مجلـــة النبـــأ      العــدد 29      السنـــة الرابعـــة      شـــوال 1419

الحكومة والحكمة

سياسة في الاتجاهات المختلفة


حيدر حسين الكاظمي

مما لاشك فيه أن القرآن الكريم هو معجزة الإسلام الكبرى فهو يزخر بين طياته علماً ومعرفة وغرائب وعجائب وحكمة وعبرة وكل ما يحتاج إليه الإنسان والإنسانية في مسيرة الزمن الحالي والقادم وصور القرآن الكريم ليست صوراً يراد بها إبهاج سمع القارئ أو السامع أو إدخال الطمأنينة إلى قلبه المضطرب وحسب، وإنما هذه الصور تصيغ لنا كثيراً من السياسات والمناهج التي سار ويجب أن يسير عليها الخلف الصالح ومن بين الموارد العديدة التي عالجها القرآن الكريم هو موضوع إدارة الحكم وسياسته.

وللقرآن الكريم صور ومواقف وآيات كثيرة تبدأ بتسهيل هذا الموضوع الحساس إلى ذهن السامع والمتلقي وهي في جملتها تبدأ بمعالجة نواحي هذا المبدأ الذي طالما خلق العديد من الاهتزازات والاضطرابات في عالم البشرية وربما كان هو الأساس في كل المصائب أو الرفاهية التي تصيب الإنسانية في كل زمان ومكان، ولعلّ قصة النبـــي سليمان عليه السلام مع مملكته العظيمة وسياسته مع ملكة سبأ بلقيس. لعلّ هذه القصة وجميع قصص القرآن تستحق منا أكثر من وقفة وخاصةً سورة النمل لنعلم كيف عالج سليمان أمور دولته وهو ملك عليها ولقد أوتي مفاتيح القوة من قبل الله تعالى ولنبدأ بمحاكاة هذه القصة عن قرب حتى نستلذ بأسرارها ونستفيد من مواقفها في الحكم والإدارة.

حكومة سليمان عليه السلام

لا شك أن سليمان عليه السلام وهبه الله ملكاً عظيماً فهو كان المطلّع على تفاصيل مملكته من أصغر مخلوقٍ وهي النملة إلى أقوى فئةٍ يحكمهم وهم الإنس والجن(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطّير فهم يوزعون).وعندما يكون هنالك حاكما على هذه المخلوقات المتعددة الأجناس لابد أن يكون هذا الملك مطلقا تماما يعلم بلغة رعيته وإلا كيف يتسنى له حكم ولا فهم وتوجيه مالا يفهم منه . لذلك وهب الله سبحانه لسليمان نعمة معرفة لغات الكائنات التي كان يحكمها(علّمنا منطق الطّير وآتينا من كلّ شيء)يذيعها سليمان عليه السلام في الناس تحدثاً بنعمة الله وإظهاراً لفضله لا مباهاة ولا وسيلة ينفذ من خلالها إلى السيطرة على رقاب المخلوقين وآمالهم وطموحاتهم وحرياتهم بل جعل سليمان عليه السلام ذلك الفضل من الله نعمة لابد أن يؤدي حقها فكلما عظمة النعمة عظم حقها وحق أدائها على الإنسان.. فسليمان عليه السلام يطلب دائماً أن يوفر الله تعالى له أسباب شكر النعمة وأداء حقها(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه).. فهو إذن يدرك أن الملك ما هو إلا تكليف وليس فعالياً وإن هذا التكليف له واجبات كما وعليه حقوق.

إذن فمملكة سليمان عليه السلام كانت حدودها ما يعرف اليوم بفلسطين وسوريا ولبنان والعراق إلى ضفة الفرات. ومملكته كانت هذه الدول وليس جميع الأرض وكانت رعيته هؤلاء الأصناف الذين ذكرهم القرآن في آياته. ولندخل الآن إلى حيثيات حكم سليمان وسياسته التي تعامل بها مع رعيته وكيف يدير سليمان المملكة هذا إذا أخذنا طبعاً أول شيء عرفه سليمان كحاكم وملك إن كل الذي فيه والذي وصل إليه هو بفضل الله ونعمته وأنه ما هو إلا امتحان واختيار له ولرعيّته على كيفية أداء شكر هذه النعمة ومراعاة تلك الأمانة. فالدولة ليست مسؤولية الحاكم فحسب وإنما هي مسؤولية الرعية بما لهذين القطبين من صياغة شكل الدولة وسياستها..وينبغي قبل تجانس هذين القطبين وتفاعلهما في صياغة حياة الأمة أن يبدأ كل قطب بإصلاح سريرته ومن المعلوم أن إصلاح الذات وهو الجهاد الأكبر أرفع قدراً من صلاح العمل وأنه بداية الانطلاقة نحو قيادة الن زعات والانحراف ولهذا نرى سليمان عليه السلام سأل الله تعالى صلاح ذاته وبعد ذلك سأله أن يمكنه من صلاح عمله لقوله (وأن أعمل صالحاً ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين)(1)، أي سأله التدرج من الأسفل إلى الأعلى. وأن العمل الصالح الذي طلبه سليمان ليرضي الله تعالى فهو مما لاشك فيه هو كل عمل يقربه من الله ويجعله يسعد الآخرين الذين سبب الله له سبل حكمهم ولعل من أهم الأمنيات التي طلبها سليمان عليه السلام ويطلبها كل حاكم صالح من ربه بأن يمكنه من إدارة دفة حكمه على أسس وقواعـــد تخدم الأمة وتصب في صالح البشرية وسعادتهم.. وإنما سأل سليمان عليه السلام ربه أن يوفقه للعمل الصالح الذي يرضاه هو رغبة سليمان (عليه السلام) بالوصول إلى حالة الوثوق الكامل من نفسه باستخدام العدل في حكمه لذلك كان في الشريعة حرمة طلب الرئاسة مع عدم الوثوق باستخدام العدل.فعن معمر بن خلادة عن أبي الحسن عليه السلام أنه ذكر رجلاً فقال أنه يحب الرئاسة فقال عليه السلام: ما ذئبان ضاريان في غنم قد تفرق رعائها بأضر من دين مسلم من الرياسة، وعن الإمام زين العابدين عليه السلام إياّك أن تترأس فيضعك الله وإيّاك أن تستأكل بنا فيزيدك الله فقراً واعلم أنك ذنباً في الخير خيرٌ لك من رأسا في الشرع. ويقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): إلا ومن تولى عرافة قوم أتى يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه فإن قام فيهم بأمر الله أطلقه الله وإن كان ظالماً هوى به في نار جهنّم وبئس المصير(2).

شروط.. ومقومات

إذن فهو التوفيق لإقامة العدل والوصول إليه والسؤال من الله تعالى على أن يأخذ بيده كي يصل إلى تلك الدرجة وللحكومة في أي زمان ومكان شروطاً عامةً يجب أن توفرها في رعيتها حتى نستطيع أن نقول أنها مارست حق الله في رعايته وأعطت حق الرعية على حكامها ومن بين هذه الشروط المهمة هي:

العدل والإحسان: وهو رأس كل العمليات والسياسات التي يجب أن تمارسها الدولة اتجاه رعيتها قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون) (المائدة/8)، وقال تعالى (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهوائهم. وقل آمنت بما أنزل الله من الكتاب وأمرت لأعدل بينكم) (الشورى/14)، وهذه الآيات وآيات أخرى واضحة الدلالة بوجوب إتباع وحكم العدل على كل حال من الأحوال مع الأعداء ومع الأصدقاء بشؤون الحكم والمحكوم.. وأما إذا لم يمارس العدالة في الحكم فهو قد دخل بدائرة الذين كفروا بالله وكذبوا بآياته وإن كان مسلماً.وهناك نصوص عديدة دلّت على ضرورة العدل والتوجه إليه في كل قضية من قضايا الممارسات والعلاقات بين الراعي والرعية وبين الرعية أنفسهم.قال أبو عبد الله عليه السلام: (اتقوا الله واعدلوا فإنكم تعيبون على قومٍ لا يعدلون) وقال (عليه السلام): (العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قلّ)(3). لذلك كان العدل صفة القادرين المقتدرين وكان الظلم صفة العاجزين المحتاجين وإذا أخذ العدل مسيرته في الأمة والدولة سيبارك الله تعالى تلك الأيام وتلك السنين وتلك المسيرة يقول مولانا الصادق (عليه السلام): إن الله جعل لمن جعل له سلطاناً أجلاً ومدة من ليالي وأيام وسنين وشهور فإن عدلوا في الناس أمر الله صاحب الفلك أن يبطي بإدارته فطالت أيامهم ولياليهم وسنينهم وشهورهم وإن جار في الناس فلم يعدلوا أمر الله صاحب الفلك فأسرع بإدارته فقصروا أيامهم ولياليهم وسنينهم وشهورهم. وقد وفى الله عزّ وجل بعدد الليالي والشهور، وبين ثمرات العدل المشرقة واليانعة والتي تفضي إلى سلامة الدنيا والآخرة نرى خياله الذي ما سميّ ظلماً إلا لأنه من الظلمات في الدنيا ويوم القيامة.

فعن مولانا الصادق (عليه السلام): ما من ظلمة أشدّ من ظلمة لا يجد صاحبه عليها عوناً إلا الله، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة ولكي نصل إلى أقصى غاية العدل ونتجنب أقل درجات الظلم لا بدّ للسلطة أن تكون في أعلى مستوى من المسؤولية.يقول سماحة آية الله الشيرازي(دام ظلّه) للإسلام رئيس أعلى هو الذي يقلد زمام البلاد ولا يشترط أن يكون رئيس لجميع البلاد واحد بل يمكن أن يكون هناك عدّة رؤساء لكن هذه بطبيعة الحال في غير زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) والإمام (عليه السلام) وفي غيرها إذا توقف حفظ الإسلام إلى الوحدة ويشترط في الرئيس أن يستمد صلاحيته من الله سبحانه وتعالى بواسطة الإمام -الذي يستمد صلاحيته بدوره عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلّم)- الذي يستمد صلاحيته عن الله تعالى مباشرةً.وذلك أن الإسلام يرى أن الكون كلّه لله تعالى فلا يجوز تصرف أي شأن من الشؤون إلا بإجازة من الله (لله ما في السماوات والأرض) إذن فالسلطة التي هي من أهم الأمور لا بدّ أن تكون من الله تعالى وطريق الإذن من الإمام عليه السلام المأذون من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المأذون من الله تعالى... وأما أن يستولي أحد بدون مؤهلات على الناس سواء كان بإذنهم كما في الحكومات الديمقراطية أم بغير إذنهم كما في الحكومات الأرستقراطية والبيروقراطية فإن كل ذلك ممالم يؤذن به فيكون بخلاف الشريعة الإسلامية. كما أن توفر المؤهلات وحدها غير كافية لتولي الرئيس الغير معصوم عن الخطأ والظلم والتجاوز على أمور الدولة مالم يحظ برضى الناس وموافقتهم فإن أسلوب الشريعة الإسلامية في الحكم فهو أمران:

الأول: يكون القانون هو قانون الله تعالى.

الثاني: يكون تطبيق القانون ضمن رضاية الناس.

أما الأول فيدل على عدّة أمور منها

الكتاب: لقوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون).. فالحكم بغير ما أنزل مثله مثل السيارة لتي تخرج عن الجادة فتقع مصاطب فتهلكَ أي فسق ثمّ طلح ثمّ كفر.

وفي السنة: قوله عليه السلام: انظروا إلى رجل منكم قد أدى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فاجعلوه حكماً فإني قد جعلته عليكم حكماً(4).

والإجماع: فإنه قطعي بأنه لا يجوز حكم غير الله سبحانه بل هو من ضروريات الدين.

العقل: قطعي دلّ على أنه لا يجوز التصرف في ملك المولى (الله) إلا بإذنه، هذا كلّه بالنسبة للنقطة الأولى.

أما النقطة الثانية أي بالنسبة إلى لزوم رضى الناس فقد قال سبحانه: وأمرهم شورى... و شاورهم بالأمر... فكما أن الإنسان له أن يصلي خلف أي عادل ويقلد أي مجتهد ويراجع أي قاضي كل ذلك في الإطار الإسلامي المعين من الله سبحانه، كذلك الإنسان يختار أي مجتهد جامع للشرائط في الحكم ولديك قوله عليه السلام الحديث المتقدم (انظروا...) فإنه يدل على انتخاب الحاكم بيد الناس ولكن ضمن الإطار الإسلامي.كما أن رضاية الأمّة ببعض الحكام العدول تكفي في كونها سابقة عملية تطبيقيّة لهذا التشريع وقد ورد في الحديث الشريف: وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا(5).فالإسلام في حكومته ليس غولاً يمتص دماء الناس كما وأنه ليس أعرج يمشي كمشية العرنجل يتكأ فلا نقص في الجهاز الإسلامي بل الإسلام وسط يزن الأمور بميزان عادل ويصنع من الأنظمة ما لا بدّ منها في الرفاه والتصاعد بدون زيادة أو نقصان فالحكم الإسلامي حكم بمقدار الاحتياج لا إفراط ضار ولا تفريط ذو قبال. وعلى هذه الخطة الحكيمة ينظر الإسلام إلى جهاز الحكم فيضع نصب عينيه حاجات الناس التي تستغني عن الدائرة فيقررها ويرفض الزائد رفضاً باتاً(6).

ونعود مرةً أخرى للنبي سليمان عليه السلام في هذه النقطة الأولى من شروط الحكومة الصحيحة ألا وهو العدل ومما لا شكّ فيه أن سليمان عليه السلام كان ملكاً عادلاً في رعيته التي كان يحكمها مهما تنوعت وتعددت أجناسها وطبقاتها ذلك أنه يستمد هذه العدالة من عصمته عليه السلام كنبي من قبل الله تعالى. وتتجلى عدالة سليمان عليه السلام بشهادة النملة له رغم ما يملكه سليمان من الجنود وعدّة وموكب ضخم من الجن والإنس والطير إلا إن العدالة بين جنبيه وتحت ثنايا سلطانه وهذه الشهادة هو قوله تعالى(حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيّها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) وهي دالة على أن النبي سليمان عليه السلام لا يؤذي حتى على أصغر مخلوق وأضعفها ولا يصل ظلمه إلى أصغر هذه المخلوقة أنظر كيف تتجلى عدالة هذا الملك في أبسط رعيته وأقلهم شأناً... ويشكر سليمان عليه السلام ربه على هذه النعمة، نعمة التنبيه التي منّ الله تعالى بها عليه حيث عرف وعلم كلام النملة وشعورها وما تريد ومن تحتاج إلى آخره فهذا أضمن للعدل وأقرب للشكر.

وعلى الرغم من عظمة ملك سليمان عليه السلام وما وهب الله تعالى له وسخرّ له من المخلوقات فقد كان هذا الملك يسمع حجّة الآخرين ويستقبل منهم المحاججة ولو على نفسه.فهو لم ينزل القصاص على الهدهد إلا بعد أن يسمع حجته وعذره لذلك (فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسلطانٍ مبين) وهذا يعني أنه لايعذبه ولا يذبحه إذا أتى بعذر مقبول وسليم ويبدأ أحد رعيته بمناقشة هذا الملك العظيم ويعطيه الحجة فيقول له مخاصماً قوله على الرغم من ضعفه وقوّة سليمان يقول له أعلم أنك ملك ولديك هذا السلطان الكبير وما سخّر لك من الأشياء فإني أيّها الملك (أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين) هكذا يلزم الهدهد النبي سليمان والملك الحجّة في عدم قتله وعذابه ويعطيه دليلاً على عدم تمرده عليه وإيضاحاً في مدى خدمته وتطلعه بمجريات الأمور. وإلى جانب ذلك العدل تتجلى لنا صفة أخرى من صفات الحكم الصحيح العادل ألا وهي مسألة الحزم فالحزم يغني عن الفوضى في المملكة والحكومة فعندما سأل سليمان عليه السلام عن الهدهد علم الجميع أي جميع جنوده أنه غائب دون إذن الملك ودون إذنه وأمره وهذا بحد ذاته تجاوز على طبيعة النظام وهنا لابدّ للملك أن لا يعطي للجنود الآخرين مبرراً لهذا في المستقبل على التمرد وحتى إعادة نفس الخطأ خطأ الهدهد لذلك وجب الحزم في أمره وإعطاء صورة وشكل العقوبة لكل من ينتهج الأسلوب الغير صحيح وهنا تتجلى صورة وشكل من أشكال الحزم ألا وهو الترهيب والترغيب أو مايطلق عليه بمبدأ الثواب والعقاب والثواب والعقاب طريقة من طرق الحزم في الحكم وهو أمر لابد أن يتوفر فعن أمير المؤمنين عليه السلام قال الحزم النظر في العواقب ومشاورة ذوي العقول أو قوله من الحزم صحة العزم من الحزم قوة العزم وقوله أيضاً كمال الحزم استصلاح الأضداد وقدرات الأعداء وقال أيضاً الحزم صناعة شهرة الحزم السلامة من لم يقدمه الحزم أخره العجز وقال أصل الحزم الوقوف عند الشبهة وقال الإمام الحسن عليه السلام الاحتراس من الناس بسوء الظّن هو الحزم وقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما الحزم قال: مشاورة أهل الرأي وأتباعهم وقال الإمام الهادي عليه السلام أذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم وقال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: إن للحزم مقدارً فإن زاد عليه فهو جبن.وعلى الرغم من تدارك الهدهد لموقفه وإبداء السبب أو العذر الذي كان غائباً من أجله بذكاء وإيمان وبراعة كبيرة في عرض نبأه الذي أحاط به فإن سليمان عليه السلام لا يتسرع في الحكم عن صدق الهدهد أو كذبه فهو إنما كان يأخذه بتجربته للتأكد من صحته شأن ذلك شأن النبي المعصوم والملك العادل والحازم إذ قال له (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقيه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون) فهو لم يصدقه لعدم البينة لديه ولم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده أن يجرب ويتأمل. وهي صفة لابدّ أن تتوفر في شخصية القيادي وأن تتخلل بين طيات حكمته لتكشف لنا كيف كان يسيّر سليمان عليه السلام جهاز مملكته وطبيعة جهاز حكمه هذا ونرى أيضاً صفة الثواب والعقاب واضحة في منهج سياسة الملك سليمان وهي إحدى طرق العلاج التي ترسمها السياسة لرعيتها ونرى هذا المبدأ واضحاً حتى في الشريعة الإسلامية، لأن الإسلام نظر إلى الإنسان فوجده مركباً من شهوة وغضب تجلب الأولى كل ما يلائمه وتدفع الثانية كل ما ينافره وبعد ذلك حسب أن الملذات محدودة والآلام غير محدودة فمثلاً سلطة واحدة يديرها لنفسه، وهل هناك سلطات يقسمونها؟ وامرأة جميلة... وموقع ممتاز... وهلم جرا.ثمّ الآلام بعدد الأفراد الذين حرموا من هذا الخير الذي أراد كل أحد استئثاره لنفسه... فالعلاج يكون فيما يلي:الأول: جعل الثواب والعقاب يحدان من نشاط الأفراد السلبي وتكالبهم على الخيرات وهذا ما أهتمّت به الأديان بصورة عامة واهتمّ به الإسلام بصورة خاصة حتى أنك تجد في كثيراً من آيات القرآن تبشر أهل الخير الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً بنعيم مقيم لا زوال له ولا اضمحلال وينذر أهل الشر الذين يتعاطون الأثم بنار أحاطت بهم سرادقها وكفى بذلك ردعاً لقسم كبير من القبول عن الأجرام كما نشاهد إن شرورهم أقل بكثير من الذين سلموا قيادهم للإلحاد فالإجرام فيهم فرد أو جماعة أكثر بكثير من أولئك.

الجهاز الحاكم

الثاني: من طرف العلاج الأخرى هو جعل الجهاز الحاكم على قدر أحتياج الأمة فحسب فهو ينظر الى جهاز الحكم كما ينظر الى الخباز والعطار فكما أن الخباز يلزم أن يكون على قدر احتياج المدينة فلو زاد كان كلا على المجتمع كذلك الجهاز الحاكم لو زاد عن الاحتياج كان فاسداً أو مفسداً. وهذا بخلاف الأجهزة الحاكمة في نظر غير الإسلام فإنهم لا يزالون يسعون في جهاز المتمدنة منها ويضيقونها في المتوحشة حتى تكون من أشد مصائب المجتمع في الأولى وموجبة لخبال الأمور في الثانية وأنك لو سألت عن أي شعب ما أهم ما يعانيه من الضنك والضيق لأجابوك وطأت الحكومة سواء كانت شرقية أو غربية لأن الحكومة انتفخت بما لا تطاق فكل حركة وسكون وكل شأن من شؤون الحياة والموت تحت رقابة الحكومة وضنكها -وبالعكس لو نظرت إلى الجزيرة العربية قبل الإسلام لرأيت الفوضى والحروب والثورات نتيجة لعدم وجود حكومة كافية تأخذ بالزمام وتدير دفة البلاد في هدوء ورفاه. إذا فالنظرة الهامة للإسلام أن تكون الحكومة على قدر الاحتياج لا أزيد ولا أقل وقديماً قال: الزائد في الشيء كالناقص وعلى هذا الأساس وضع الإسلام تصميم الحكم حتى لا يتعدى الواجب من طرق الإفراط ولا التفريط فنظر إلى مقدار الحاجة فركب الجهاز بقدرها- فالحكومة بنظر الإسلام هي حلالٌ للمشاكل لا مكثر للمضلات ومليء للفراغ لا أقل من الفراغ وبهذه الخطة الحكيمة لقيت كل واحدة من الحكومة والشعب في ضل الحكم الإسلامي آمناً ورفاهاً وسعادةً وسلاماً(7).

أجهزة الرقابة

أما جهاز الرقابة الواجب توفره في كل جهاز حكمي فان أجهزة الرقابة في الإسلام تراقب مراقبة دقيقة منقطعة النظير وتتجاوز التكنولوجيا التي وصل إليها الغرب ومن أساليب المراقبة لدى الإسلام هي (التقوى) فالإسلام يشترط في جهاز الحكم.العدالة.. وهي عبارة عن صفة نفسية تمكنت من النفس حتى لا تصدر منها إلا الأعمال التي يرضى الله تعالى عنها، ومرضاة الله تعالى لا تكون إلا بالعدل التام بين الناس بحيث لا يبقى ظالم أو مظلوم.أما هذا الشرط (العدالة) فقد أغفلته الحكومات التي لا تتبع المنهج الإسلامي، فهي تشترط الشهادة والجدارة والخبرة وما إلى آخره. فأي شيء يمنعه من الظلم والتعدي إذن ؟ انه لاشيء إطلاقا إلا الوجدان ولا ينبت الوجدان إلا في قلب عامر بالأيمان بالله وإلا إذا لم يكن ذلك فهو الخوف إلى حدّ يقوّم كل معوجّ منه إذن فالميزة للحكم الإسلامي هو:إنشاء الجهاز الحاكم بقدر الاحتياج لا اقل من ذلك ولا أكثر.ربط الجهاز الحاكم بالله وباليوم الآخر ربطاً محكماً.اما أجهزة الحكم في غير الإسلام انتفاخ فيها يبقى ثم يزداد ويزداد إلى أن يخنق الناس وكل اعوجاج فيها لا يجد من يقاومه وهذا هو الذي تشتكي منه شعوب الأرض هذا اليوم.

ومن الطريف أن الشعوب في الوقت الحاضر تنتظر على الأغلب السبب في الاضطراب هذا الرئيس بعينه أو هذا الجهاز بشخصه أو هذا النظام بميزاته فلا يزالون ينخرون المعوج حسب اعتقادهم حتى يبدل الرئيس بغيره، أو ينهار الجهاز بكامله بثورة أو انقلاب ويغير النظام إلى نظام آخر -فلا يتنفس الشعب إلا وترى أن اللاحق كالسابق طابق النعل بالنعل والقذة بالقذة أن لم يزد الثاني إزهاقا وغشا وقيودا أو أغلالاً كما هو الغالب. فلا يرون في الجديد ضالتهم المنشودة وإذا بهم يبدءون الدور ويشرعون في الهدم الا أن ينقض، ويحذو الثالث حذو الثاني. إن كل رئيس وكل جهاز وكل نظام لا يستمد نظمه وقوانينه من الإسلام حريّ أن ينتفخ ويعوج من دون فرق بين الحالي والسبق ونظام ونظام وجهاز وجهاز ولا يسعنا الا أن نقول كما قال الشاعر:

بليت بأعور فعجزت عنه              فكيف إذا ابتليت بأعورين

3- نظر الإسلام في تركيبة جهاز حكمه إلى طبيعة الإنسان التي تتجلى في جهة الحرية وجهة التقيد. فهو من ناحية يطلب الحرية بأوسع معانيها،

ومن ناحية يتقيد ببني نوعه في جميع شؤونه، فلو أطلق الإنسان حريته بلا هدف أساء لنفسه وأساء إلى غيره- وإذا قيد بما يمكن أن يقيد ذهب جمال الإنسان وصار في أسوء عيش، والجهاز الحاكم يجب أن يراعي الجهتين بالعدل والقسط، فلو ضغط على الحريات كان خبالا، ولو أكثر من الحريات بلا هدف كان فساداً. فانك ترى في بعض الأنظمة توسعا في الحريات المسيئة فمن سكر وفجور وتهاتر ومن جهة أخرى من أراد التجارة والسفر والإقامة والعمارة تراه مكبلاً بقيود كثيرة وشروط مرهقة- لذلك ترى الإنسان يشتكي من كليهما الإطلاق والتقييد، بينما في الإسلام لا تجد ذلك، وانما لكل شروط وضوابط كفيلة بالفوز بفوائد الحرية الصحيحة وحدود الإنسانية العادلة.

4- والميزة الأخرى لجهاز الحكم في الإسلام هي طريقة العقاب، فقد جعل الإسلام لكل من تعدى حدّاً من الحدود عقاباً صارماً لئلا يشغل المجرمون بساطة العقاب فيسؤن إلى أنفسهم وإلى الناس وهذا بخلاف الأنظمة الأخرى، فإنها حيث لم تلاحظ هذه الناحية المهمة وخففت العقاب أطلقت أيدي المجرمين ولا منقذ -فمثلا إن جزاء القتل العمدي في الإسلام هو القتل - النفس بالنفس والعين بالعين وقوله تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أُلي الألباب) فإذا قتل القاتل لم يجرأ أحد بعده على القتل، لذلك انخفض في ظلّ الإسلام جرائم القتل، اما الأنظمة الأخرى فإنها تحبس القاتل على الأغلب، ولذا كثير ما يقتل إنسان واحد عددا كبيرا وما أهون السجن وخصوصاً إذا شمله العفو وكان للمحاماة في إطلاق أو تخفيف سجنه يد طويلة، هذا بالإضافة إلى أن عدد القتلى يزيد إذ الخوف من العاقبة ضئيل جداً.

رسالة.. دبلوماسية

ونعود إلى قصة سليمان (عليه السلام) بعد أن شغلتنا أمور أجهزة الحكم وبعد أن طلب من الهدهد إرسال كتاب إلى بلقيس لتتوجه أذهاننا إلى مكانٍ آخر هو مملكة بلقيس التي كانت هي وقومها يشاركون بعبادة الواحد القهار ولنستطلع بشكل دقيق إلى ما هي طبيعة حكم بلقيس والذي يبرز من خلالها سياق الآية الكريمة إن نستطيع أن نستخلص الجزء الآخر أو الفقرة الثانية من طبيعة الحكم وواجباته التي ابتدأنا بها في أول الحديث.وهو العدل والإحسان لنصل إلى النقطة المهمّة الأخرى التي يجب توفرها في قواعد الحكومة الصحيحة ألا وهي.

الشورى.. والحوار

الشورى: لا شك أن حكم بلقيس هو خارج عن حدود الإيمان بالله تعالى ولكن الله تعالى وصف لنا طبيعة هذا الحكم وكيف كانت بلقيس تدير دفة هذا الحكم والظاهر في سياق الآية إن بلقيس قالت (يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم، إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألاّ تعلوا عليّ وآتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون)ونجد في الظهور في الآية فارق طبيعة الحكم بينها وبين فرعون الذي يقول(ما علمت لكم من إله غيري)ونجد أن بلقيس كانت تعتمد الصدق في حكمها مع الرعية بحيث أنها قالت (ألقي إلي كتاب كريم)بينما كان فرعون يصف موسى عليه السلام بالمجنون والساحر وهو يعلم تماماً أنه رسول من الله رب العالمين وإلى جانب الصدق الذي كانت تعتمده بلقيس فإنها كانت ذات نزعة سلمية ولو أرادت النزعة الحربية والعنف لما أظهرت لهم الكتاب وحقيقة ما فيه من دعوة إلى الدخول في عبادة الواحد القهار وهي بذلك تعطي لمجلس حكمها آثار ونتائج الحروب التدميرية على الشعوب وعلى الحكام (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزّة أهلها أذلة وكذلك يفعلون)وبهذا الوصف المرّوع والمشؤوم تحاول بلقيس تجنب هذه الكارثة قدر المستطاع بحكمة الملك الذي يخاف على رعيته ويحفظ كرامتهم.ويتضح بعد ذلك بجلاء مبدأ من مبادئ الحكومة الصحيحة ألا وهو -الشورى- إن بلقيس ومن خلال عرض الآيات لم تحاول الانفراد بالقرار السياسي للمملكة رغم أنها الملكة وبيدها صلاحية ومفتاح القرار لكنها كانت تعتمد على مبدأ يرعى مصالح الدولة وهو الشورى الذي هو ضمان لكل مبدأ صحيح في الحكومة، ومبدأ المشورة والشورى في الإسلام واضح كوضوح الشمس في رابعة النهار حيث أن الدولة الإسلامية مبنية علىالشورى في كل شؤونها ومن الضروري تحكيم الشورى في الدولة الإسلامية وفي العالم أجمع فيجب أن تكون كل الأمور من القرية إلى العاصمة ومروراً بالمعامل والمصانع والمطارات واتحاد الطلبة والمدارس والجامعات وغيرها مبنية على الشورى فإنها تظهر الكفاءات وتقدم الضوابط وتزيل الروابط والرشاوى والمحسوبية والمنسوبية وما أشبه بينما الدكتاتورية بالعكس فالشورى تنتهي بالمجتمع إلى القمة والدكتاتورية تنزل به إلى الحضيض وفي الحديث: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أكثر الناس استشارة كما أن الإمام علي عليه السلام جعل من حق الأمة عليه أن يستشيرهم وفي أحاديث كثيرة إن من وظيفة المسلم.

(النصيحة) ويراد بها إعطاء المشورة والنصح لإمام المسلمين، كما وأن من وظيفته لغيره أيضاً ففي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من يضمن لي خمساً أضمن له الجنة قيل: وما هي يا رسول الله النصيحة لله عزّ وجل والنصيحة لرسوله والنصيحة لكتاب الله والنصيحة لدين الله والنصيحة لجماعة المسلمين وعن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم الناس منزلة يوم القيامة أفشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه(8).

وقد دلت الروايات العديدة على أهمية الشورى للأخ للأهل للعشيرة للأمة كل ذلك خدمة للأمة وسلامة منهجها. فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الحزم أن تستشير ذا الرأي وتطع أمره(9)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: شاور قبل أن تعزم وفكر قبل أن تتقدم(10)، وعنه عليه السلام: أفضل من شاورت ذوي التجارب(11).

وقوله (عليه السلام) خيانة المستسلم والمستشير من أفظع الأمور وأعظم الشرور وموجب عذاب السعير(12)، وقال أيضاً إستشر أعدائك تعرف مقدار عداوتهم ومواضع مقاصدهم(13)، وقال الإمام الحسن عليه السلام: ما تشاوروا قوم إلا هدوا(14).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: إن المشورة لا تكون إلا بحدودها الأربعة: فأولها أن يكون الذي تشاوره عاقلاً والثاني أن يكون حراً متديناً والثالث أن يكون صديقاً مواخياً والرابع أن تطلعه على سرك فيكون علمه به كعلمك ثمّ يسر ذلك ويكتمه(15). وقال عليه السلام: أيضاً لا تكوننّ أول مشير وإيّاك والرأي الخطير وتجنب ارتجال الكلام ولا تشر عن المستبد برأيه ولا على وغد ولا على متلون ولا على لجوج(16). وقوله (عليه السلام): من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه الله عزّ وجل رأيه. ولهذا تجلى مبدأ الشورى في حكم بلقيس إذ قالت لأصحاب مشورتها (ما كنت قاطعتاً أمراً حتى تشهدون)وهي تدل بوضوح على مسألة الشورى والمشورة وعلى الرغم من أن أفراد مشورتها أوضحوا لها مقدار ومكانة قوّة الملكة وما تملك من إمكانيات (قالوا نحن ألوا قوّةٍ وألو بأسٍ شديد والأمر إليك فانضري ماذا تأمرين)ولو صوّر لبعض الحكام المستبدين هذه النزعة من القوة والإمكانات الهائلة لخاض شعبه ألف حرب مهما كانت النتائج والآثار لكن بلقيس كما صورّ لنا القرآن أخذت جانب الملاينة والحيلة قبل أن تستل سلاح القوة والمخاشنة الذي يعود على الأمة بالتدمير والهدم والخسارة وهلاك أجيال لا ذنب لها سوى أنها ولدت تحت يد طاغية أو متجبر في الأرض وكانت بلقيس تدرك مقدار قوة سليمان عليه السلام بما سمعت عنه من قوة وبأس وجنود والهدية لعلها تلين قلب سليمان وتعلن عن ودّ صاحبها وقد تنفع في دفع الحرب والقتال وهي بنفس الوقت اداة أختبار وتجربة جعلتها بلقيس بحكمتها لتختبر امر سليمان فأن قبل الهدية فهو من ملوك الدنيا وطلابها ووسائل الدنيا تجدي معه وأن لم يقبلها فهو من أمراء العقيدة الذي لا يصرفه عنها مال ولا عرض من أعراض الدنيا فأدركت أن المال الذي هو عنصر الثروة والأغراء لم يأت بفعله مع سليمان (عليه السلام) ولم يسحره وبهذا أدركت بلقيس سرّ قوة سليمان (عليه السلام) وحبّذت بعد ذلك الخيار السلمي لها والدخول إلى راية الحق راية سليمان (عليه السلام) بما تضمن السلام لها ولقومها لانها أحست بثقل المسؤولية وعظمة الامانة فجائته بنفسها التي تمثل بها رمز الدولة والمملكة وكبريائها معلنة إقرارها بالحق وليس عيباً على رمز الدولة وملكها أن يختار جادة الحق والصواب بعد أن تتبين لهو فهو لا يرى شخصه في تصرفاته وردوده وقراره السياسي بل يرى آمال رعيته من الشيوخ والنساء والأطفال وآمال وطموحات الشباب في الحياة والعيش بهدوء وسلام ولم تأخذه العزة بالاثم والتكبر والمغامرة وبهذا ضمنت بلقيس لها ولقومها الحياة الأفضل مع توحيد الله والعيش تحت ظل الوحدانية والخلاص واختير سليمان وظهرت له أيضاً حكمة بلقيس بقيادة مملكتها وكيف أنها لا تتسرع باتخاذ القرار أو الإجابة على كل مايعتريها من شبهات فعندما جيء بعرشها ورأته لم تقل هو لعلمها أنها قد خلفته وراءها في مملكتها بأيدي مصونة ولم تقل ليس هو لأنه فيه من الصفات والشبه الكبير ما يجعلها لا تكذبه ولا تنفيه ومن خلال هذه الحيرة اتخذت خير الأمور وهو أوسطها في الجواب فقالت (كأنه هو) وهذا جواب حكيم لا يقبل التخطئة لأنه يحتمل كل الاحتمالين وبعد أن توفرت لها الآيات والبراهين لم تبقها على كبرياء الملك الفارغ المعاند الذي لا يصدّه حق ولا باطل ولم تنحدر نحو غرور الملوك الذين يرون أن العرش والكرسي هو كلّ شيء وسواهما هو الباطل. بل اعترفت بخطئها وأسلمت لرب العالمين وقالت معترفة بذنبها (رب أني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)فوقفت مدهشة أمام هذه العجائب والدلائل التي يعجز البشر عنها وتدل على أن سليمان عليه السلام مسخرٌ له قوى أكبر من طاقة البشر فرجعت إلى الله وناجته بظلمها لنفسها فيما سلف من عبادة غير الله معلنتاً إسلامها مع سليمان عليه السلام ولكن لا إلى سليمان كملك وقوي ولكن -الله رب العالمين- مالك الملوك وجبار الجبابرة، وعرفت أن الإسلام له ليست استسلاماً بل سلام للمؤمنين والداعين إلى الله طريق الحق والعدل والحرية وسجّل القرآن الكريم هذه اللفتة وأبرزها للكشف عن طبيعة الإيمان بالله والإسلام له فهي العزّة التي ترفع المغلوبين إلى صف الغالبين بل التي يصبح فيها الغالب والمغلوب أخوين في الله لا غالب منهم ولا مغلوب بل الكل منتصر وآمن بعزّة ورفاه.؟

(1) في ضلال القرآن - سيد قطب - ج/19 سورة النمل.

(2) الصياغة الجديدة/ سماحة السيد الشيرازي، ص471.

(3) الصياغة الجديدة /سماحة السيد الشيرازي ص478.

(4) تحرر الحكم.

(5) بحار الأنوار /ج75 /ص219.

(6) إلى حكم الإسلام سماحة السيد الشيرازي/ص81-89.

(7) إلى حكم الإسلام سماحة السيد الشيرازي/ص70-74.

(8) الصياغة الجديدة /سماحة السيد الشيرازي ص479.

(9) بحار الأنوار /ج75/ص105.

(10) تحرر الحكم /15.

(11) تحرر الحكم /17.

(12) تحرر الحكم /19.

(13) تحرر الحكم /21.

(14) مكارم الأخلاق /318.

(15) بحار الأنوار /ج75/ص104.

(16) بحار الأنوار /ج75/ص102.