ولايــة الفقيــه أم شــورى الفقهــاء ؟ نقــاط الضعــف .. و عوامــل القـــوة |
|
الشيخ محمد كاظم الخاقاني |
الحمد لله الذي جعل أئمّة العدل مصباحاً للهدى ومناراً للرشاد في ديار الغفلة وظلمات الهوى في مواطن الوهم والخيال، والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد(ص) وآله الأطهار(ع). وبعد.. فإن الإمامة هي الولاية المطلقة وهي من الأسماء الإلهية فهي أعظم شأناً من النبوّة والرسالة، أجل الولاية كمال النبوّة، والولي الأعظم إمام الأئمة طراً في عالم الإمكان وهو الرسول الأعظم محمد(ص)، ومن جملة ما يسترشد به لعظيم الولاية والإمامة قوله تعالى: ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (1) ، كما قال أيضاً:( يا داود إنا جاعلك للناس خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله إن الذين يضلّون عن سيبل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) (2). فمن بديهيات العقل والنقل أنه لابدّ وأن تحفظ الشرائع الإلهية بعد رحيل الرسل بأئمة عدل يشرحون بطون الرسالات لإيصال المجتمع إلى كماله المطلوب علماً، ولتطبيق الموازين لإقامة نظم العدل عملاً في غضون عشرات السنين لتصبح رسالات السماء بما فيها من قمم العلياء حضارة وحياة للأمم في ميادين العلم والعمل كما أراد الله تعالى ذلك تحقيقاً لمثالية العدل والرحمة بعد رحيل الرسول الأعظم(ص) أيضاً على أيدي نقبائه نقيباً بعد نقيب على مدى اثني عشر نسلاً، فالولاية لله تعالى وللرسول وللأئمة المعصومين من بعده ومما يتفرّع على هذه الولاية ولاية فقهاء الأمة المعبَّر عنها بولاية الفقيه فهي فرع ولاية المعصومين التشريعية المطلقة لكونهم(ع) أولى بالناس من أنفسهم لرفيع مقامه وفنائهم في ذات الله تعالى فلهم التصرف في الأنفس والأعراض والأموال وليس الكلام في ما أعملوه من ولاية في الخارج فإنه لم يحدّث التاريخ عن إعمالهم للولاية إلا في نوادر من الظروف وما كان من فتح مكة فهو ليس إلا دفاعاً عن النفس والكيان الإسلامي، ولم يكن حرباً ابتدائياً كما وأن التاريخ لم يحدّث حتى في مورد واحد أنهم (ع) أخذوا مالاً أو طلقوا امرأة بدون رضا زوجها لمصلحة أو صالحوا على أراضي المسلمين. إذن ولاية الفقيه من متفرعات ولاية المعصوم، على الرغم من اختلاف الاعلام فيها سعة وضيقاً بعد الاعتقاد بأصل ثبوتها من كافة الاعلام. ولبعض الملاحظات رأيت من الأولى التعرّض لهذه الولاية وتقديمها على أصل الولاية والإمامة التي سيأتي البحث عنها إنشاء الله تعالى وعما هو المراد من الولاية التشريعية والتكوينية أيضاً. والإعلام في ولاية الفقيه على ثلاثة مسالك: |
الولاية الصغرى |
وهي مسلك بعض الاعلام في ولاية الفقيه كالشيخ محمد حسين الأصفهاني وصاحب الحدائق وما يبدو من الشيخ الأنصاري ولعلّه مسلك السيد الخوئي والمحقق النائيني أيضاً وكذلك بعض المتقدمين والمتأخرين. وللراد منها أنه ليس للفقيه في زمن الغيبة إلا الفتوى والقضاء في الأمور المالية، وعليه فلو حصلت بعض الدعاوي بما تستلزم إقامة الحدود كالسرقة مثلاً فليس للفقيه سوى الحكم بما يؤدي إلى إعادة المال دون إقامة حد السرقة، ولو فرض مجيء الناس طالبين منه إقامة دولة إسلامية لكانت الإقامة من قبل الفقهاء من باب القيام بالأمور الحسبية، لكون الفقيه أحد المؤمنين ذوي الخبرة في القوانين الإسلامية لا أن له ولاية وسلطاناً خاصاً من قبل الله تعالى. فإذن ليس للفقيه إلا القضاء والحكم بقبول فتواه وإلا فليس من حقه الحكم بالجهاد أو جلب الحقوق أو الهدنة والمصالحة مع الكفار، ولا الحكم بالأهلة، ولو تولى أمراً كأموال الغائب أو القاصر لكان من باب ولاية عدول المؤمنين، لأن هذه من الأمور الحسبية. وقد استدلّ هؤلاء الأعلام على مسلكهم بعدم الدليل على ثبوت ولاية للفقيه في الجهات العامة لأن المقبولة لا تثبت الولاية إلا في القضاء. أما التوقيع الشريف من قبل الحجة (عج) فإن المراد من الحوادث فيه مجهول وإن كان لا نقاش فيه من حيث السند لإمكان النقاش فيه من جهات شتى منها أن الحوادث معطوفة على شيء لم يذكر في الرواية حتى يتبين المراد منها فيجوز إذن أن يراد به الرجوع إلى الفقهاء في الفتوى لقوله(ع) فارجعوا إلى رواة حديثنا ومنها أن لفظ الحجة يؤيد الرجوع إليه في الفتوى والقضاء أو الحجية في مقام التبليغ للأحكام الشرعية. ولا يستفاد من المجعولية للفقيه في زمن الغيبة إلا جواز الإفتاء والقضاء لحسم مادة النزاع وهو مختص في القضاء في الأمور المالية فقط. وقد أجابوا على ما استدلّ به المشهور على الولاية الوسطى بمقبولة عمر بن حنظلة بضعف السند أو لا وعدم العلم بانجبارها بعمل الأصحاب ثانياً وأنه على تقدير صحة السند فلا يفهم منها إلا جعل الفقيه قاضياً، وجعله قاضياً لا يستدعي جعل جميع اللوازم والشؤون الثابتة للقاضي في زمن الخلفاء، وعلى فرض ثبوتها للقاضي المجعول ما كان ثابتاً للقضاء آنذاك، ومن المعلوم أن ولايتهم كانت تحت ولاية الخلفاء والولاة على البلدان فلا سعة فيها يمكن أن يستدلّ بها على ولاية لإقامة حكم إسلامي عام كما يحاول إثبات ذلك القائلون بالولاية الوسطى. |
الولاية المطلقة |
وهي الذهاب إلى أن كلّ ما هو من شأن للمعصوم(ع) وولايته يكون للفقيه في زمن الغيبة سوى ما كان من الأمور الذاتية لكونها غير قابلة للجعل فهي ليست من سنخ الاعتبار حتى تجعل لغيرهم كالعصمة والعلم وعظيم الشأن وما كان مختصاً بهم من التكاليف كتكليف الرسول(ص) بواحد وخمسين ركعة مثلاً في اليوم والليلة. فعلى هذا المسلك يكون من حق الفقيه لو رأى المصلحة بالتصرّف في الأموال والأعراض والنفوس والمصالحة على أراضي المسلمين والحرب الابتدائية - أي الجهاد- وغير ذلك مما هو شأن المعصومين(ع) سواء كانت هذه التصرفات وأعمال الولاية مشمولة للعناوين الأولية أو الثانوية فهي جميعاً من ولاية الفقيه. لكن لم يذهب إلى هذا المسلك من الولاية المطلقة سوى المحقق النراقي احتمالاً وفرضاً مسلكاً واختياراً وإلا فهذا المسلك لم يقل به أحد قط إلى زمن المحقق المذكور وإن اختار ذلك بعض ما تأخر عنه في العصر الحالي. |
دليل الإطلاق |
وقد استدلّ المحقق النراقي على هذه الولاية ببعض الأخبار، منها «العلماء ورثة الأنبياء»(3)، وهي رواية البختري عن أبي عبد الله(ع): إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورّثوا درهماً وإنما ورّثوا الأحاديث فمن أخذ منها فقد أخذ حظاً وافراً فانظروا علمكم هذا ممن تأخذونه فإن فينا أهل البيت في كل خلف عدولاً ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين. وبهذا المضمون من كون العلماء ورثة الأنبياء روايات أخر ومنها ما ورد عن الرسول(ص):«اللهم أرحم خلفائي ثلاثاً.. يروون حديثي وسنتي»(4). و«إنهم إمناء الرسل ما لم يدخلوا في زغبات السلاطين»(5). و«إنهم خلفاء رسول الله أو خلفاء النبي(ص)»(6)، و«إن العلماء حكام على الملوك والملوك حكام على الناس»(7). ومن جملة ما استدل به المحقــق النراقي أيضاً حديث (مجاري الأمور بأيدي العلماء)(8)، ومنها ما «عن السكوني عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا، قيل: يا رسول الله، ومنا دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(9). وتقريب الاستدلال للولاية المطلقة: أن كل ما يكون للمورث يكون للوارث من المناصب الشرعية والسياسية والاجتماعية وغيرها وإن كونهم خلفاء النبي(ص) وإنهما كأنبياء بني اسرائيل أو أفضل منهم يقتضي قيامهم بكل ما للنبي (ص) من المناصب والوظائف. وكذا ما ورد من أنهم حكام على الملوك فإن الحكومة تستدعي القيام بكل المناصب وان تفضل العلماء على كافة الخلق سوى الأنبياء والأوصياء العظام يستدعي نصبهم بنمو الولاية المطلقة. |
رد استدلال القائلين بالولاية المطلقة |
ولكن ردّ الاستدلال على الولاية المطلقة من قبل الاعلام بما استفدته من الوالد (قده) في الغالب ومن غيره أيضاً بما ملخصه، بأن هذه الروايات التي اعتمد عليها المحقق النراقي جلّها ضعيفة السند لأنها روايات الفقه الرضوي وجامع الأخبار وتحف العقول هذا أولاً. وثانياً: بأن أكثر هذه الروايات وردت في بيان فضيلة العلم. وثالثاً: بأن الذي يرثه الوارث ليس هو جميع شؤون الموروث. بل لا يرث إلا ما كان يصلح للوراثة والمناسب ههنا بمناسبة المقام هو تبليغ الأحكام وبيان الشرعية. ورابعاً: بأن وجود الولاية المطلقة في المنزّل عليه غير معلومة وهم الأنبياء بنحو الإطلاق لجميعهم فضلاً عن المنزل وهو الفقيه والعلماء لأن لفظ الأنبياء يشمل بإطلاقه الأنبياء السابقين جميعاً في حين أن الظاهر هو عدم ثبوت الولاية لهم بما نعتقده في النبي(ص) وأهل بيته الكرام إلا لبعض الأنبياء، على اختلاف مراتب الولاية كنوح وابراهيم وموسى وعيسى وداود مثلاً عليهم الصلاة والسلام وإلا فعامة الأنبياء ما كان لهم غير التبليغ للأحكام وإذا لم يثبت إطلاق الولاية في المنزل عليه فكيف يمكن دعوى ثبوتها في المنزل وهو الفقيه. وخامساً: بأن هذه الروايات مذيلة غالباً بأن الأنبياء لا يورّثون ما لا المفهوم منه أن ذلك ليس من شأنهم(ع) وإنما لا اهتمام لهم بالمال والدنيا لا أنهم لا يورّثون مطلقاً لمخالفة ذلك لنص الكتاب والسنة فإذن هي بصدد بيان وراثة العلم الذي هو من شأن الأنبياء وما هو من شأن العلماء من وراثة العلم وسيرة الأنبياء في مقابل الطواغيت والظلمة. وبالجملة ليس الوراثة إلا الأخذ بعلومهم وسيرتهم عليهم السلام وكذا كونهم حكاماً على الملوك وتفضيلهم على كافة الخلق لا يستوجب جعل الولاية المطلقة لهم لكفاية ثبوت الولاية لهما سيأتي بناء على الولاية الوسطى التي عليها معظم علماء الشيعة ليومنا هذا بل كاد أن يكون إجماعاً. وأما الاستدلال براوية مجاري الأمور التي هي من روايات تحف العقول، فبعد غض النظر عن سندها وعدم اعتبارها من قبل الاعلام، ومع غض النظر أيضاً عن كون سياق كلمة يراد منه المعصومين (عليهم السلام) فهي لو كانت لها ظهور فإنما هو في الولاية التكوينية لو قيل بها بالنسبة للمعصومين، كما وأن العلماء بالله لا ينطبق إلا على أهل البيت (ع) لأن سائر الناس لا يقال في حقهم انهم من العالمين بالله بل غاية ما يمكن أن يقال في حقهم أنهم عارفون بالله. وقال الوالد (قده) إن ما استدلّ به على الولاية المطلقة لا إشعار فيه على ذلك فضلاً عن كونها دالاً بنحو من الظهور وأن ولاية النبي وآله ولاية تابعة لذواتهم وليست قابلة للجعل لغيرهم وعلى فرض إمكان مجعوليتها فهي محتاجة إلى أدلة قطعية واضحة تثبت هذا التنزيل أو التفويض للفقيه بنحو الولاية المطلقة بما تسوّق التصرّف في الأنفس والأعراض والأموال، وأين الفقيه من مثل( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (10)، أو كون النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فكيف يمكن تصور هذه المنزلة العظمى للفقهاء في زمن الغيبة؟. وكما أشار البعض إلى أن الولاية ليس هي أظهر الخواص في باب الوراثة بل أظهر الخواص هو العلم بالأحكام وحفظها وتبليغها بالأخص بملاحظة ذيلها من قوله(ص): ما ورّثوا درهماً ولا ديناراً ولكن ورّثوا الأحاديث، فهي إذن في بيان مراتب فضل العلماء والعلم. كما وأن مجاري الأمور بيد العلماء لا دليل فيه على أكثر مما تحتاج إليه الناس لنظم أمورهم وهذا ما تتكفّله الـــولايـــة الوسطى التي عليها معظم الاعلام. ثم يشير الاعلام إلى أن هذه الروايات ليست في مقام جعل الولاية فتكون مهملة من هذه الجهة. ويضيفون إلى ذلك أن كلمة العلماء إنما تطلق على أهل البيت(ع) خاصة في ذلك الزمان فسياقها ينصرف إليهم وهناك مما يؤيد ذلك أيضاً من الأحاديث كما ورد «نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون»(11). فكيف مع ذلك يمكن حمل إطلاق لفظ العلماء على الفقهاء في زمن الغيبة مع عدم وجود قرينة على ذلك بل مع وجود القرينة على الخلاف وهي الروايات الدالة على أن العلماء هم المعصومون(ع) وأنه لا أقل من تحقق الاحتمال فلا يمكن الجزم بكون المراد من العلماء هم الفقهاء. وكذا حديث (رحم الله خلفائي) فالظاهر منه كونه في مقام تبليغ الأحكام وتعليم الناس للكتاب والسنة وليس في صدد جعل المنصب والولاية للفقيه فضلاً عن كون هذه الولاية بنحو الولاية المطلقة. |
الولاية الوسطى |
ذهب معظم فقهاء الشيعة قديماً وحديثاً في مسألة ولاية الفقيه إلى الولاية الوسطى حتى كاد أن يكون هذا المسلك إجماعاً بل ضرورة من ضروريات المذهب الشيعي على مدى القرون المختلفة. ومراد الاعلام من الولاية ههنا أن المستفاد من الأدلة الشرعية إنما هو جعل الولاية للفقيه لتولي لازمة الأمور وشؤون الأمة نيابة عن المعصوم(ع) في زمن الغيبة أو في زمانهم(ع) بنحو النيابة العامة أو الخاصة لو أتيحت الفرص وتهيئت الظروف لإقامة نظام إسلامي. ولما كانت هذه الولاية مجعولة لكل فقيه مستجمع الشرائط بنحو عام لم تختص بفرد معين مـــن الفقهـــاء في زمن الغيبة استدعى ذلك التصدي بنحو الإدارة الشورائية لجميع الفقهاء تحقيقاً لمنهج ( وأمرهم شورى بينهم) (12). فإذن لابدّ وأن يكون مجال العمل لولاية الفقيه فيما يرجع من الأمور العامة للنظام الإسلامي ضمن إشراف لشورى الفقهاء تكريماً لحرية الرأي وتنمية للقابليات وأخذاً بالنظر الراجح من بين الآراء فيما لم يرجع لضروريات الدين لأنه لا مجال لإبداء الرأي فيما قضى الله تعالى ورسوله(ص) بل الكل فيها سواء على اختلاف المراتب يتحمّلون المسؤولية من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى رأس الجميع من كانت عليه مسؤولية رئاسة الدولة الإسلامية. ولكن لا ننسى الحاجة إلى شورى الفقهاء أيضاً في مواطن تقنين القوانين ليكون الاعلام وأهل الخبرة هم المستند لتشخيص شرعية القانون الحاكم في كافة الأمور العامة وإن كان كل مقلّد يرجع في أحكامه الخاصة إلى مرجعه المعين. |
لابد لكل أمة من إمام |
وحيث كان من المسلّم شرعاً بل وسيرة بشرية أنه (لابدّ لكل أمة من إمام) كان من الواجب أن يعين على رأس شورى الفقهاء أحد الفقهاء طبعاً لما يستفاد من الشرع القويم من انتخابه بواسطة أهل الخبرة وهم الفقهاء وعلماء الأمة أو من قبل الأمة الإسلامية بإرشاد من قبل أهل الخبرة حتى يكون رئيس الدول الإسلامية هو المسؤول عن تنفيذ القوانين الإسلامية سواء منها ضروريات الدين أو ما كان مورداً للتشاور ومحلاً للآراء المختلفة من الشؤون العامة بأخذ الراجح في كل المجالات تحقيقاً لمنهج (لابدّ لكل أمة من إمام). ( وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل) (13) ، الدالة على حتمية رئيس للدول الإسلامية. فللفقيه الولاية في جميع ما تحتاجه الأمة من أمر في حياتها كما هو شأن جميع الأمم بالنسبة إلى زعمائها ولا يعقل ترك الإمام شيعته بلا ملجأ وقائد وإمام يرجعون إليه حين غيبته. |
الشورى منهج في كافة المجالات |
بل لا بدّ من تشكيل لجان خاصة لكافة الاختصاصات تجري فيها قاعدة الشورى أيضاً حتى تتبلور النظريات وتحصل اللجان المختلفة على النظريات الراجحة بعد مناقشة الآراء فيما بين كل أهل اختصاص سواء كانت اللجان الشورائية اقتصادية أو عسكرية أو سياسية أو ثقافية وهكذا ليرفع ما حصلت عليه هذه اللجان من النظر الراجح إلى شورى الفقهاء ليحصل تشريك أهل الكفاءات لبناء مجتمعهم ولتجري قاعدة الشورى في كافة مجالات الاختصاص، ثم يكون الراجح بعد عرضه على شورى الفقهاء للنظر فيه من ناحية التطابق مع الشرع مسلماً بيد الفقيه الذي هو على رأس الشورى والمعبر عنه برئيس الدولة الإسلامية ليكون هو المنفّذ للقوانين على رأس كافة اللجان المختلفة، وان كان هذا الفقيه له كبقية الفقهاء رأي في شورى الفقهاء فيما كان يرجع للأمور العامة وأما بعض الصلاحيات الخاصة في مواطن الأمور الجزئية في مرحلة التطبيق فقد يكون الحاكم متوحداً فيها. نعم الفقيه الذي يكون على رأس الشورى لحنكته ولمسه لواقع الزمن الذي يعيشه الأثر البليغ في إدارة دفة الأمور وإن كان ليس من حقه بناء على الولاية الوسطى التوحّد بالرأي بالنسبة إلى ما يكون من شأن شورى الفقهاء أو بالنسبة ما يرجع لبقية اللجان لأنهم أهل اختصاص فيما هم فيه إذا ثبتت صلاحيتهم الدينية وكان ما رأوه راجحاً متطابقاً مع الشرع القويم حين عرضه على شورى الفقهاء. |
صلاحيات الفقيه |
ولكن لا يرى الإعلام من مراتب جعل الولاية للفقيه ما للمعصوم(ع) من شؤون الولاية المطلقة بل هي ولاية بحدود إقامة الحق وتطبيق المنهج بما تحتاجه الأمة بإشراف شورى الفقهاء صيانة لشرعية النظام الإسلامي علماً وعملاً. ومن خلال ما تقدم يتضح انه لا يحق للفقيه أن يبدأ أحداً بحرب لان الجهاد من وظائف أو من مناصب وشؤون المعصومين(ع)، ولعل المتأمل في سيرة المعصومين(ع) يجد من الواضح أن ما جرى في عصر العصمة ما كان إلا دفاعاً عن حريم الإسلام والمسلمين حتى في مثل فتح مكة المكرمة معقل التوحيد وقبلة الموحّدين والبيت العتيق وما كان حرباً ابتدائية وجهاداً لفتح بلاد العالم. أجل إنما كان الفتح لبيت الله الحرام دفاعاً ومن اجل أن تضرب الدعوة الإسلامية أركانها وأوتادها على وجه الأرض، فقد حتى تبلغ الأسماع البشرية على مدى القرون لتقام الحجة ويهتدي بها من أحب الحياة ليكون الأخذ بالقانون بعد ذلك اختيارياً للأمم وان كان العمل بالقانون الإسلامي مراداً من الجميع لكن بإطار كون الدنيا دار اختيار واختبار نعم لو طلبت أمة من الأمم أن يطبق عليها القانون الإسلامي فانه يجري في حقها القانون وتطبق عليها جميع الأحكام بما فيها الحدود والقصاص بلا تتبع لبواطن الناس وتجسس لما يرجع بخصوصيات العمل الفردي ويؤدب المتهم لأي فرد من أفراد المجتمع بأي انحراف ما لم يثبت اتهامه للآخرين ببينة ودليل أو يكون من توجّه عليه الاتهام مزيداً لخرق القوانين الأساسية جهاراً بما يكون تحدياً لمعتقدات المجتمع ونظامه المقبول من قبل الأمة كما وأنه ليس للفقيه أن يصالح على أراضي المسلمين. أو يطلّق زوجة شخص ويعقدها على آخر بدعوى مشاهدة مصلحة في ذلك، أو يصادر مالاً لأحد لمصلحة يراها إلا بما أجاز الشرع في قوانينه العامة المعروفة لدى الجميع. أو يأخذ مالاً من شخص بلا رضاه ولوح التعويض إلا في مواطن الضرورة، لكن ما عيّنه الشارع من الحقوق الشرعية كاف لإقامة الدولة الإسلامية لو كانت الأموال بأيد أمينة. وهكذا في كثير من المواطن الأخرى لا ولاية للفقيه فيها لكونها من شؤون المعصومين(ع) كما لهم من الولاية المطلقة على الأنفس والأعراض والأموال بل المعصوم أولى بالمؤمنين من أنفسهم وذلك لعصمتهم ومقامهم الرفيع وإفناءهم في ذات الله تعالى الذي يجعل كل عمل منهم عين المصلحة والأمة والسلام. أجل عملهم (ع) الصواب وقولهم الحق، فهم تجسيد للموازين لأنهم القرآن الناطق، فأين الكلمات التامة ومصابيح الهدى وخلفاء الرحمن على وجه البسيطة من علماء الأمة مهما بلغوا في الفضل والتقوى فإنهم يعيشون عرفان الأحكام في كثير من المواطن خلال إجراء قواعد الاجتهاد والأصول العملية فضلاً عن مشاهدة الحقائق في مواطن غيب المصالح والمفاسد وما هو أعـــــلى من ذلك من الـــخلـــــق العظـــيم الذي هــــو مـــن ظهور الأسماء والصفات الإلهية في عالم الإمكان الذي هو المعصوم(ع). أضف إلى ذلك أنه لم يحثّ التاريخ إجراء ولايتهم المطلقة فيما هو من شأن حياة المجتمع وما يرجع من التصرف في هذا المجال ما كان إلا بأقل القليل، فضلاً عن جواز التصدي لمثل هذه الأمور من قبل الفقيه في زمن الغيبة. نعم يقوم الفقيه بكل ما تحتاجه الأمة من اجل إقامة نظمها وتحقيق العدل في ما بينها من أمر الاقتصاد والسياسة الحقة والقضاء والجيش وإقامة الحدود وتولي الأمور العامة والقضايا الحسبية من أموال اليتامى والأوقاف التي لا قيم ولا متولي لها بالخصوص. وأما وراء ذلك فهو من شؤون العصمة ولا ضرورة تقتضي بتوليها للفقيه في زمن الغيبة بلى يكون العمل بموازين الشرع وإطار الشورى في كل ما يرجع لتبادل الآراء فلا يكون رئيس الدولة إلا أداة لتنفيذ ضروريات الشرع وما ستوصل إليه الفقهاء في الشورى أو بقية اللجان المختلفة لأصحاب الاختصاص من الأمور العامة. وأما الصلاحيات في بعض الأمور الجزئية فقد تكون لكل رئيس من رؤساء اللجان المختلفة فضلاً عن رئيس الدول الإسلامية. |
الشورى وحرية الرأي |
وبالجملة إن الكثير من القوانين الإسلامية هي من ضروريات الدين فلا محلّ لرأي أو شورى بالنسبة إليها وسيكون شورى الفقهاء مشرفة لتنفيذ المنهج الإسلامي وما كان محلاً لآراء الأعلام يدخل تحت موازين الشورى لؤخذ بالربح من الآراء لتصبح نافذة بواسطة رئيس الدولة الذي هو على رأي شورى الفقهاء. فمسألة الشورى هي المثل الأعلى لحرية الرأي وتحقيق التوازن بين الحاكم والرعية ما لم تكن الأمة تعيش بواطن الاستبداد كما حدث ذلك في خلافة علي(ع) حينما كانت الأمة لا يصلحها إلا من كان حجاجاً سفاكاً، ولكن ذلك لا يعني أنه يجوز التوصّل إلى الحق بالجور لأن الغاية للشرايع السماوية هي مثالين القانون أن أصبت الأمة تطبيقه حتى تصبح مثالية القانون شرعاً يقتدى به على مدى التاريخ البشري، وليس المراد هو تحكيم أسس النظام الحاكم ولو باندراس مناهج الشرع. |
شواهد تاريخية |
من الشواهد على جريان الشورى تكريماً لحرية الرأي ما جرى في حرب الأحزاب (الخندق) وهو من أشد الظروف التي مرّت على حياة مسلمي صدر الإسلام لكن مع ذلك نشاهد الرسول(ص) ما ترك روح الحرية في مثل هذا الموطن العصيب أيضاً حيث بعث(ص) على رؤساء الأنصار يشاورهم في أعضاء بني غطفان نصف ثمر تمر المدينة ثم نراه يتراجع عما رآه صلاحاً لتفتيت عضد القوم وشق صفوف الكفار ويأخذ برأي الأنصار. وفي موطن أخر نشاهد امرأة تخاطب الرسول(ص) لما جاء يدعوها للعودة إلى زوجها قائلة: يا رسول الله: أأنت آمر أم شافع؟ فلما قال لها بل شافع، أخذت تخاطبه قائلة لا أقبل لك شفاعة، فلم يتأثر منها ولم يجبرها على أمر. وهاهي خطة الحرية والتشاور ترسم مرة ثانية في زمن خلافة علي(ع) في سيرته مع أصحابه وعمله مع المخالفين لبيعته مع كون البيعة حصلت له بإجماع من المسلمين وكذا من كان منها بإزاء الالتحاق بالخوارج أو معاوية. ومن أراد أن يلمس هذه المثالية، عليه أن يدرس بدقة سيرة رسول الله(ص) وعلي(ع) في فترة حكمهما. |
لا إكراه في الدين |
غزو الأمم في بلادها، كانوا من الكفار والمشركين أم من أهل الكتاب من أجل أن يؤمنوا ويستسلموا قهراً لا يستفاد من السنة النبوية ولا من القرآن المجيد لأن الأديان ما جاءت لقهر الناس على الطاعات وإنما جاءت الأديان لبيان الحق وتمييزه عن الباطل ليهتدي عن بينة ويضل من يضل كذلك. وما يشاهد في بداية كل دعوى لصاحب رسالة عامة من أنبياء أولي العزم من ضرب أركان الطواغيت ولو بقهر إلهي عند عجز أبناء الرسالة فذلك إنما كان لتحكيم أسس الرسالات السماوية وبث الدعوة على وجه الأرض لتبلغ مسامع البشرية كافة برفع السدود أمامها ليثبت الحق ويمتاز عن الباطل وإلا فبعد هذه المرحلة يأتي ما أرشدنا إليه الله تعالى بقول:( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (14). وأما ما قام به المسلمون من الغزو والفتح باسم الجهاد فقد صبغ الشريعة السمحاء بصبغة القهر والسيف وطبعها بطابع العدوان فكان تحكيماً للاس الحكم باندراس الشرع. أجل تقدم المسلمون إقليمياً بانهيار دعائم الشرع في النفوس وقد كان من المأمون أن يغزو الإسلام البشرية بالعلم والخلق العظيم ليصبح حاكماً في قلوب الأمم في غضون قرن أو قرنين لو حمل المسلمون حقائق الرسالة في أعماق الضمير في بلادهم علماً وعملاً، ثم دعوا الأمم لمشاهدة واقع السلام، وبعثوا الدعوة بمصابيح العلم والرشاد والإخاء والودّ وجعلوا السيف مدافعاً عن بيضة الإسلام والمسلمين لا فاتحاً للبلاد بضرب الأعناق بهيمنة على الأجساد دون القلوب. وتعيين الإمام علي(ع) بالأدلة القاطعة من الكتاب والسنة إنما كان بياناً لواقع الأمر وإتماماً لقاعدة اللطف الإلهي من نصب الأولياء والأئمة بعد الرسل لشرح الرسالات وتطبيقها بلا زيادة ولا نقصان وإلا فالله تعالى ورسوله(ص) أعز سلطاناً من أن يغلبوا على أمر لو أرادوا النصب للأولياء بعد الأنبياء بعد القهر ولجعلوا الأرض تتبادل على أيدي أولياء الله تعالى سليمان بعد سليمان، لكن الدنيا دار اختيار واختبار والآخرة دار القرار وموازين الحق. ومن شواهد المـــقام ما ورد فـــي الخطبة الشـــقشــقيـــة للإمام علي(ع):«لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر...»(15)، والله تعالى هو المسدّد للصواب، أجل من بعد ما تقام الحجج ويتبين الحق يكون الأمر موكولاً إلى المجتمع سواء اختار لنفسه السعادة والحياة بأئمة العدل أو الموت والهلاك بأئمة الجور والضلال. |
زمن الغيبة |
المحتاج إليه المسلمون في زمن الغيبة إقامة عدل إسلامي في البلاد الإسلامية أو أرادت الأمة أن تعيش حياة العز وذلك إنما يكون بواسطة الجزاء من المسلمين وهم الفقهاء الأبرار. وأما ما وراء ذلك فلا حاجة إليه ولا دليل على إثباته للفقيه في زمن الغيبة، والقول بتنزيل الفقيه منزلة المعصوم(ع) بكل معنى الكلمة سوى إنما كان من شأن العصمة الذي لا يمكن التنزيل فيه مما يحتاج إلى أدلة أقوى وظهور ثم يدلّ على هذا التنزيل المطلق والتفويض بهذه السعة في زمن الغيبة، أضف كل ذلك كما أشرنا إليه أن التصرف بأكثر من هذا لم يعهد جريه من قبل المعصومين أنفسهم فضلاً عن الفقيه، وما استدلّ به من الأخبار كما قال الاعلام ضعيف سند أو دلالة وإن وجوب تبليغ الأحكام لإقامة الحجة على كافة البرية فهو حكم عام لا دلالة فيها على الولاية المطلقة لأحد من الناس. كما وأن القول بالولاية الصغرى على ما يبدو لا يتناسب مع مسلك الشرع الذي جيء به ليكون قانون لحياة البشرية على مدى الزمن وإنه لابدّ لكل أمة من إمام. وكيف يعقل ترك المجتمع الإسلامي من قبل المعصومين(ع) بلا رائد وإمام يقيم للمسلمين أسس الحق لو أرادت الأمة حياة إسلامية، وإن كان من الممكن القول بأنه يكفي لإمامة الحق والنظام الإسلامي بما يستدل به من الولاية في الأمور الحسبية بواسطة عدول المؤمنين ويكون الفقيه متصدياً لازمة الأمور من باب أهل الخبرة لأنه من عدول لا من باب الولاية وجعل المنصب له بالخصوص. |
أدلة القائلين بالوسطى |
وقد استدلّ الاعلام على الولاية الوسطى بأدلة: منها بما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله(ع):«من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله»(16). ومنها ما ورد في خبر أبي خديجة:«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(17). ومما يستدلّ به أيضاً أن القضاة في زمن الخلفاء لم يجعلوا لخصوص رفع التنازع فقط في الأمور المالية وبيان الفتوى والحكم بل كان الناس يرجعون إليه في جميع الأمور العامة من الحدود والقصاص والأهلة وهكذا، والأئمة(ع) قد جعلوا الفقهاء وقضاء الشيعة في مقابل قضاء أبناء السنة ويفهم من التقابل أن يرجع الناس إلى الفقهاء في كل ما كان يرجع العامة فيها إلى فقهائهم وقضاءاتهم. ومما يدل على هذا التقابل ردعهم (ع) عن الرجوع إلى قضاء العامة لأنه من مؤدي السلاطين، والإلزام بالرجوع إلى فقهائنا ومن المعلوم أنه ما كان القضاء مختصاً بالمرافقات المالية في زمن بني أمية وبني العباس، ولكن من الممكن أن يقال في المقام بأنه لا نحتاج لإثبات إقامة نظام إسلامي بواسطة الفقيه مثل هذا التقابل بعد كون النظام الإسلامي جيء به لكافة البشرية على طول الزمن وان المعصومين لا يعقل أن يتركوا الأمة بلا رائد وإمام. وأيضاً التقابل لا يفيد في المقام لأن الكلام لإثبات الولاية لإقامة نظام إسلامي الذي هو فوق منصب القضاة والولاية أي البحث فيها يمكن أن يكون دليلاً للتصدي لازمة الأمور لإقامة نظام إسلامي بما يعم التصدي لمثل مناصب القضاة والولاة. |
الإيراد على أدلة الولاية الوسطى |
قد أشكل على الرواية بأنها مقبولة ورد هذا الإشكال بأن هذا لا يضر بعد قبولها من قبل الأصحاب وبعد الوثوق الصدور وبعد كون التثنية صحيحة وورد أخبار أخرى بهذا المضمون، وقد أورد على الرواية الثاني أيضاً ببعض الإيرادات التي لا تصر الاستدلال بها للولاية الوسطى وليس هذا المختصر محلاً لبيانها. |
من أدلة الولاية الوسطى |
مما استدل به أيضاً على مسلك المشهور والولاية الوسطى التوقيع الشريف الوارد بواسطة محمد بن عثمان العمري وموضع الحاجة قوله (عج):«وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي وأنا حجة الله..»(18). وإن أورد على الاستدلال به ببعض الإيرادات منها كون المعطوف عليه غير معلوم وإن اللام للعهد ولم يعلم المعهود عليه وما هو المراد من الحوادث. ورد بأن الواو استئنافية وأن المراد من الحوادث كل ما يرجع فيها الناس إلى رؤسائهم وتدبير شؤون حياتهم ونظم اجتماعهم لأن الحوادث لا تطلق على القوانين والكليات والفتوى. ثم قال الإمام ومن الساعد على كون المراد هو المسؤولية بما تعم إدارة النظم العام ما ورد في الحديث من قوله (عج) فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله، فإطلاق الحجية دليل على عدم التقييد بالفتوى والقضاء وأن المراد هو الرجوع للفقهاء في كل ما يحتاجه الناس لإقامة نظام إسلامي عام وإن كل هذا لا يثبت ولاية الفقيه بأكثر مما عليه المشهور من الولاية للفقيه. وكيف يمكن القول بمجيء قانون لكافة البشر لا يراد تطبيقه بواسطة أهل الخبرة وهو قانون الحياة، وأما عدم التطبيق للقانون الإسلامي على مدى أغلب القرون فهو لبعد المجتمع الإسلامي عن واقع الحضارة الإسلامية وكذا كون الاحتياج إلى منج عالمي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ناشئ عن انقلاب الأمة على الأعقاب بكافة طبقاتها إلا ما ندر على اختلاف مراتب الانقلاب على الأعقاب علماً وعملاً على مدى القرون. |
المورد لا يخصص الوارد |
كون الروايات في باب القضاء لا يكون دليلاً لتخصيص ولاية الفقيه بباب القضاء بل يكون مورداً والمورد لا يخصص الوارد. فالفقيه قد جعل الإمام حكاماً كما في الروايات بعنوان كونه حاكماً من غير تقييد بمورد خاص. وكيف يعقل أن يهمل القانون الإسلامي بعد وفاة الرسول(ص) ونهاية عصر المعصومين(ع) من دون أن يشيروا إلى من يقيّم هذا القانون من بعدهم لو أرادت الأمة أن تعيش حياة إسلامية. وهذا لا يتنافى مع ما ورد في الخطبة الشقشقية حيث يقول الإمام علي(ع) لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر إلى آخر العبارات، فإن مثل هذا دليل على انه ليس من وظائف الإمام ولمن له أهلية الحكم أن يخطط لقلب نظام الحكم القائم إذا أرادت الأمة نظاماً خاصاً ولو صورياً إسلامياً، وان كان على كل مؤمن أن يدعو إلى الرشاد وان يبلّغ الأحكام وان لا يجاري الظلمة حتى تعي الأمة واقع الأمر وتقام عليها الحجة. ولا أظن كما قال البعض أن معنى انتظار الفرج وان يكون الشيعة سمل دورهم يدل على أن إقامة المنهج الإسلامي لا يراد في زمن الغيبة بل كان هذا كشفاً للقناع بواسطة الأئمة(ع) لواقع انقلاب الأمة الإسلامية على الأعقاب على اختلاف مراتب الانقلاب في طول التاريخ فهو لا يرشد إلى انه لا بد من الصبر وتحمّل الظلم إلى أن يظهر المنجي الأعظم بل يدل على بُعد المجتمعات عن روح الإسلام وانه مع هذا البعد قد يكون التطبيق سبباً لتشويه ساحة قدسية المنهج الإسلامي القويم لأنه كسلسلة واحدة إذا انفكت منه بعض العرى اضرّ ببقية الحلقات فلا بد أن يطبق بكل جوانبه حتى تحصل الغاية، فلا يجوز أن تقام الحدود كقطع يد السارق مع عدم البينات أو حاجة السارق أو جهل القاضي أو كون السرقة ليست من حرز أو كانت بما لا يبلغ ربع الدينار أو كان المقيم للحدود هو أولى من غيره بان تقام عليه الحدود الإسلامية وتفصيل هذا يحتاج إلى مزيد من البيان ليس هذا المختصر محلاً لبيانه. اجل قد يؤدي تطبيق القانون الإسلامي بجانب دون جانب آخر كإقامة الحدود والتعزيرات بلا إقامة العدل في كافة الجوانب إلى تشويه الحقيقة ورسم الإسلام بظاهر بعيد عن روح الرحمة والعدل، ولكن هذا لا يدل على انه لا تجب الدعوة إلى المنهج الإسلامي. نعم لا يقام النظام الإسلامي إلا برشاد أمة اصبح الإسلام حياتها وطلبت تطبيقه بواقع كيانها الإنساني وإلا فلا يمكن تحقيقه لو كان الواقع الإسلامي يعيش الغربة في ديار المسلمين كما يشاهد ذلك في زمن خلافة الإمام علي(ع)، ولعلّ الظهور لولي الله الأعظم لا يكون إلا من الضياع في البعد عن الخلق الكريم وان ما تسمع وتشاهد من العناوين الخلابة باسم الدفاع عن حقوق الإنسان ليست إلا أداة تخدير للشعوب لنهب تراثها المعنوي والمادي معاً بواسطة المستعمرين لتتوجه آنذاك ببواطنها إلى المنجي الحقيقي ورائد السلام الواقعي والله العالم بحقائق الأمور وهو المرشد إلى الصواب. |
تنبيه هام |
أرجو الالتفات إلى أن الولاية الوسطى للفقيه التي تكلّمنا عنها وقلنا بأن المسلك الشيعي قديماً وحديثاً قائم عليها المراد منها ما اتفق عليه الإعلام من حدود ولاية الفقيه سعةً وضيقاً في مقابل الولاية الصغرى والمطلقة، وليس المراد منها الاتفاق على كون الدولة الإسلامية يجب أن تقام بواسطة شورى الفقهاء التي يكون أحد الفقهاء على رأسها بعنوان رئيس الدولة كما قرّبنا ذلك، بل قد يرى البعض إقامة الدولة الإسلامية بواسطة شورى الفقهاء فقط بلا حاجة لتعيين رئيس للدولة ويذهب آخر إلى إقامة هذه الدولة بواسطة أحد الفقهاء المختار من قبل أهل الخبرة وهم العلماء أو من قبل الأمة الإسلامية بلا حاجة إلى شورى الفقهاء وعند ثبوت التخطي عن المنهج الإسلامي يعزل هذا الفرد من قبل الأمة أو من قبل علماء الأمة الإسلامية إلى غير ذلك من المحتملات في المقام التي يمكن أن يتوصل إليها الناظر من خلال الدولة الشرعية الموصلة إلى كيفية إقامة النظام الإسلامي وإن اتفق الجميع كما قلنا بناءً على الولاية الوسطى على ما بيناه من حدود ولاية الفقيه. كما وانه يجب الالتفات إلى انه لا نزاع لإحدى الإعلام في اصل ثبوت الولاية للفقيه وإنما النزاع كما أشرنا إليه في سعة وضيق دائرة حدود هذه الولاية. |
(1) البقرة: 124. (2) ص: 26. (3) أصول الكافي: ج1 ص34 باب ثواب العالم والمتعلم. (4) الوسائل: ج27 ب8 ص139. (5) أصول الكافي: ج1 ص139. (6) الوسائل: ب11 من أبواب صفات القاضي، حديث 7. (7) مستدرك الوسائل: ب11 من أبواب صفات القاضي، حديث 18. (8) تحف العقول: ص237. (9) المستدرك: ج13 ب35 ص124. (10) المائدة: 55. (11) الوسائل: ب7 من أبواب صفات القاضي، حديث18. (12) الشورى: 38. (13) آل عمران: 159. (14) البقرة: 256. (15) شرح النهج: بن أبي الحديد، ج1 ب3 ص202. (16) الوسائل: باب 11 من أبواب صفات القاضي حديث1. (17) الوسائل: باب1 من أبواب صفات القاضي حديث 5. (18) الاحتجاج: ص283. |