مجلـــة النبـــأ   العــددان (30 -31 )    السنــة الخــامســـة    ( ذو القعدة - ذو الحجـة )  1419

بين الحـــريات و حقــوق الإنســـان


مهدي البغدادي

إن لمعاني مفردات الحرية، الحق، المساواة، ترابطاً وثيقاً وتشابهاً في أصل المعنى، ومدلولات المضمون نظرياً وعملياً على صعيد السلوك الإنساني، فأي من تلك المفردات إنما هي حصيلة تحقّق كلاً منها، فمن تحقق العدل في أوساط المجتمع البشري، تأتي الحريات، ومن تلك تأتي الحقوق، ومن اكتساب الحقوق وفقاً لموازين العدل الشامل، تتحقق المساواة في الفرص بين سائر الأفراد والجماعات والتركيبات العرقية والمذهبية والطبقية للمجتمع الإنساني، في أي من حدود دوائره الإقليمية أو النطاق العالمي ككل. فحقوق الإنسان العامة مثلاً ترجع في الأساس إلى حقين رئيسيين هما المساواة والحرية، والإسلام أول من أكد هذه الحقيقة الأساسية في قصة الحياة البشرية وقيمها المعنوية والحضارية.

الإنسان بطبعه وتكوينه مفطور على الحرية، فهي ليست هبة أو مكسباً أو مغنماً، وإنما هي ضرورة، وكما بين الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (الأصل في الإنسان الحرية)(1)، فالإنسان حر، وحريته نابعة من الذات، من أعماق نفسه التي فطر عليها في الحقيقة إن الوجدان يؤكد حرية الإنسان، مستندين في ذلك على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأحاديث أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).

(لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً) و(الناس كلهم أحرار)، وكلا النصين لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ومنهما يستدل على أن الحرية بالنسبة للإنسان جعلية ذاتية طبيعية، كما إنها ليست إضافة خارجية، وإنما هي خلق رباني.

وإزاء مفهوم الحرية يقول الشهيد السيد محمد باقر الصدر: (الحرية الطبيعية عنصر جوهري في كيان الإنسان، وظاهرة أساسية تشترك فيها الكائنات الحية بدرجات متفاوتة، تبعاً لمدى حيويتها، ولذلك أن نصيب الإنسان من هذه الحرية أوفر من نصيب أي كائن آخر، وهكذا ازداد حظ الكائن من الحياة عظم نصيبه من الحرية الطبيعة) (2).

مفهوم الحرية

الحرية حاجة دائمة ومتجددة لكل إنسان، تهدف تخليصه من الضغوط والقيود والقواهر الخارجية التي تحول دون أمانيه، وفوق ذلك عتقه من قيود السلطة والحكم، وصور الظلم والاستبداد.

ولقد وردت عدة تعريفات لمفهوم الحرية أو معناها(3)، أغلبها جاءت على لسان الحقوقيين، فعرفها لاسكي (بأنها انعدام القيود) أي بمعنى القدرة على اتساع واختيار الفرد لطريقة حياته الخاصة بدون أي ضغوط وتحريمات تفرض عليه من خارجه.

وعرفها فولتير: (عندما أقدر على ما أريد فهذه حريتي)، أما الفيلسوف ليبينز: (معنى الحرية بأنها عبارة عن قدرة المرء على فعل ما يريده).

وقد عرفها آخرون بأمور وتعاريف أخرى منها: (الحرية القدرة على الفعل والاختيار)، وكون الحرية مفهوماً سياسياً واقتصادياً وفلسفياً وأخلاقياً عاماً ومجرداً ذا مدلولات متعددة ومنشعبة.

وهل مرجع جميع هذه التعاريف تنتهي إلى جامع واحد وحقيقة مشتركة واحدة، هي القدرة على ترجمة الرغبات والإرادات الحقة من واقعها النظري والتأملي إلى واقع التحقق والفعل على أرض الواقع الحياتي للإنسان.

التطور التاريخي لمفهوم الحريات والحقوق:

في العصور القديمة التي تمثل المرحلة التاريخية الموغلة في القدم (قبل ميلاد السيد المسيح) (ع)، لم تعرف تلك العصور فكرة الحرية والحقوق، وإخضاع الحاكم لقواعد العدل، أو وضع القيود على سلطانه، منعاً للظلم والاضطهاد، بل كان الحاكم يتمتع بسلطات مطلقة لا حدود لها، ودون أن يردعه رادع.

ومن هنا عانت البشرية ألواناً من الضعف والمرارة بسبب الملوك الطواغيت وسلاطين الجور، الذين سحقوا غدراً إرادتها وهدروا كرامتها وصادروا حريتها وحقوقها، وكثيراً ما اقترن الصراع المقدس الذي خاضته أمم المعمورة من أجل العدل والحرية، بصبغة الدم وثمن التضحيات الجسام، إذ انتهت جولات منه، بمآس قتل وشرد غيرها الآلاف بل الملايين من بني البشر.

في العصر الإغريقي، تميزت تلك المرحلة بتطور المعرفة الإنسانية ونظم الحكم فيها، بفضل جهود فلاسفة عظام أمثال سقراط وارسطوا وأفلاطون ومن بعدهم، بيد إن تلك الفترة الزمنية كانت قاصرة عن إدراك حقوق الإنسان وحمايتها أو تقنينها.

وبالرغم من كل التطور الحاصل نحو الديمقراطية في دولتي المدنية لكل من (إسبارطة) و(أثينا) إلا أن تلك الديمقراطية كانت ديمقراطية شكلية اقتصرت على ممارسة سلطة الحكم من قبل (المواطنين الأحرار)، ومن ثم كان للحكام التدخل في أخص شؤون الأفراد مع سلبهم أموالهم وحرياتهم إذا أرادوا أن يكون للأفراد الحق للاحتجاج بحقوق مكتسبة أو حريات مقدسة.

وفي العصر الروماني حـــصل نوعاً ملموس من التطور في النظام القانوني الروماني وخصوصاً في القانون المدني الخاص بالمعاملات بين الأفراد، إلا أن هذا التطور الحاصل ظل في حدود مجال القانون، دون الإرتقاء بحريات الإنسان وحقوقه لما هلي عليه. كما إن الرومان لم يقروا للأفراد الأراضي والامتيازات والعوائد الاقتصادية المترتبة عليها، إذ لم تكن هذه التجاوزات أو الجرائم بتعبير أدق تخضع لطائلة القانون.

وبعد ظهور المسيحية، تم وضع النواة الأولى لمبدأ خضوع الدولة للقانون، عندما دعت إلى حرية الدين والعقيدة، وميزت بينالفرد بوصفه إنساناً، وبين الفرد بوصفه مواطناً، وبذلك نزعت الفرد من الجماعة، وجعلت له وجوداً مستقلاً عنها، على خلاف ما كانت عليه الحال في العصور القديمة.

والشيء الذي لم تحدده المسيحية رغم إخضاعها الدولة للقانون، هو إنها وإن اعترفت بالكيان المستقل للرد، لكنها لم تحدد حقوقه أو تعترف بها، وإذا كانت قد قالت بالفعل بين ما لله وما للقيصر، إلا أنها لم تبين ما لقيصر وما يترك لله. والأمر الوحيد الذي سعت المسيحية إلى تحقيقه هو حرية العقيدة.

أما خارج نطاق الدين فقد ظل الخضوع للحاكم كما كان، وسلطانه دون حدود، كما إن المسيحية لم تبين الربط بين حرية العقيدة وسائر الحريات الأخرى. حيث لا وجود للأولى بدون الحريات الأخرى، لذلك عاشت أوربا في العصور الوسطى في زل سلطان مطلق، لا مكان فيه للفرد ولا قيمة لرأيه، ولا اعتراف بحقوق أو حريات له وبقي الواقع المعاش دون أي قاعدة أو قانون، واستمر الحال قرون طويلة، عاشتها أوربا المسيحية في ظل نظام استبدادي مطلق.

وحين ظهر الإسلام في قلب الجزيرة العربية، لتقوم معه أول دولة إسلامية على يد النبي والرسول الأكرم محمد بن عبد الله (ص) ودستورها كتاب الله المنزل (القرآن الكريم)، فإن ذلك كان بمثابة بداية خير ورحمة حقيقية للبشرية، (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)(4). وبالفعل كانت الجولة الإسلامية بحق أول دولة قانونية يخضع فيه الحاكم للقانون، ويمارس سلطاته وفقاً لقواعد عليا تقيده ولا يستطيع الخروج عليها وهي أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. وواجباته كانت حماية حقوق أو حريات المواطنين (أبناء الأمة المسلمة، وكذلك من يعيش في كنف دولة الإسلام من أتباع بقية الأديان والملل –أهل الذمة-)، التي نص عليها الإسلام، وقرر الضمانات التي تكفل حمايتها من اعتداء الحكام أو المحكومين على السواء.

كما عرفت الدولة الإسلامية بدايات المجتمع المدني الذي يوسع من حقوق المواطنين ويقر حرياتهم المشروعة والمتمثلة بتشكيل وتأسيس المؤسسات الدينية والعبادية والعلمية وغيرها. كما عرف الإسلام فكرة الحقوق الفردية بعشرة قرون قبل أن يبشر بها فلاسفة العقد الاجتماعي أمثال هوبز، ولوك، وروسو، كحق الملكية وحرية العقيدة والرأي وحرية المسكن والحرية الشخصية وغيرها.

وفي مرحلة التاريخ الحديث بدءاً من عصر النهضة الأوربية الذي يبدأ بنهاية العصور الوسطى في بداية القرن الخامس عشر الميلادي، ووصولاً إلى اليوم، شهدت هذه الفترة ولادة الأفكار عن الحريات الفردية والدعوة إلى ضرورة الحد من سلطات الحاكم. وقد ساعد على قيام هذه الأفكار انقسام الكنيسة المسيحية بعد ظهور المذهب البروتستانتي، وما تلاه من صراع بين دعاة المذهب الجديد وبين أتباع مذهب الكاثوليك. وأخيراً ورغم ما تتحدث عنه حضارة الغرب المسيحي (الرأسمالي)، من سعادة وتحرير للإنسان، في ظل عصر التقدم العلمي الصناعي، والانفتاح السياسي الديمقراطي، إلا أنه أنزل بالبشرية مأساتين مفجعتين في غاية المرارة، تمثلتا بحربين عالميتين، الأولى في بدايات القرن الميلادي الحالي (1914-1918)، والثانية قبل منتصفه (1939-1945)، وهاتان تمخضتا عن نتائج دموية وقاسية، كللتها أرقام رهيبة من حجم الضحايا، وصور الإبادة، وهذا ما دفع الأسرة الدولية إلى إقرار صيغة قانونية شاملة وملزمة لكل أطراف وتمثيلات المجتمع الإنساني، تجنب البشرية وهذا العالم القائم بصورة وتقسيماته الحالية، للمزيد من الويلات والمعاناة، ومن هنا جاءت وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي أقرتها هيئة الأمم المتحدة في تاريخ 10 كانون الأول 1948 لتثبت الأسس والقيم الإنسانية الحضارية الجديدة في العلاقات الاجتماعية والسياسية، وتتناول الحقوق المدنية والسياسية، الحماية من التعذيب، والاعتقالات التعسفية والقسرية، وحماية الناس جميعاً ومساواتهم أمام القانون.

الحريات والحقوق

منح الله تعالى الإنسان عقلاً يفكر به ويهتدي بنوره، فتلك وظيفة العقل، والله جل شأنه لا يجوّز أن يهدر إنسان هذه المنحة، فيحيا أحمق وهو يستطيع الرشد، بليداً وهو يستطيع النظر، فالله ذرأ الناس على فطرة سليمة ينبعثون منها، والإسلام أساساً يؤكد على منطق الفطرة والعقل، وقضية الحريات الأساسية للإنسان تشكل أولويات اهتمامات الإسلام، وهذا ما أثبتته سيرة الرسول الأكرم محمد (ص) ومن بعده سيرة الأئمة من آله الأطهار (عليهم السلام)، في قيادة الدولة والأمة الإسلامية.

الإسلام يبدأ عمليته في تحرير الإنسانية من المحتوى الداخلي للإنسان نفسه، لأنه يرى إن منح الإنسان الحرية، ليس أن يقال هل هذا هو الطريق قد أخليناه لك فسر بسلام، وإنما يصبح الإنسان حراً حقيقة، حين يستطيع أن يتحكم في طريقه ويحتفظ لإنسانيته بالراي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته، وهذا يتوقف على تحرير الإنسان قبل كل شيء من عبودية وأسر الشهوات التي تعتلج في نفسه، لتصبح الشهوة أداة تبنيه للإنسان الى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخر إرادة الإنسان دون أن يملك بإزائها حولاً او طولاً، لنها إذا أصبحت كذلك حسر الإنسان حريته منذ بداية الطريق ولا يغير ن الواقع شيئاً أن تكون يداه طليقتين وعقله وكل معانيه افنسانية حبيسة وبعيدة عن فعل تأثيرها الإيجابي في المحيط الإنساني.

(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب) (5).

هذه هي معركة التحرير في المحتوى الداخلي للإنسان، وهي في نفس الوقت الأساس الأول والرئيس لتحرير الإنسانية في نظر الإسلام، وبدونها تصبخ كل حربة زيفاً وخداعاً وبالتالي أسراً وقيداً وخاض القرآن الكريم بعد معركة التحرير الداخلي للإنسانية، معركة التحرير (الخارجي) في النطاق الاجتماعي، (قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباب من دون الله) (6).

فعبودية الإنسان لله تجعل الناس كلهم يقفون على صعيد واحد بين يدي المعبود الخالق، فلا توجد أمة لها الحق في استعمار أمة أخرى، واستعباد فئة لأخرىة من فئات المجتمع، يباح لها اغتصاب فئة أخرى، وانتهاك حريتها، ولا إنسان يحق له أن ينصب نفسه صنماً للآخرين، وبعد أن يكون الإسلام قد حرر الإنسان داخلياً من عبوديات الشهوة، وتحريره خارجياً من عبوديات الأصنام، سواءً كان الصنم أمة أو أم فرداً، يجيء دور الحرية في بال السلوك العملي للفرد، وفي وقت وضع الباري تعالى الكون بأسره تحت تصرف الإنسان وحريته، ولكن حرية محدودة بالحدود والموازين التي يقرها الشرع المقدس، وتتفق مع تحرره الداخلي والخارجي.

لقد قام الإسلام مجموعة متكاملة من التعاليم الأخلاقية والمعنوية، لحفظ حرية وحقوق الانسا وتربية السلوك الإنساني، والقرآن الكريم هو دستور الإسلام، يشير بتأكيد ثابت، إن النظر في إعطاء كل ذي حق حقه، جاء أول ما جاء في الإسلام (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم أن تحكموا بالعدل)(7)، حيث يعتبر الإسلام العلاقة بين مفهوم الحق ومفهوم العدل، علاقة متلازمة، ذا امتداد مستقيم متواز على خارطة الحياة الدنيا والواقع الإنساني، ولا يمكن فصل أحد المفهومين عن أحدهما الآخرن، فإنه يصح من معاني العدل في الإسلام هو رعاية الحقوق وإعطاء كل ذي حق حقه، والظلم ضمن هذا المعنىة هو عبارة عن سحق الحقوق والتجاوز على حقوق الآخرين، والعدل هنا يقع في إطار (العدالة الاجتماعية)، التي ترتكز على مبادئ القرآن والسنة ووصايا أئمة اهل البيت (عليهم السلام).

المفهوم القرآن يدلل على عن جميع الحقوق تستقي من حرية الإنسان، وتصبح مضمونة بتنفيذ الواجبات والتكاليف في الاجتماع والسياسة، والمجتمع الذي يمنح أفراده مزيداً من الحقوق، يعتبر أوسع حرية من تلك المجتمعات التي إما أن تعطي الحقوق ولكنها لا تحميها، كما هو في بعض دول الغرب، أو إنها تعطي حقوقاً محدودة وفي نطاق ضيق، من باب التظاهر بالعدل والديمقراطية.

خلاصة نظرية الإمام السيد الشيرازي في الحرية تفيد:

«الحرية أصيلة في الإنسان، التحرر هو الطابع العملي في عالم الواقع والحياة، الإسلام يجمع بين أصالة الحرية وضرورة التحرر، الحرية هي التي تؤطر القوانين الاجتماعية، العلاقة بين الحرية والتوحيد علاقة عضوية»(8).

وجود الحرية مرتبط بثلاثة أمور أساسية:

1- غياب الإكراه واليود البشرية عن الإنسانية.

2- غياب العوامل الطبيعية التي تحول دون تحقيق القرار الحر.

3- امتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً.

4- إمتلاك وسائل القوة الكفيلة بتحقيق الأهداف المختارة إرادياً.

وخلاصة القول إن الدين (الإسلام) والحرية أمران مترابطان لا يفترق أحدهما عن الآخر، فكلاهما يعنيان خلاص الإنسان من العبودية وقيود التسلط الجاهلي والتخلف، وتحرير العقول والأفكار في كل المجالات.

وحين يقر الدين المساواة (إن النالس من عهد آدم إلى يومنتا هذا مثل أسنان المشط، لا فضل للعربي على العجمي، ولا للأحمر على الأسود إلا بالتقوى)(9)، و(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (10)، فإن المساواة في الفرص ثمرتها الحرية، إذ لا حرية بدون مساواة الفرص لأنها أساس المبادئ والقيم التي تعني العدل والحق واحترام الإنسان.

أصناف الحريات

الحريات هي مجموع الحقوق والامتيازات التي يتجب على الدولة أن تؤمنها لحماية مواطنيها أو رعاياها، وهي تشير بصورة عامة إلى الحريات الأساسية التي يخولها الدستور للمواطن، ويصونهخا ضد التجاوزات التي قد تتعرض لها سواء من الأفراد الآخرين أو من الدولة نفسها.

كما إنها تشير إلى مجموع الحقوق الأساسية الفردية والجماعية سواء كانت معلنة صراحة في الدساتير أو مقبولة ضمنياً من خلال الممارسة السياسية الديمقراطية.

ونظرياً فإن مجالات الحرية كثيرة جداً وتتوزع على مجالات الحياة كافة مجمل النشاطات والفعاليات الإنسانية إلا أن الحريات الأساسية للإنسان تتركز على ستة أصناف، تتفرع منها أقسام عدة من الحقوق.

والامتيازات التي تغطي مجمل جوانب الحياة الإنسانية، والحريات الأساسية هي:

الحرية الفكرية

وظيفة العقل أن يفكر، كما أن وظيفة العين أن تبصر، النظرة الأولى في القرآن الكريم، تورث يقيناً جازماً بأن الإسلام يبني الاعتقاد الصحيح على النظر في الكون، وأنه يجعل اليقين الحق ثمرة التفكير الحق، كما يجعل الكفر ثمرة عقل أصابته آفة سلبته نوره، وضللت مسيره، وفي إشعار الإنسان بأن هذا الكون كله خلق لإرتقاءه تقول الآية القرآنية الكريمة:(وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)(11).

تبدأ حرية التفكير من علاقة المسلم نفسه بدينه، فإن قوام الإسلام ولب رسالـــته كتاب مفتوح ميسر للذكر، مطلوب من الأمة أن تتدبره وأن تستفيد منه شرائعها جميعاً، ومنذ أن نزل القرآن الكريم وشق الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) به طريق الحياة، شرع العقل الإسلامي يشتغل بجهد رائع، ويعمل في حرية مطلقة، ويختلف العلماء باختلاف أساليب البحث ووسائل النظر دون أي حرج. وربما اختلف الأولون في كلامهم عن العقائد نفسها، فقدم بعضهم العقل على النقل، وقدم آخرون النقل على العقل، وعند التأمل نرى أن الفريقين يقدران قيمة العقل الإنساني، ويعرفان له مكانته وقيمته.

الإسلام يؤمن بحرية الفكر وفي أوسع نطاق، بيد أن المهم الأصالة والجودة لهذا التفكير، حتى يعود من رحلاته المعنوية بحصيلة كريمة، كما إنه لا يقرّ اضطهار الفكر، إذ لم يقدم القرآن الكريم نظرية علمية ضيقة ومحدودة للناس يلزمهم بها ويؤاخذهم إذا تجاوزوها، كلا لقد أوصاهم بالنظر والتأمل وتركهم أحرار الفكر فيما يفهمون ويقررون.

وقد احترم الإسلام الحرية الفكرية لكل فرد من الناس، ما دامت محكومة بحسن النية وشرف الوجهة، ومنح كل امرئ حق الإبانة عن رأيه كما تكوّن في نفسه، واصطبغ بطبعه الحاد أو الهادئ، وبرز تفكيره الحر أو المرن.

ومن أروع ما يتعلق بحرية الرأي في الإسلام، إن علياً (عليه السلام) قدم مصلحة الإسلام على مصلحة نفسه. أي مصلحته الشخصية، وتمسكاً منه بحريته في الرأي والاجتهاد، عندما فوّت على نفسه الخلافة بعد عمر بن الخطاب، فقد انتهت المفاوضات والشورى بعد مقتل عمر إلى أن يحسم الأمر فيها عبد الرحمن بن عوف بتنصيب خاص من عمر فدعا الناس إلى المسجد، وكان الأمر غدا بين الامام علي وعثمان بن عفان، فوقف عبد الرحمن في المسجد ونادى من بين الناس علياً ليبايعه خليفة للمسلمين، على أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله واحتهاد الشيخين (ابا بكر وعمر)، فرفض علي ذلك، إلا أن يكون عمله بكتاب الله وسنة رسوله ويجتهد رأيه، فدفع عبد الرحمن يد علي، ونادى عثمان فقبل العهد الذي رفضه علي فكان خليفة بدلاً منه (12).

والإمام الشيرازي (دام ظل) يؤكد على الحرية الفكرية من غيرها، كونها تنمي الإنسان والمجتمع وتصنع التاريخ، ويركز بشكل خاص على جانب من هذه الحرية، وهي حرية البيان والقلم، ففي الإسلام التحرر الثقافي، فلكل إنسان الحق أن يصل إلى ما يريده من العلم والثقافة، فليس أمام فرد حاجز من المال، أو من غيره يمنعه عن الوصول إلى الجامعة، أو من فوق الجامعة. وفي الإسلام التحرر الاجتماعي، حيث لا تكون الامتيازات الطبقية المكفولة بسبب القوانين المفرّقة. والإسلام أقرّ حرية التعبير عن الرأي باعتبارها متممة لحرية الفكر، ولكنها مشروطة بأن لا تكون منطلقاً إلى بث المبادئ الهدامة والأفكار المجافية.

الحرية الدينية

الإيمان الصحيح حصيلة يقظة عقلية واقتناع قلبي ورؤية سليمة لمنطق الحق، وقد عرض الإسلام نفسه على الناس في دائرة هذا المعنى، (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (13)، (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) (14)، القرآن الكريم تناول المعارضين له والكافرين له بأسالبيب شتى، ليس بينها قط إرغام أحد على قبول الإسلام وهو عنه صاد، كل ما ينشده الإسلام أن يعامل في حدود الإنصاف والقسط، وألا تدخل عوامل الاستبداد والضغوط والإرهاب في صرف أمر انشرح صدره به، ولم يكن على الإسلام بأس، ولن يكون عليه بأس أبداً لو أصر الكثير ممن ينتسبون إلى الأديان الأخرى على البقاء في معتقداتهم، (لكم دينكم ولي ديني) (15).

كن مسيحياً أو يهودياً أو منتمياً لأي عقيدة دينية، ولكن لا تكن محارباً للإسلام ونبيه وأتباعه.

الإسلام أقر حرية العقيدة، وخطة رسول الله محمد (ص) كانت هي إبلاع مبادئ الرسالة إلى المجتمع دون أي فرض قسري، (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (16).

الحرية المدنية

وتعني كل التصرفات النابعة من شعور الإنسان بذاته، وضرورة اعتراف الجماعة بشخصه، وأهليته المطلقة للتصرفات وفق ما يريد وفق المقياس المعقول والمشروع. وعلى أساس هذه الحرية يملك كل إنسان أن يقيم حيث يشاء، وأن يجتمع بمن يريد الاجتماع بهم، وأن يحوز من المال ما يكسب، وأن يحترف من المهن ما يهوى، وأن يباشر العقود التي يرى إبرامها، وفق قانون يمنع الضرر والعدوان حتى لا يشتط أحد في استخدام حريته فيؤذي الآخرين، وينال من حرياته.

وهذه الحرية تبدأ من غريزة الشعور الإيجاب بالذات –كما يعبر علماء النفس- ولذلك فهي أساس لضروب شتى من الحريات، بل إن المفهوم السائد للحرية بين الجماهير يكاد لا يعدوها. وضدها العبودية أو الاسترقاق، الذي يفقد الإنسان أهليته، ولا يملك زمام نفسه، والله عز وجل خلق الإنسان كامل المسؤولية، وشرع له التكاليف الدينية، ورتب عليها المثوبة والعقوبة، على أساس إرادته الحرة وامتلاكه المطلق للإتجاه ذات اليمين أو ذات الشمال.

إذن الحرية المدنية تكفل إعطاء الفرد الاختيار الحر في مجال العمل والسكنى والتملك وسائر الرغبات الشخصية، والأغراض الإنسانية.

الحرية السياسية

وهي تعني أمرين، الأول حق كل إنسان أن يبدي رأيه في سير الأمور العامة، وتحديد موقفه منها، وكذلك إزاء مختلف القضايا التي تدخل في إطار السياسة والشأن السياسي على صعيد الوطن والأمة.

الأمر الثاني: حق كل إنسان على ولاية الوظائف الإدارية أصغرها وأكبرها، ما دام بكيفياته أهلاً لتوليتها.

والواقع إن الإسلام لا يفهم وظائف الحكم إلا داخل هذا النطاق، فرئيس الدولة ومن دونه من الوزراء والمدار والموظفين، ما هم إلا أشخاص تختارهم الأمة ولا يفرضون عليها، وهي تختارهم لما تتوسمه فيهم من صلاحية لإدارة الأعمال التي تسند إليهم، وتعطيهم نظير ذلك أجراً يكفل معاشهم وأولادهم. وليست ولاية أي وظيفة وقفاً على أسرة من الأسر. فالنبوة اصطفاء من الله تعالى وكذا إمامة المعصومين من أهل البيت (عليهم السلام)، أما الخلافة الإسلامية فهي حكم الناس بالحق الذي بينه الله، فهذا أمر موكول للمسلمين عبر المبايعة (الانتخابات) السلمية العادلة والمشورة وشرائط التقوى والعدل والعلم وما إلى ذلك.

الإسلام دين الحرية وقد استنبط الفقهاء من الآيات والروايات القاعدة الفقهية المنشهورة: (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم)، وهذه القاعدة تعطي شتى أصناف الحريات للإنسان، وخاصة في المجال السياسي، فهو حر أن ينتخب مرجع تقليده، وهو حر في أن ينتخب رئيس دولته، وهو حر في أن ينتخب نواب مجلسه، وهو حر في أن ينتخب إمام جماعته، وهو حر في أن ينتخب قاضيه أو المحامي الذي يدافع عنه أمام القضاء، ويسافر ويزرع ويتاجر.

إن سنن الإسلام السياسية لتعقد على دعائم متينة محكمة جداً، ولو حفظت هذه القاعدة السنن وسيسيت بها الحكومة الاسلامية، ما أصاب دول الإسلام ما أصابها، فلقد أخذ المسلمون نظاماً سياسياً من الحكومات المستبدة الأجنبية المخالفة لهم كل المخالفة فأشرفوا بدولتهم على الزوال، وهو ما حصل في بدايات هذا القرن.

والقرآن الكريم نظام جامع لحياة المسلمين، وفيه أحكام لجميع مستلزمات حياتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والأهلية والعسكرية والجنائية والاقتصادية، وهو مجموعة للأحكام المقنعة الكافية لكل فعل وقول وحركة للإنسان.

والنبي (ص) جعل المسلمين أمة واحدة على اختلاف شعوبهم وقبائلهم، وأقر المسؤولية الشاملة لجميع الطوائف والقبائل وحفظ لها عاداتها، واشترط عليها إنكار البغي والظلم وشجبه في جميع المجالات ومناهضة القائم به، أياً كانت صفة نسبه وموقعه، ولم يكن الدستور الإسلامي يكفل حرية وحقوق المسلمين فحسب، بل وحتى اتباع الديانات الأخرى (أهل الذمة)، فمثلاً منح اليهود الحقوق العامة من الأمن والحرية والتسامح وحرية التعبير عن الراي والعقيدة، بشرط أن يسايروا المسلمين ولا يعيثوا فساداً في الأرض.

الامام علي بن أبي طالب (ع) يوصي في كتابه إلى عامله مالك الأشتر:

(ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمن..).

المعارك السياسية في سبيل استحصال وإقرار الحريات إنما هي كفاح مشروع يهدف إلى إقامة المجتمع الانساني القائم على أسس العدل والسلام، وعلى هذا الأساس تقوم المواجهة بين جبهتي الحق والباطل.

الحرية الاجتماعية

الحرية ليست منحة مذهب معين دون مذهب، لأنها منحة الله للإنسان، وعليه فهي لا تدرس على أساس مذهبي، ولكن ليس ثمة ريب أن الحرية بهذا المعنى لا تنفصل عن الحرية الاجتماعية، أي أن الحرية التي يهبها المذهب الاجتماعي المعين للإنسان على صعيد ممارسة الحياة، والمعركة في إثبات الحرية أصيلة أم لا، إنما تدخل في إطار ونطاق الفكر الاجتماعي. والحرية التي كانت ذريعة لسفك الدماء وهتك الأعراض، بل والتي كانت حجة لتقييد الحرية ذاتها، إنما هي الحرية الاجتماعية. فباسمها سالت أنهار من الدماء في أوربا ومثلها الصارخ الثورة الفرنسية عام 1789، وباسمها مُنع الناس من التعبير عن وجودهم وفكرهم وحضارتهم كما في دول العالم الاشتراكي بعد الحرب العالمية الأولى ثم الثانية. وباسمها خلقت الطبقية، وأطلقت إرادة القلة النادرة في العالم، التي باتت تتحكم بمصير المجتمعات والشعوب المختلفة.

للحرية الاجتماعي صور وجوانب عديدة في واقع الحياة الإنسانية منها الحد من التدخل التعسفي في حياة الفرد الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، وحرية التنقل واختيار محل الإقامة بما في ذلك حق مغادرة الشخص أي بلد وحق العودة إلى بلده، وحرية الزواج وتأسيس الأسرة.

الحرية الاقتصادية

وفي إطارها تدخل جميع الفعاليات والممارسات الاقتصادية المشروعة، التي تدخل في حياة الإنسان، ومهمات بناء كيانه الشخصي بما يضمن أو يكفل أمن مستقبله هو وأفراد أسرته (الزوجة والأبناء)، وبما يؤمن لهم حياة حرة كريمة، وبعرق جبينه، من خلال مجهود العمل الذي يبذله، ويحصل لقاء على ما يسد رمق عيشه وقوت عياله، دون أي استغلال أو إجحاف أو ظلم.

ومن أبرز صور الحرية الاقتصادية، حرية العمل (الكسب الحلال- التجارة - البيع والشراء – التملك – الاستثمار – الإقتراض)..

1 ـ الإمام الشيرازي: كتاب السياسة ص63.

2 ـ الشهيد الصدر: اقتصادنا ص381.

3 ـ الشيخ فاضل الصفار: ضد الاستبداد ص53، والشيخ جعفر السبحاني: معالم الحكومة الإسلامية.

4 ـ الأنبياء: 107.

5 ـ آل عمران: 14.

6 ـ آل عمران: 64.

7 ـ النساء: 58.

8 ـ الإمام الشيرازي: الحرية الإسلامية.

9 ـ البحار: ج22 ص384.

10 ـ الحجرات: 13.

11 ـ الجاثية: 13.

12 ـ الشيخ محمد الغزالي: حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة.

13 ـ الكهف: 39.

14 ـ الغاشية: 31-32.

15 ـ الكافرون: 6.

16 ـ البقرة: 256.