسن الخلق والحلم وكذلك طلب العلم والانفاق مما تحب وكل عمل يشتمل على فضائل الأخلاق، هو عملية لتربية النفس.

لكي يكون الانسان قائد نفسه، ولا يكون نفسه قائدةً له، ويكون هو المسيطر على نفسه وينبغي لنا أن نكرر هذه التذكرة مرات ومرات.

لأن التربية النفسية يصعب تحصيلها خلال أربعين أو ستين عاماً. كل الناس السائرين في طريق الفضائل يريدون ان يصبحوا أحسن البشر, يريدون ان يكونوا ذوي أخلاق حسنة.

وكلنا يريد ذلك ولكن لا نستطيع.

هناك القليل من الناس أصحاب نفوسٍ خبيثة، فلا يريدون ان يصبحوا من الناس الجيدين.

ولكن كثيراً ما يتصور الانسان ان تربية النفس على الأخلاق الحميدة شيء سهل، وهذا تصور بعيد لأن هذا الأمر يحتاج الى تركيز، لأنه أصعب الأشياء وأعمقها. أنتم حين تقرأون الأحاديث، وتقرأون التفاسير تلاحظون هذا المعنى، تلاحظون أنه مبثوث في مختلف الأحاديث. خصوصاً أحاديث الأخلاق. إن التركيز على شيء يربي نفس الانسان على ذلك الشيء. من جملة ما ورد من الأحاديث الشريفة أن النبي (ص) كان كافلاً ليتيم يربيه ويقوم بمعيشته.

وكان هذا اليتيم يؤذي رسول الله (ص)، طفل يؤذي رسول الله (ص)، مات هذا الطفل ويحزن عليه رسول الله (ص)، بعض الأصحاب قالوا: يا رسول الله لو تريد يتيماً آخر نأتي به.

وفيما روي عن رسول الله(ص) أنه قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين» يعني كافل اليتيم في جواري في الآخرة أو في الجنة.

قال النبي(ص): لا هذا اليتيم كان يؤذيني فكان أجري في تربيته أكثر، وهذا دليل على أن المهم هو تربية النفس قد يخيّل للبعض هل ان رسول الله(ص) يحتاج الى تربية النفس وصعودها؟.

والجواب، نقول: يوجد فرق بيننا وبين رسول الله (ص). فنفوسنا ناقصة، اما رسول الله (ص) فنفسه كاملة.

ولكن الكمال فيه درجات.. (وقل ربي زدني علماً). فالعلم درجات، إذاً فالكمال درجات أيضاً.

يوجد في الحديث. عندما يقول المؤمن اللهم صل على محمد وآل محمد. فإن الله سبحانه وتعالى يزيد في درجة رسول الله (ص).

أما إذا لم تقل اللهم صل على محمد وآل محمد. فهذا لا ينقص من رسول الله شيئاً.

إن الصلاة على النبي تكون أكمل له من جهة. ومن جهة أخرى نحن نستفيد بذكر سول الله (ص) فمرحلة الكمال الموجودة عند رسول الله بحاجة الى ان تترفع لكي يستزيد كمالاً.

يروى ان علياً (ع) عُرض عليه عملان لله فيهما رضى، فاختار الأوثق منهما. فكلا العملين مرضاة لله، ولكن الإمام علي (ع) كان يختار الأصعب على نفسه، لماذا..؟

إذا كانت مرضاة الله في كليهما موجودة، لكن تربية النفس تكون في الأشق منهما. إن مسألة الأكثر مشقة والأصعب مسألة بدنية بمقدار ما هي مسألة روحية، مثلاً الانسان ينام في الليل، اما إذا سهر فهذا أمر شاق عليه. لأنه قد تعود على النوم ولم يتعود على السهر.

لكن إذا كان السهر لشيء يحبه الإنسان. كوجود صديق، أو زيارة أحد الأرحام الذي تربطه به مودة وثيقة، في الليل نراه لا ينام حتى الصباح ولا يحس بشيء من الصعوبة في سهره هذا. لأن الروح غير مستصعبة.

إذاً ما لا توجد فيه صعوبة على الروح، لا توجد فيه صعوبة على البدن.

الإنفاق على ذوي الرحم

وذكر بعض علماء الأخلاق ان الإنفاق على ذوي الأرحام أشق من الانفاق على غيرهم وذلك لأمرين.

الأول: أن ذوي الأرحام غالباً ما يعرفون قدرة المنفق المالية من ذوي أرحامهم . فلو أعطاهم مبلغاً معيناً من المال، ربما يتألمون لذلك لأنهم يعرفون قدرة المنفق جيداً ويعلمون أن من الممكن أن يعطيهم أكثر من ذلك، وربما يحسب بعضهم أن هذا المبلغ البسط هو إهانةً له لأنه يتوقع الأكثر من ذوي رحمه. أما غير ذوي رحمه فإنهم في الغالب لا يعرفون قدرة المنفق المالية فيشكرونه مهما كان المبلغ بسيطاً.

ثانياً: غالباً الأرحام إذا أخذ بعضهم من بعض شيئاً قد يشعر الآخذ بشيء من الذل والتصاغر أكثر من غير ذوي الأرحام.

فرضاً لو أعطيت الى ابن عمك شيئاً، فهذا يفكر أنه واحد وأنت واحد. فربما يقابل إحسانك بشيء من الجفاء لماذا..؟

حتى يستطيع أن يطفأ حرارة تألمه. غالباً ما يكون التصرف بهذا الشكل.

بعض العلماء المختصين بالأخلاق قالوا لهذين السببين (أي التوقع الأكثر والجفاء) يكون الانفاق على ذوي الأرحام أفضل من غيرهم.

وغالباً تكون ما بين الأرحام قطيعة، وتألم، كلام. فإذا أنت ترضي نفسك على الذي تكلم عليك. وأنت متألم وتنفق عليه. يكون هذا صعباً على النفس وبالنسبة للوالدين هذا الأمر أكبر وأعظم.

ولذلك يكون الإنفاق على الوالدين أفضل، فبر الوالدين هو الذي يربّي النفس أكثر.

ومثال ذلك صدقة السر تطفئ غضب الرب ومن فلسفات صدقة السر ان ثوابها أعظم لأن ذلك الانسان لا يشعر بالتصاغر أو الذل.. وفي نفس الوقت يكون هذا تربية للإنسان نفسه.

وهذا هو الذي يطفئ غضب الرب الله سبحانه وتعالى سريع الرضا، وبطيء الغضب ولا يغضب بسرعة ولكن عندما يغضب يرضى بسرعة.

هذا فينا نحن البشر من المتناقضات.. لماذا؟

امتلاك الغضب

ولأن بعض الناس لا يمتلك نفسه فيغضب بسرعة، البعض الآخر من الناس ليس كذلك.

فهذا الذي لا يغضب بسرعة ليس بمعنى أنه لا يغضب، ولكن لا يظهر غضبه ويمتلك أعصابه. فأي صعوبة ومشقة تأتي عليه عندما تتراكم وتتراكم عليه المشقات..

لذا نجد هؤلاء الحلماء يطفئون ثورة غضبهم دائماً.

الانسان الحليم إذا سيطرت عليه الشهوات من كل الجوانب فأظهر غضبه ولا يستطيع أن يمتلك نفسه، لأن الضغط الذي صار على نفسه سوف ينفجر، فرد الفعل يكون بمستوى الفعل.

الله سبحانه وتعالى بطيء الغضب، وسريع الغضب لا يغضب.

لأنه يعرف عباده ةلذلك خلقهم يعني ليرحمهم، أحياناً يغضب. جاء في الحديث الشريف:«لا تستصغرن شيئاً من معصية الله، فقد يكون أن الله سبحانه وتعالى قد رآك فيقول لا اغفر له أبداً» لأنه لا تعلم أي معصية أغضبت الله تعالى.

الإنسان يكون بطيء الغضب وسريع الرضا، و لا يكون هكذا إلا تربية لنفسه إذن المهم في ممارسة الفضائل والأخلاق ان يربي الانسان نفسه عليها، ويحملها مشاق التكليف لكي يصبح عنده سيطرة على ذاته. هذا هو الشيء الأساسي.

الشيء الثاني أن يسلك مع الناس ما ربّى نفسه عليها، كأن يحترم الناس ولا يؤذيهم بسلوك سيء.

لذا ترى العلماء؛ مراجع التقليد مثلاً، عندما تؤثر عنهم بعض القصص من هذا النمط الذي يدل على ضبط النفس وقوتها، تكتب عنهم هذه الآثار.. لماذا..؟

لأنه شيء صعب ونادر في الإنسان.

الاجتهاد و التهذيب

والآن هل رأيتم هناك كتاب يعد المجتهدين من الشيعة، هل الاجتهاد شيء سهل..؟

لو يريد الإنسان أن يصبح مجتهداً فيلزمه على الأقل عشرين سنة ينقطع فيها إلى الدراسة وهو أمر غاية في الصعوبة على أكثر الناس.

في الكتب ينقلون من بعض العلماء لا من كلهم، بعض القصص عن حياتهم لكونه أصعب شيء. فينقل عن الشيخ الأنصاري رحمه الله كان له زميل في الدراسة، وكانا يدرسان عند أستاذهم شريف العلماء.

زميل الشيخ الأنصاري اسمه سعيد العلماء، في بعض السنين طلب أهل مازندران سعيد العلماء، فذهب الى هناك ليقيم لهم صلاة الجماعة، ويفتيهم في المسائل، يقضي دينهم، يقضي حوائجهم، وكذلك ليدرّس في الحوزة التي أسست هنا في مازندران.

الشيخ الأنصاري بقي في كربلاء وبعدها انتقل الى النجف الأشرف بعد شريف العلماء الى صاحب الجواهر الذي كان مرجعاً في حياته (رضوان الله عليه).

لما توفي صاحب الجواهر جاء بعضهم وطلبوا من الشيخ الأنصاري أن يكون مرجعاً بعد الشيخ صاحب الجواهر.

قال الشيخ الأنصاري: إني أرى أنه يشترط في مرجع التقليد أن يكون مرجعاً وعندما كنا في كربلاء ندرس عند شريف العلماء كان زميلي سعيد العلماء هذا أذكى مني وأعلم إذهبوا إليه وقلدوه.

فأتوا الى سعيد العلماء وقالوا له: اكتب رسالة نحن نريد ان نقلدك.

قال: لماذا..؟

قالوا: صاحب الجواهر قد توفي، وذهبنا الى الشيخ الأنصاري نقلده، وطلبنا منه أن يكون مرجعاً للتقليد، فقال: لا سعيد العلماء كان أذكى مني وكان أعلم مني عندما كنا ندرس عند شريف العلماء.

قال سعيد: صحيح أنا كنت زميلاً له في الدراسة ندرس سوية، ونتباحث سوية وكذلك نتناقش وأنا كنت في ذلك الوقت أعلم، ولكن مضت عليَّ سنون كثيرة انقطعت عن البحث والتحقيق. والشيخ الأنصاري استمر ولذلك وبحكم استمراره على البحث والتحقيق أصبح هو أعلم مني فاذهبوا وقلدوه!!.

عادوا الى الشيخ الأنصاري وقالوا له: هكذا يقول سعيد العلماء.

قال الشيخ الأنصاري: الآن سأكتب الرسالة العملية.

فكتب حاشية على رسالة نجاة العباد. رسالة على رسالة الجواهري (رض).

من أين تحصل هذه النفس القوية أليست هي نتيجة تربية طويلة؟.

بهذه القصص تولّوا رضوان الله عليهم تربية الأجيال.

التهذيب

قصة أخرى عن الشيخ عبد الكريم اليزدي الحائري رضوان الله عليه، مؤسس الحوزة العلمية في قم، ينقل عنه أستاذه السيد محمد الفشاركي الذي هو أحد العلماء الفطاحل ومن المحققين.

يقول السيد محمد الفشاركي: عندما توفي السيد المجدد الــــشيرازي رجع كثيرٌ من الناس الى تقليد السيد محمد تقي الشيرازي (رضوان الله عليه). فبعثني والدي كرسول الى الشيخ محمد تقي الشيرازي. فقال لي قل له أنا وزوجتي وأهلي كانوا يقلدون السيد المجدد الشيرازي، ولما توفي وتصديت للمرجعية فماذا ترى، أنت أعلم مني أم أنا أعلم منك؟.

فذهبت الى الشيخ محمد تقي الشيرازي فأبلغته رسالة والدي.

يقول السيد محمد الفشاركي: عندما أبلغته فكر قليلاً ثم قال: قل لوالدك ما هو رأيه، لنرى الدقة في الموضوع.

ثم قال: قل لوالدك أنت ما هو رأيك هل تراني أنا الشيخ محمد تقي الشيازي أعلم منك، أو ترى نفسك أعلم مني؟.

فرجعت وقلت لوالدي: هكذا يقول الشيخ محمد تقي.

فقال لي والدي: ارجع إليه وقل له ما هو معنى الأعلم؟ هل هو الأدق؟ أو الأذكى؟ أم هو الذي ذهنه ذهن عرفي أكثر، أنت ما هو رأيك في تفسير كلمة الأعرف؟.

فأتيت الشيخ محمد تقي الشيرازي وقلت له هكذا يقول أبي.

فقال لي: أذهب وقل لوالدك بعد أن تسلّم عليه أنت ما هو تفسيرك لكلمة الأعلم؟ هل الأعلم هو الأذكى؟ أو الذي في ذهنه العرفي أقوى؟.

فرجعت الى والدي وقلت له ذلك.

فقال: إن الأعلم هو الأدق والأذكى.

ثم قال لأهلي لا تقلدوني بل قلدوا محمد تقي الشيرازي.

وهذه القصص تبين مدة تأثير تربية النفس لدى الإنسان الذي يواجه سلطان الشهوات، لأن مسألة مرجع التقليد في ذلك الزمان يعني أنه يصبح حاكم الدين والدنيا.

فسلطة مرجع التقليد سلطة إلهية جامعة وكان المراجع العظام لا يتباهون بأنفسهم ولا يقول أحدهم أنا المرجع الأعلم فقط، لاحظوا، هنا مستوى التربية. وهذه نتيجة تطويع النفس على مكارم الأخلاق.

والملاحظ في هذه القصص وغيرها تناقلها التاريخي الهادف والذي وصل إلينا كدرس في التربية الأخلاقية والتي ظلت حية متجددة رغم مرور الأزمنة المتعاقبة عليها، وعليه فيجب علينا الاهتمام بتربية أنفسنا لحاجتنا الدائمة الى ذلك لضعفنا الدائم وهذه العملية لا تتم إلا بالاستفادة من كل الموارد المتاحة في هذا الباب، من المنبر والكتاب والعمل ر بما يعطينا الشحنات التربوية لنصل الى الغاية التي خلقنا من أجلها بالاستعانة بالله تعالى فهو الموفق لما فيه خير الانسان وصلاحه.

وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

إتصل بنا

أعداد سابقة

العدد 35

الصفحة الرئيسية