مجلـــــة النبـــــأ    العـــددان ( 32 ـ 33 )   السنــة الخــامسـة (محــرم ـ صفـر ) 1420هـ

الهجرة ... هاجس تطور أم إعلان لمسخ الهوية

عبد الله الساعدي


الهجرة عبر التاريخ القديم

مرّ التاريخ البشري بمراحل تـــطور سلبيّة وأخرى على شكل نقلات نوعية اختزلت حقب زمنية تحمل مورثاً تاريخياً متراكماً لتحيله عبر انعطافة تاريخية إلى أطلال مندرسة بعدما يتشكل نموذجاً حضارياً وفق معطيات تغيير تحتمها طبيعة هذه المرحلة.

ومثّلت مرحلة التطور السلبية الحركة الطبيعية لنمو المجتمعات البدائية، حيث الخلود إلى تأثيرات الطبيعة على حياة الإنسان بشكل لا يمكنه التدخل لإحداث أي نوع من التغيير، لاعتقاده بأنه يكسر بذلك نواميس الطبيعة المقدسة لديه فقوّة النار التدميرية جعلته يقدسها ويعبدها بدلاً من مقاومة آثارها السلبية عليه، والأعاصير والحيوانات المفترسة أصبحت قوى تغضب عليه وتملك الحق في مجازاته وعقوبته.

بينما مثلت مرحلة التطوّر الإيجابية في المجتمعات، بعثة الأنبياء والرسل(ع) الذين يظهرون بين فترة وأخرى فيحاولون انتشال هذه المجتمعات من الحياة السلبية التي تفتقر إلى مقومات العيش الطبيعي للبشر ومن ثم الانطلاق نحو الهدف الأسمى لهذه الحياة وهو عبادة الله تعالى.

وقد لاقت دعوة الأنبياء(ع) عنتاً شديداً ومقاومة عنيفة شكّلت خطراً على حياتهم فاستشهد الآلاف منهم وعذّبوا وذبحوا بأعنف الطرق، فكانت الهجرة إحدى الوسائل الدفاعية التي لجأ لها الأنبياء(ع) للحفاظ على حياتهم وحياة اتباعهم أولاً ثم توفير منطلقاً آمناً لنشر دعواتهم الإصلاحية؛ ولم تخلو حياة نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل من شكل من أشكال الهجرة فردية كانت أو جماعية وقد ذكرت الاخبار الواردة عن الرسول(ص) والائمة(ع) الكثير من قصص هجرة الانبياء ففي كتاب الكافي باسناده إلى أبي جعفر(ع) أن نبي الله إدريس قد أُمر بالهجرة بعد أن توعّده أحد الجبابرة بالقتل «فأوحى الله إليه أن اخرج من قريته وخلني وإياه فوعزّتي لانفذنّ فيه أمري..»(1)، فخرج وأصحابه «وعدّتهم عشرون رجلاً فتفرقوا في القرى وشاع خبر إدريس في القرى»(2)، وكانت مدة هجرته عشرين سنة، وكانت هجرة نبي الله نوح من النوع الثاني الذي ذكرناه حيث فصلت هذه الهجرة بين زمن نسل آدم والزمن الذي سمي باسم نوح(ع) وقد قضت هذه الهجرة على كل أنواع الشرك والكفر حيث لم يترك الطوفان إلا من آمن وركب مع نوح في السفينة، أما هجرة نبي الله إبراهيم(ع) إلى مكة مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل التي وردت في القرآن على لسان إبراهيم(ع) بقوله:( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) .

فان الآية الكريمة تدل على الأهداف التي كانت وراء هذه الهجرة ومنها تكوين مجتمع إيماني حول الكعبة المشرّفة وعمارة الأرض التي كانت صحراء قاحلة قبل هذا التاريخ وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هذه الهجرة قد خطت منهجاً جديداً في حياة البشر لأنها خرجت عن الأسباب التي يهاجر من اجلها من سبق نبي الله إبراهيم(ع)، لطلب الأمان والاستقرار المؤقت في مهاجرهم لأن الإقامة في مكة هنا دائمة كما أشار القرآن لذلك على لسان إبراهيم(ع).

وهكذا كانت الهجرات على طول تاريخ الأنبياء والتي عبّر عنها القرآن الكريم بعدة ألفاظ إلى أن جاء خاتم الأنبياء(ص) وهاجر الهجرتين بأمر من الله تعالى.

ومما تقدم نستنتج أن الهجرة كانت أمراً ملازماً لكل الرسالات كما تحدثنا قصص الأنبياء في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة الواردة عن رسول الله(ص) وأهل بيته(ع).

الهجرة في التاريخ الحديث

ثبت أن الهجرة هي سنة حياتية رافقت كل العصور البشرية وقد أدت نتائجها إلى ثورات إصلاحية وتغييرات جوهرية في المجتمعات المنحرفة، واستحداث مجتمعات جديدة واعمار الأرض وإصلاحها.

وهكذا بقيت هذه السنّة تتأصّل في النفس البشرية التي ظلت توّاقة إلى اكتشاف العالم الجديد عبر الرحلات الفردية والجماعية. وفي العصور المتأخرة نشر الإنسان وسائل استكشافه عبر البحار والمحيطات ليوسع من رقعة استعمار الأرض ففي بدايات القرن السادس عشر الميلادي بدأت الهجرة إلى ما سمي بـ (العالم الجديد) اعني القارتين الأميركيتين واستراليا وقد بدأت هذه الهجرات بنوع من حب الاستطلاع على يد الرحالة (كولومبس) ثم توالت موجات الهجرة إلى هذا العالم وتكوين المدن والحواضر الحالية ولم تنقطع هذه المواجهة عن التوافد إلى هذه البلدان حيث تستقبل هذه البلدان سنوياً الآلاف من المهاجرين الجدد من كل بلدان الأرض..

الهجرة سلباً وإيجاباً

الهجرة الداخلية:

تأثّر المسلمون في العصر الحديث إثر التطوّر الحاصل في العالم اجمع بعملية الهجرة بعدة أشكال ومنها الهجرات الداخلية والتي تمثلت في الهجرة من الريف إلى المدينة والهجرة من المدن الصغيرة إلى العواصم والمدن الكبيرة مما خلق عدة مشاكل اقتصادية واجتماعية وسكانية ألقت بأعبائها على المجتمع بأكمله، فحصل نقص حاد في القطاع الزراعي وتضخّم سكاني ملحوظ وبطالة متفشية في المدن وتركز الكفاءات في مدن وقلتها في الريف والمدن الأخرى، كما أوجد هذا النوع من الهجرات تفكك في التركيبة الاجتماعية التي يتميز بها المجتمع المسلم..

كما أن هذه الهجرة قد اتخذت طابعاً آخر في الانتقال غير المنظم وغير المدروس بين الدول الإسلامية، فهاجر الكثير من سكان الدول الفقيرة إلى البلدان الغنية بالموارد الاقتصادية مما شكل ضغطاً على هذه الدول -والتي غالباً ما تكون صغيرة المساحة - ورغم أن هناك من الإيجابيات في هذه الهجرة إلاّ أنها تترك آثارها السلبية على البلدان الفقيرة خصوصاً إذا كانت نسبة أصحاب الكفاءات هي الأعلى بين المهاجرين إلى البلدان الأخرى وقد توقفت هذه الهجرة تقريباً بعد الإجراءات والقوانين الحديثة كما هو الأمر عليه في بلدان الخليج الغنية بالبترول..

الهجرة الخارجية:

أما المشكلة الكبيرة التي مُني بها المجتمع الإسلامي فهي الهجرة إلى العالم الغربي لأسباب سياسية واقتصادية ونتيجة للكوارث والحروب والاضطهاد التي غالباً ما تعصف بالبلاد الإسلامية فيضطر الكثــــيرون الى ترك بلدانهم والإقامة في أوروبا وأميركا واستراليا طلباً لتحسين وضعهم الاقتصادي أو طلب اللجوء السياسي في البلدان التي تمنحهم حق الإقامة فيها، ورغم أن هؤلاء المهاجرون لم يكن بنيتهم الإقامة الدائمة بادئ الأمر إلا أن الكثيرين منهم يأخذهم الاندماج بهذه المجتمعات لتنقطع صلاتهم بالوطن الأم تدريجياً خصوصاً وان هناك برامج خاصة معدة لهذا الغرض وقد ارتبطت هذه الحالة بالمهاجرين من أوائل القرن العشرين حتى السبعينيات منه بينما جاء عقد الثمانينات بثورة الاتصالات التي قرّبت المسافات بين المهاجرين الجدد وأوطانهم التي نزحوا عنها وبذلك قلّت إمكانية ذوبانهم بالكامل في مجتمعات دول اللجوء وتشكلت جمعيات وهيئات لرعاية هؤلاء اللاجئين في البلدان التي يقيمون فيها أو في البلد الأم، وأخذت المؤتمرات تعقد بين الحين والآخر مما أعطى لهؤلاء المهاجرين خصوصيتهم وتثبيت هويتهم.

هجرة نوعية:

وافرز عقد التسعينات هجرات امتازت عن سابقاتها كون غالبية المهاجرين من البلاد الإسلامية تجمعهم بعض الروابط المشتركة وهي الهجرة السياسية بعد انتشار الصحوة الإسلامية الحديثة وتعرّض القائمين عليها للضغط السياسي الذي أجبرهم على الانتقال إلى البلدان التي تتمتع بالحرية النسبية التي تضمن لهم ممارسة بعض أنواع النشاط الديني وحتى السياسي في بعض البلدان.

ولو أخذنا حالة العراق مثلاً، فبعد الانتفاضة الإسلامية عام 1991م هاجر الآلاف من هذا البلد الإسلامي إلى الدول الغربية والدول المجاورة وبعد أقل من خمس سنوات على هذه الهجرة بدأت الجماعات المهاجرة بتأسيس المساجد والحسينيات في كبريات العواصم والمدن الغربية والاتصال بالمرجعيات الدينية بحـــيث شكّل التواصل سمة بارزة لغالبية هؤلاء المهاجرين ولم يقتصر الأمر على الجانب الديني، ففي الجانب الاجتماعي بدأت ظاهرة جديدة لم تعهدها الجماعات السابقة وهي عزوف أغلبية المهاجرين عن الزواج بالأجنبيات والعودة إلى البلدان الإسلامية واستصحاب زوجات مسلمات إلى محال إقامتهم الجديدة.

وبعد هذا الانتشار الواسع للمسلمين في البلاد الغــربيــة كان لزاماً على المؤسسات الدينية والمرجعيات أن تولي اهتماماً بهذه الشرائح الإسلامية المهمة، وهكذا التحق العديد من طلبة العلوم الدينية والمدرسين بهذهِ المهاجر لإدامة التواصل والتبليغ الإسلامي فيها، وقد اتضحت الجوانب الابجابية لهذه الهجرة عن طريق عدة مظاهر منها:

1- التعريف بالإسلام ونشر الكتاب الإسلامي في هذه البلدان.

2- تقوية الجالية الإسلامية فيها والتلاحم مع الجاليات القديمة وإعادتها إلى الصف الإسلامي.

3- نفي التهم التي كانت تلصق بالإسلام عن طريق الاتصال المباشر بالمجتمعات الغربية.

4- تطور الحالة الاقتصادية والسياسية للمهاجرين بحيث شكلوا جماعات ضغط لم تعهدها الفترات السابقة.

بقي أن نذكر أن لهذه الهجرات سلبيات لا تخلو منها، إلا أن إمكانية تلاشيها نتيجة الوعي المتزايد الذي تشهده مراكز الهجرة يجعل منها حالة مؤقتة قد تزول بزوال ظروف اللاجئ الصعبة في السنين الأولى.

ولا ننسى أن التعامل مع حالة الهجرة يجب أن يأخذ أنماطاً جديدة مراعاةً للظرف الخاص لهذه الشريحة المهددة بالانفصال عن تراثها وقيمها إذا لم يتنبه المسلمون ويعطوها جزءاً من جهودهم الإعلامية والثقافية وغيرها من عوامل إبقاء جسور التواصل قائمة معها، ومد يد العون الممكنة في هذه الجوانب قد يحفّز المهاجرين على تفعيل طاقاتهم في سبيل الأهداف الإسلامية المشتركة..

(1) قصص الأنبياء: الحزائري، في قصص النبي إدريس(ع).

(2) المصدر نفسه.

إتصل بنا

أعداد سابقة

العدد 32ـ33

الصفحة الرئيسية