مجلــة النبــأ      العــدد 28       السنـــة الرابعــــة      شهــر رمضــان 1419

المصالحة مع الظالمين....

نظرة تقويم ... وموازنة                

صلح الإمام الحسن عليه السلام نموذجاً


علي عبد الرضا

مسألة صلح الإمام الحسن(ع) كانت ولا زالت مورد استفهام وتساؤل للكثير من الكتّاب والمفكرين، وفي الوقت الحاضـــر ربما يكون الصلح اكثر إثارة ومناقشة وخصوصاً عند أولئك الذين اختلطت عليهم الرؤى في طريقة التعامل مع الحكومات الظالمة.

فالبعض يرى في الصلح ذلاً ودعة وتهاوناً وتهرّباً من المواجهة، وعندما تكون النظرة للصلح منحصرة في هذا الإطار المحدَّد فإن الفكر والحواس سيخضع لعملية سيطرة كاملة من جانب العنف والتطرف بجميع أشكاله.

والبعض الآخر يرى في الصلح خلاصاً وملاذاً من طول الصراع وسنوات الغليان غير المجدية، وهنا عندما تستحوذ المهادنة والمسايرة وحب الذات على عقول هكذا أفراد فلا يبقى ضير في تــــحمّل وتقبل كل شروط الحكومات الجائرة وطروحات السلطات الماكرة.

وقبل الخوض في غمار البحث من الضروري الإِشارة إلى نقطة مهمة جداً ربما غفل عنها البعض في دراساتهم لمسالة صلح الإمام الحسن(ع)، وهي أن الإمام (ع) انطلق في صلحه وهو ما زال قائداً للمسلمين وخليفة لهم، بينما معاوية كان في موقع الخارج عن الولاية والطاعة، وهذه النقطة تــــقلب الصورة رأساً على عقب لدى من يرى أن الإمام ترك معارضة معاوية وهو في خندق المعارضــين، في حين انه تركه (ع) -لأسباب سنذكرها- وهو الحاكم العام للمسلمين ولا يعاب أحد بترك حقه، وإنما يعاب أن يأخذ ما ليس له(1).

وهذه الدراسة الموجزة ستسلط الضوء على محورين أساسيين في حركة الإمام الحسن(ع)، المحور الأول: سيخصص للعوامل والأسباب التي تقف وراء الصلح، والثاني لمواقف الإمام(ع) بعد توقيع المعاهدة، ونوعية التحرك الذي اتبعه الإمام لمواجهة التضليل والزيف الأموي.

المحور الأول: علة الصلح

1- أمة مفككة:

الإمام الحسن(ع) كان يعلم أن الأمة تعيش حالة من الانحراف والتقهقر منذ تركها ولاية الوصي أمير المؤمنين(ع) وقد أشار الإمام إلى هذه المنطقة بالتحديد في مواضع عدة ومن أهمها خطبته المشهورة بعد توقيع المعاهدة مخاطباً معاوية:«واقسم بالله لو أن الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول الله لأعطتهم السماء قطرها والأرض بركتها ولما طمعت فيها..، فلما خرجت من معدنها، تنازعتها قريش بينها، فطمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك، وقد قال رسول الله: ما ولّت أمة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه، إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً، حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(2).

وكان يعلم أيضاً أن الأمة قد كشفت عن قناعها وتخطت المعقول في ظروف الصراع التي لازمت حكومة أمير المؤمنين(ع)، وعندما تولى مسؤولية الخلافة كانت الأمة قد وصلت إلى حافة الانهيار الشامل والسقوط الحتمي في ظل مناخ قلق جداً لا يستقر على عمل محدّد أو شكل معين، تتجاذبه التيارات من كل جانب وتتلاعب به الأهواء كما تتلاعب الرياح في ورق الأشجار وقت الخريف، فالصبغة التي تغلبت على المجتمع الكوفي انه خليط منهك أتعبته حروب التمرّد (الجمل، صفين، النهروان) لا يؤمن برسالة المعركة التي ينادي بها الإمام ولا بهدفية الصراع الذي يخوضه (ع) ولا يتجاوب مع تحركات القيادة وصيحات الاستغاثة التي يطلقها القائد بين حين وآخر.

والصورة الدقيقة لخليط الكوفة العجيب يرسمها الإمام المجتبى (ع) في جوابه على أولئك الذين قالوا له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: «.. رأيت أهل الكوفة قوماً لا يثق بهم أحد إلا غُلب، ليس أحد منه يوافق الآخر في رأي ولا هواء، مختلفين، ولا نية لهم في خير ولا شر، لقد لقي أبي منهم أموراً عظاماً، فليت شعري لم يصلحون بعدي، وهي أسرع البلاد خراباً»(3).

والنتيجة الطبيعية لهذا الوضع تتمخّض عنها أمور عدة:

الأمر الأول: خيانات قادة الجيوش، أمثال عبد الله بن عباس، والكندي، والمرادي الذين قادوا الفرق العسكرية الثلاثة الأولى لمواجهة جيش معاوية.

الأمر الثاني: رسائل المبايعة، فقد كتب بعض زعماء ورؤساء القبائل في الكوفة أمثال أبو موسى الأشعري وعمرو بن سعد بن أبي وقاص، وحجر بن عمرو، وشبث بن ربعي، والأشعث بن قيس وغــــيرهم، رسائل عديدة يطلبون فيها من معاوية التحرّك نحو الكوفة والسيطرة على الحكم، وكان بعضهم يقول لمعاوية: إنا معك وان شئت أخذنا الحسن أسيراً وبعثناه إليك.

الأمر الثالث: محاولات اغتيال الإمام (ع) مرّة عــــند الصلاة في مسجد الكوفة وأخرى في النخيلة عندما طعنه الجراح بن سنان برمح في فخذه وصل العظم.

الأمر الرابع: المطالبة بالصلح، حيث تعرّض الإمام إلى ضغوط متنوعة من قبل زعماء الكوفة للموافقة على الصلح وإجابة دعوة معاوية لترك القتال، فقد ارتفع صوت المجتمع الكوفي بوجه الإمام (ع) في أحد خطاباته مردّداً التقية والحياة، عندها قال لهم الإمام (ع): «يا عجباً من قوم لا حياء لهم ولا دين»(4).

إذن الإمام (ع) استلم أمة منقسمة مفككة، قادة جيشها منقسمون وفيهم الخائن والمنافق والغدّار على عكس جيش معاوية، جيش قوي متماسك تام الطاعة والولاء لمعاوية جمعته المصالح والأهواء وعلى استعداد لتنفيذ أوامر قيادته.

فماذا يعمل الإمام وهو يرى اشتداد الفرقة والاختلاف في مجتمعه وظهور الخيانة تلو الخيانة في جيشه، وهل يعقل أن يدخل ببقية مهزوزة في معركة غير متكافئة ومعروفة النتائج مسبقاً؟، أليس الصلح هو الخيار الأفضل بين خيارين لا ثالث لهما؟ ولو وقع خيار الإمام على الحرب أليس معنى ذلك التفريط بنفسه الشريفة وأهل بيته وأصحابه من دون أن يترتب أي أثر على ذلك؟ وافضل الأحوال بقاء الإمام حياً وأسره.

2- حذر الأسر

ونجد في مطاوي التاريخ أن الحرب لو كانت تستمر لانتهت بهزيمة ساحقة لجيش الإمام -في الحساب العسكري-ونكتشف من دراسة فاحصة للتاريخ والسيكيولوجية الأموية أن معاوية كان يهدف إلى (أسر) الإمام ثم إطلاق سراحه و(المنّ) عليه بذلك لتكون سبّة في نسل الأئمة (عليهم السلام) كما كان قوله(ص) اذهبوا فانتم الطلقاء سبّة في ذراري أبي سفيان دائماً وأبداً.

وهكذا نجد الإمام يقول: «والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سلماً فو الله لئن أسالمه وأنا عزيز خير من أن يقتلني وأنا أسير أو يمنّ عليّ فتكون سبّة على بني هاشم، إلى آخر الدهر ومعاوية لا يزال يمن بها وعقبه على الحي منا والميت»(5).

3- الخوف على الشيعة

لقد صرّح الإمام(ع) مراراً وتكراراً بأنه ترك قتال معاوية خوفاً من القضاء على الأمة الشيعية بل الإسلامية وإبادتها -بما للكلمة من معنى- وقد أشار إلى هذه الحقيقة في مواضع مختلفة فقال في موضع:«إنما هادنت حقنا للدماء، وضناً بها، وإشفاقاً على نفسي وأهلي والمخلصين من أصحابي»(6)، وفي خطبة له مخاطباً معاوية قائلاً له: «لو آثرت أن أقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإني تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها»(7).

ويقول في خطبة أخرى: «إني خشيت أن يجتثّ المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناع»(8)، ويقول في أخرى: «... فوالله لان تذلّوا وتعافوا احب إليّ من أن تعزّوا وتقتلوا...»(9)، ويوضح آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي (قدس سره) هذه الخطب وبالخصوص الفقرة الأخيرة من كلام الإمام الحسن(ع) فيقول: «إن الشيعة إذا عزّوا وقتلوا عن آخرهم، يطمس الإسلام كلّه، وإذا ذلّوا وبقوا يستطيعون رفع رايته عندما يتاح لهم ذلك، وبقاء الإسلام ببقائهم أذلاّء -وبشكل مؤقت- أفضل من قتلهم أعزاء في سبيل الإسلام، وقتل الإسلام بقتلهم عندما يكون قتلهم نهاية المطاف لا بدايته -كما في ثورة الإمام الحسين(ع)- إذ لا يبقى بعدهم من يحمله في عقله وقلبه»(10).

إذن الصلح كان الحل الوحيد والاختيار الأفضل للصراع ومنقذاً لا بديل له لبقاء الصفوة بل كل الشيعة والامتداد الرّسالي لأهل البيت (عليهم السلام) المعرّض للفناء والتصفية الكاملة.

4- ذريعة للتصفية

قتل الإمام (ع) بأيدي عسكرة أنفسهم كما يشهد لذلك وثوب الجرح بن سنان الأسدي على الإمام في ساباط المدائن ومحاولته اغتياله بمعول جرحه في فخذه(11)، أو بأيدي عملاء معاوية المنتشرين في الكوفة يكون ذريعة وراية يرفعها معاوية لصالحه ونقطة قوة يمكن أن يستغلها ليثأر لدم السبط الشهيد من قتلته وبذلك يرمي عصفورين بحجر، فمن جهة: يُظهر نفسه بمظهر المحامي عن سبط الرسول(ص) كما صنع في قضية عثمان، ومن جهة: سيجد المجال أمامه مفتوحاُ لقتل من شاء من أصحاب الإمام متهماً لهم بالمشاركة أو التخطيط لقتله!.

فالتوقيع على معاهدة الصلح تظهر عظمة الإمام الحسن(ع) وبُعد نظره وفراسته ورعايته الشاملة لشؤون الأمة الشيعية وأفرادها، ولم يكتف بذلك حتى ثبتها في بنود المعاهدة فنقرأ في المادة الخامسة «وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وان لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وان أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وان لا يتعقب عليهم شيئاُ ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء..»(12).

5- استراحة المحارب

لقد كان الصلح (استراحة المحارب) للاستعداد لجولة ثانية وكان يتضمّن الإعداد للمرحلة الخطيرة القادمة حيث كان يمهد الأرضية لثورة الإمام الحسين(ع) بعد ذلك، ويشير إلى ذلك قوله(ع): «علّة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لأهل مكة»(13)، حيث كان الصلح مقدمة للزحف الأكبر وإعداداً له رغم ما تضمّنه من تنازلات قدمها الرسول(ص) ولم يتحمّلها كثير من المسلمين جهلاً منهم بآفاق المستقبل، ونجده(ع) يقول لعدي بن حاتم الطائي عندما جاءه واعنف له القول:« ..، فرأيت دفع هذه الحروب إلى يوم ما فإن الله كل يوم هو في شأن»(14)، وكذلك نجده يقول لثلة من القادة الذين جاءوا يعرضون عليه الثورة (15)، بعد أن نقض معاوية الشروط «ليكون كل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام معاوية حياً..» (16)، ونجده أيضاً يخاطب المسيب بن نجبة ويدعوه بالصبر وعدم القيام حتى هلاك معاوية: «يا مسيب ... فارضوا بقدر الله وقضائه، حتى يستريح بر، ويستراح فاجر»(17)، تكشف هذه الكلمات أن الصلح كان من مصاديق التقيّة التي تشرع للحفاظ على العمل وديمومته لا لتبرير القعود أو الهزيمة بتأجيل المواجهة لمرحلة أفضل وقوة اكبر لا للتراجع.

6- كشف المستور:

المعاهدة التي وقعها الإمام الحسن(ع) والهدنة التي رافقتها أتاحت للامة الفرصة كي ترى وتكتشف الحكم الأموي على سجيته رأي عين، عارياً مفضوحاً دون طلاء أو تزويق، فهذا معاوية يصعد المنبر في الكوفة بعد توقيع وثيقة الصلح وقد أبطره النصر وأسكره، فيقول للامة:«والله إني ما قاتلتكم لتصلّوا، ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا، ولا لتزكوا ...، وإنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم..»(18)، هذا كان هدفه من الصراع ثم مزق الوثيقة ووضعها تحت قدميه (19)، وبهذا يكون قد وضع قدمه في طريق الهزيمة السياسية أولاً.. ثم جاء يزيد وكما يصفه الإمام فاسق فاجر شارب للخمر وقاتل للنفس المحترمة معلن بالفسق والفجور عرفه الداني والقاصي باللعب واللهو واقتناء الكلاب والقرود وبناء مراكز القمار والدعارة، وهذه هزيمة أخرى بل وتراجع إلى النهاية إذ لم يعد يتزن حكم الأمويين إلا بالنكير والتمرّد على مبادئ الدين والأهداف الإنسانية ولم تعد خافية على أحد مساوئه وأضراره على الإسلام والمسلمين.

إذن صبر الإمام الحسن(ع) وصلحه مع معاوية كان أجدى للإسلام والمسلمين في وقت لم تظهر فيه بعد وبشكل صارخ موبقات ومنكرات الشجرة الملعونة فإلى ما قبل توقيع وثيقة الصلح، لم يكن المسلمون بعد قد رأوا بأم أعينهم من معاوية غير صحبته للنبي(ص)، وكونه خال المؤمنين، وموضع ثقة عمر وعثمان، ولم يخرج على إمام زمانه وإنما طالب بدم عثمان الخليفة المقتول ظلماً! واليوم جاء ليحقن دماء المسلمين ويجمع كلمتهم رافعاً راية الصلح والسلام وهو لا يتوقع من الإمام القبول، لذلك وافق على جميع الشروط التي طلبها منه الإمام، وعندما توقع الوثيقة وتستتب له الأمور يظهر على حقيقته وتنكشف هويته المشوهة وانحرافه المتأصّل في طبيعته فتحدث الهزّة وتدوّي مدافع الحقيقة فتسمع الآذان الواعية والضمائر الحية والقلوب المفتحة فتستيقظ الأمة من غفلتها لترى معاوية وخط معاوية عارياً مفضوحاً لا يريد إلا التسلّط على رقاب الناس وإشباع شهوة الحكم في نفسه ولو أدّى ذلك إلى ارتكاب المظالم وسفك الدماء ...

7- لعله فتنة:

ليس القتال وحده فتنة، وإنما الصلح أيضاً تمحيص لكشف المطيع من العاصي، وربما يكون اكثر فتنة من القتال والمواجهة العسكرية التي لا تتطلّب إلا بذل المزيد من القدرة المادية والقوة الجسمانية، في حين أن الصلح يحتاج إلى عقلية متميزة وفهم خاص لمواقع الأطراف، ونظرة عميقة لنفسيات الأفراد وتأثيرات الأحلاف ونظرة بعيدة لمستقبل الصراع، والمحصّلة التاريخية لما سيكتب أو يقال.

فالمجتمع الكوفي أثبت أنه لا يستحق أن ينال أي درجة تؤهله للانتقال إلى مرحلة أخرى بعد أن سقط في امتحان التحركات العسكرية ورفضه دعوات الإمام الحسن(ع) لمواجهة الجيش الشامي ومن قبل ذلك في عمليات الاستنفار التي أطلقها أمير المؤمنين(ع) لرد غزوات الجيش الأموي عن الولايات الإسلامية.

وفشلوا أيضاً في الاختبار الثاني عندما وافق الإمام(ع) على دعواتهم بالموافقة على الصلح، فرفض بعضهم قرارات القيادة واعتبروه ذلاً للمسلمين وتراجعاً عن المسؤولية الشرعية، في حين أن بعضهم سمع وذكّر بما قاله الرسول الأعظم(ص) في حق الحسن والحسين (عليهما السلام) بأنهما إمامان قاما أو قعدا، وهذا التقلّب في الآراء يكشف عن حالة مرضية يكون فيها الهوى هو المعيار في قبول أو رفض قرارات القيادة التي بايعوها وتعاهدوا على الالتزام بتعاليمها.

ومصيبة بعض من حملوا لواء المعارضة لصلح الإمام الحسن(ع) انهم لا يتمتعون بالمقدار الكافي من الوعي والإدراك لفهم جميع أبعاد الصلح ولا يفهمون الحكمة من بعض المسائل ولا يملكون النظرة الثاقبة لعواقب الأمور وخلفيات الكواليس، وبدل التروّي وتقبّل الآخر لحين انجلاء الغبرة وانكشاف الحجب لتبان الأمور على حقيقتها، تراه يتخبط في تصرفاته فيتهم هذا وينال من ذاك أو يشكك بقضايا الإسلام فسهامه لا تترك أحداً إلا وأعطته حظاً من سيآتها.

وهذه المسألة بالتحديد أعطى لها الإمام(ع) الاهتمام البالغ وأوضحها في اكثر من حادثة وموضع، وهي إن دلت على شيء إنما تدل على ضحالة وعي الأمة وعدم تفهمها لأبسط الأمور السياسية والأحكام الشرعية فيقول (عليه السلام) إلى أبي سعيد العقيصا بعد أن سمع رأيه واعتراضه على الصلح: «يا أبا سعيد! ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي؟ قال: بلى، قال: ألست الذي قال رسول الله(ص) لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قال: بلى!، قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله لبني ضمرة، وبني أشجع ولأهل مكة، حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وان كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضر لما خرق السفينة، وقتل الغلام وأقام الجدار، سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه، حتى اخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه -الصلح- ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحدُ إلا قتل»(20).

وانطلاقاً من ذلك فان الصلح المشرّف (راجع بنود الصلح)(21)، والذي تضمّن واستلزم فضح نوايا معاوية، وحافظ على وجود العناصر الرسالية بل الشيعة كافة، ومهّد الأرضية لثورة الإمام الحسين(ع)، كان خير دون شك في مقابل حرب فاشلة ستنتهي إلى دمار الشيعة وفناءهم وقتل الإمام الحسن(ع) بيد أصحابه أو (المنّ) عليه ومن ثم وفيما إذا شكل خطراً بعد ذلك أيضاً اغتياله، فإن هذا من واقعه عمل ومواجهة وجرجرت الظالم للوقوع في الهاوية ثم إنهائه وليس صلحاً بالمعنى الذي يتصوّره البعض..

المحور الثاني: نوعية التحرك

ترك المواجهة العسكرية للأسباب التي ذكرت ليس إلا تركا لأحد الخيرات أما الأخرى فلم تغلق بوجه الإمام فدخلها بقوة وثبات وموضوعية رافعاً شعار المقاومة السلبية لمعاوية والخط الأموي، فقد أدّى الإمام ما عليه وحمل راية المعارضة والتصدي وحقق أغراضه وأهدافه بصورة كاملة، فهو خير دليـــل للعامل الــــمجاهد الذي استطاع أن يرسم نا صورة حيّة متكاملة الأبعاد في كيفية التعامل مع الأنظمة الجائرة والحكومات المستبدة التي تعمل على شاكلة معاوية، ولو أن الإمام سكت ولزم داره ولم يقم بما قام من أدوار صريحة لفضح معاوية ونقده نقداً لاذعاً لتصرفاته، لما كان معاوية متخوّفاً دوماً من الإمام ولما خطط لاغتياله مراراً عديدة ودس السم إليه عدّة مرات بل ذكر الطبري في دلائل الإمامة أن معاوية سمّه سبعين مرّة.. (22)، وهكذا نجد أن الإمام ظل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقوم بـ«أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» وباستمرار.

فلقد كان حقا شوكة في عين معاوية وشجئ في حلقه على طول الخط فلم ينسحب وإن خسر جولة ولم يعتزل المعترك السياسي وان أغلقت في وجهه الأبواب، ظل يواجه الظلم ويكابد الاستبداد ويدحض الباطل ويرد البدعة إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى وهو مسموم بيد أعداءه، واليك بعض النماذج المعبرة عن عمق منهجيته وعظمة برامجه ودقة أعماله:

منهجية الرفض الشجاع

1- في المجالس الخاصة

يقول الإمام الحسن(ع) في المؤتمر المصغّر الذي عقده معاوية، والذي كان يهدف منه إلى إدانة الإمام وإفحامه، والذي ضمّ الإمام الحسن من هذه الجهة فقط وكلاً من معاوية وعمرو بن عثمان بن عفان وعمر بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عتبة بن أبي معيط والمغيرة بن شعبة من الجهة الأخرى، وبعد أن هاجمه كل واحد من أولئك:«.. وبك أبدأ معاوية انه لعمر والله يا أزرق ما شتمني غير ذلك وما هؤلاء شتموني ولا سبني غيرك وما هؤلاء سبوني ولكن شتمتني وسببتني فحشاً منك وسوء رأي وبغياً وعدواناً وحسداً علينا وعداوة لمحمد(ص) قديماً وحديثاً ... وسأبدأ بك يا معاوية فلا أقول فيك إلا دون ما فيك..»(23)؛ ثم أسهب الإمام في نقد معاوية وفضحه وتعريته وعدّ مثالبه وقال في ختام حديثه الشجاع مخاطباً معاوية «ذق وبال ما كسبت يداك، وما جنيت وما قد أعد الله لك ولهم من الخزي في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة…»، ونجد معاوية يقول بعد خروج الإمام وهو ثائر غاضب: «… والله ما قام حتى اظلم عليّ البيت وهممت أن أسطو به..»(24)، كما نجد الإمام يعبر عن معاوية بالطاغية ويقول مخاطباً رسول معاوية إليه «ما يريد هذا الطاغية مني؟ والله لئن أعاد الكلام لأوقرنّ مسامعه ما يبقى عليه عاره وشناره إلى يوم القيامة»(25)، ويقول في مجلس آخر: «وحاشا أن أقول أنا خير منك لأنك لا خير فيك، فإن الله قد برئني من الرذائل كما برأك من الفضائل»(26)، وفي مجلس ضمه مع يزيد بن معاوية قال: «…، أعلم يا يزيد! أن إبليس شارك أباك في جماعة فاختلط الماءان فأورثك ذلك عداوتي، لأن الله تعالى يقول: ( وشاركهم في الأموال والأولاد) ، وشارك الشيطان حرباً عند جماعة فولّد له صخر فلذلك كان يبغض جدي رسول الله»(27)، واستمر الإمام (عليه السلام) على هذا النهج نهج الرفض والفضح والاستبسال حتى قال معاوية لنفسه: «والله ما رأيت قط إلا كرهت جنابه وهبت عتابه..»(28)، وإننا نجد في قول عمرو بن العاص لمعاوية:«ألا تبعث إلى الحسن بن علي فقد أحيا سيرة أبيه وخفقت النعال خلفه، إن أمر فأطيع أو قال فصدق، وهذا يرفعا به إلى ما هو أعظم منهما …»(29)؛ اصدق شاهد على عدم سكوته.

2- في المجالس العامة

ولم تقتصر عملية (التعرية الإعلامية) لمعاوية على المجالس الخاصة فقط بل تعدّتها لتشمل الحشود الجماهيرية والتجمعات العامة، ففي الاجتماع الكبير بالكوفة -بعد الصلح مباشرة- وعندما خطب معاوية خطبته المستهترة نجد الإمام الحسن(ع) يشق الجموع ويتقدّم ليرتقي المنبر ثم يقول ردّاً على معاوية: «... وإن معاوية زعم لكم إني رأيته أهلاً للخلافة ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية... فلما خرجت الخلافة من معدنها طمع فيها الطلقاء وأبناء الطلقاء أنت وأصحابك...» ونجد موقفاً آخر شجاعاً وصريحاً وفي الملأ العام يوم الجمعة وعلى رؤوس الأشهاد في المسجد (30)، كما قال لمعاوية -بعد أن جمع له الناس ورؤساء أهل الشام- وكان معاوية يقصد بذلك إحراج الإمام وإسقاط مكانته حيث يضطر الإمام إلى إلقاء الخطبة في محضره وقد ملك الأمر إضافة إلى انه كان يحتمل أن الإمام كان سيحصر عن الكلام (31): «... وليس الخليفة من سار بالجور وعطل السنن واتخذ الدنيا أما وأبا وعباد الله خولا وماله دولا ولكن ذلك ملك أصاب ملكاً فتمتع منه قليلاً... وكان كما قال الله تبارك وتعالى: ( وان ادري لعله فتنة ومتاع إلى حين) أومئ الإمام إلى معاوية ثم قام فانصرف»(32).

ونكتشف مدى عمق تأثير كلام الإمام على أجناد الشام ودرجة تأليب الإمام للرأي العام ضد معاوية، قول معاوية لعمرو بن العاص (بعد انصراف الإمام): «والله ما أردت إلا شيني حين أمرتني بما أمرتني» إذ كان عمر بن العاص هو المقترح لدعوة الإمام لإلقاء الخطبة كما وضحنا في الهامش «والله ما كان يرى أهل الشام أن أحداً مثلي في حسب أو نسب حتى قال الحسن ما قال...»(33).

كما نجده (ع) يعبر عنه (بالطاغية) و«ويلك يا بن آكلة الأكباد..»(34)، وهو على المنبر وبحضور معاوية والحديث عن ذلك مسهب وكلمات الإمام ومقارعته لمعاوية وفضحه له وجهره بالحق كثيرة فليراجع الاحتجاج والمناقب والخرائج والجرائح والعوالم وغيرها، ففيها الكثير من النماذج والأدلّة.

إن هذه المواقف البطولية الجبّارة وتحدي معاوية علناً والتعبير عنه بالطاغية وابن آكلة الأكباد وعلى رؤوس الأشهاد، هذه المواقف الجبارة لممّا تنوء بحملها الجبال وتعجز عنها عمالقة الرجال..، كيف: ومعاوية إمبراطور جبار يسيطر على ما يزيد من 50 دولة في الخريطة السياسية لعالم اليوم ويعدّ القوة العظمى والقطب الأبرز في كل الأرض وفي نفس الوقت لا يتورّع عن قتل أي أحد أو ارتكاب أي قبيح...، إننا نجد البعض من الثوار والقادة يخضع ويتراجع ويستسلم أمام دولة تحكم بقعة جغرافية محددة ذات قدرة متواضعة بالقياس إلى سائر الدول، وله منها المخلص في ارض الله الواسعة أو له من يحميه خارج حدود بلاده ومع ذلك قد يستسلم ويسير في ركاب الحاكم أو على الأقل يسكت عن جرائمه وجناياته ويتحوّل إلى (ساكت عن الحق).

وفي المقابل نجد سبط الرسول مولانا المجتبى(ع) والإمام المقتدى يجهر بالحق والمعارضة وهو يواجه بسلاح الكلمة الصادقة والمعارضة الدائمة إمبراطورية قد تتضاءل أمامها قدرة أميركا اليوم -حسب معادلات ذلك اليوم وهذا اليوم-..، وهو يواجه معاوية ذلك الطاغية الداهية ويعلم انه لا يسلم من بطشه وطيشه ولو بطريقة ما كره فسمّه مرة ونجى منها ولم يتراجع الإمام عن معارضته ثم سمّه مرة أخرى ولم يتراجع ثم سمّه مرة ثالثة -على اقل الروايات، وعلى أكثرها سبعين مرة- ولم يتوانى أو يتماهل حتى قضى نحبه شهيداً محتسباً ولم يتراجع...

3- المقاطعة الكاملة

التوقيع على معاهدة الصلح لم يكن عذراً للسكوت ولا حجة على المداهنة وغض الطرف عن الباطل بل كان محفّزاً للعمل على فضح معاوية وتأليب الناس ضده وعدم المشاركة في برامجه ورفض خططه على الرغم من تظاهر معاوية بالتودد إلى الإمام بشتى السبل إلا انه كان يواجَه من الإمام بموقف مثالي صلب حازم لا يحتمل أي توجيه ويلاحظ المتتبع للتاريخ نماذج عديدة لذلك ومنها تخطيطه (صلح الحيّين: بني هاشم وبني أمية) -حسب تعبيره هو- عبر خطبة بنت عبد الله بن جعفر لابنه يزيد وموقف الإمام الرافض الحازم لذلك(35)، ونجده في موقف آخر أكثر صلابة وتحدياً عندما رفض طلب معاوية للمشاركة في قتال فرقة الخوارج بقيادة فروة بن نوفل التي أصرّت على مواجهة جيش الشام وعسكرت خارج الكوفة، نجده يقول لمعاوية: «سبحان الله تركت قتالك وهو لي حلال لصلاح الأمة وألفتهم، أفتراني أقاتل معك...،»(36).

4- تجسيد المعارضة

التحريض على الظالم من وراء الجدران أو من أعالي السطوح شيء، والنزول مع الجماهير وتجسيد المواجهة والمعارضة بشتى صورها شيء آخر فالشيعة كانوا يعيشون أجواء كبت وإرهاب وتصفية جسدية من نوع جديد لم يعهدوه سابقاً، ولكسر هذه الحالة وإزالة هذا الطوق لا بد من وجود رمز قــــوي يجسّد واقع المعارضة ويعطي شحنة قوية للنفوس الخاملة والمتردّدة، وهكذا كان الإمام الحسن(ع) معارضاً ومحرّضاً ومخالفاً ومقاطعاُ ومندّداً لجميع أعمال معاوية وخططه، وقد أثرت مواقفه البطولية على الشيعة وجعلتهم في موقف لا يقبل التردد أو السكوت والانسحاب.

فعلى المستوى الفردي مثلاً

* نجد حجر بن عدي يرد على المغيرة وزياد حينما كانا يشتمان علياً(ع) ويقول أمام جموع الناس: «أنا اشهد أن من تذمون أحق بالفضل، ومن تزكون أولى بالذم» وكان إذا اجهر بكلمته هذه وافقه اكثر من ثلثي الناس وقالوا: «صدق والله حجر وبر»(37)، واستمر على ذلك المنهج سنين طوالاً حتى كانت فاجعة قتله وجمع من صحبه في مرج عذراء بتلك الطريقة الشنيعة، وعندما عرض عليه جلادوه والسيوف مشهرة بأيديهم: التبرأ من علي(ع) في قبال العفو عنه أو إطلاق سراحه أجاب برباطة جأش:«الصبر على حد السيف لأيسر علينا مما تدعوننا إليه...،»(38).

* ونلاحظ أيضاً الكلمة الجريئة لصعصعة بن صوحان عندما خطب معاوية الناس بمسجد دمشق قائلاً: «إن الله اكرم خلفاءه فأوجب لهم الجنة وأنقذهم من النار ثم جعلني منهم وجعل أنصاري أهل الشام الذابين عن حرم الله ...» فقام صعصعة وقال:«أيا ابن أبي سفيان تكلمت فأبلغت ولم تقصر دون ما أردت وكيف يكون ما تقول وقد غلبتنا قسراً وملكتنا تجبراً، ودنتنا بغير الحق.. فأما إطراؤك لأهل الشام فما رأيت أطوع لمخلوق وأعصى لخالق منهم، قوم ابتعت منهم دينهم وأبدانهم بالمال فإن أعطيتهم حاموا عليك ونصروك وان منعتهم قعدوا عنك ورفضوك»(39)، وكلما سمع معاوية كلمات صريحة وشجاعة وحادة عن صعصعة يقول منفجراً: «والله يا ابن صوحان انك لحامل مديتك منذ أزمان..!!»(40).

* وصورة أخرى للتحريض على معاوية وتأليب الرأي العام ضده يرسمها لنا عبد الرحمن بن حسان العنزي من أصحاب علي(ع) الذي أقام بالكوفة يحرض الناس على بني أمية، فقبض عليه زياد وأرسله إلى الشام فدعاه معاوية إلى البراءة من علي(ع) فاغلظ عبد الرحمن بالجواب فرده معاوية إلى زياد وأمره بقتله شرّ قتلة فقتله حيث دفن حياً..»(41).

وعلى المستوى الجمعي

* نشاهد نماذج عديدة منها عندما قدم معاوية حاجاً في خلافته فاستقبله أهل المدينة فنظر فإذا الذين استقبلوه ما فيهم أحد من قريش فلما نزل قال: ما فعلت الأنصار وما بالهم لم يستقبلوني؟ فقيل له: انهم محتاجون ليس لهم دواب!، فقال: وأين نواضحهم؟ فقال قيس بن سعد بن عبادة -وكان سيد الأنصار وابن سيدها-: أفنوها يوم بدر وأُحُد وما بعدهما من شاهد رسول الله(ع) حيث ضربوك وأباك على الإسلام حتى ظهر أمر الله وانتم كارهون...(42).

* ومنها عندما علم معاوية ما كان عليه عبد الله بن يحيى الحضرمي وأصحابه من الحزن لوفاة علي أمير المؤمنين وحبهم وإفاضتهم في ذكره وفضله، جاء بهم وضرب أعناقهم جهراً(43).

* ومنها أن معاوية مرّ بحلقة من قريش فلما رأوه قاموا غير عبد الله بن عباس(44).

إن حملات التصفية الجسدية وعمليات النفي والتشريد، وممارسات التعذيب الوحشية بحق الشيعة ومن هو على دين علي، من قبل معاوية وعماله خير شاهد على تجذّر حالة المعارضة عند الموالين لأهل البيت(عليهم السلام) وعلى دقة تماسك المجتمع الشيعي وعودة الروح إليه وارتقائه فكرياً وثقافياً وتنظيمياً، ونتيجة التزام الشيعة بحمل لواء المعارضة ورفض الظالم ورفع شعار (المقاومة والاستبسال) «نادى منادي معاوية: إني برئت الذمة ممن يروي حديثاً في مناقب علي وفضل أهل بيته، وكان أشد الناس بلية أهل الكوفة، لكثرة ما بها من الشيعة، فاستعمل زياد بن أبيه وضم إليه العراقين الكوفة والبصرة، فجعل يتبع الشيعة وهو بهم عارف، يقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل وصلبهم في جذوع النخل، وسمل أعينهم وطردهم وشردهم حتى نفوا من العراق فلم يبقى بها أحد معروف مشهور، فهم بين مقتول أو مصلوب أو محبوس أو ضرير أو شريد»(45).

كلمة لا بد منها..

لا يرقى أدنى شك بان الإمام الحسن(ع) معصوم مسدّد من قبل السماء، يحمل من المزايا والخصائص الشيء الكثير وما لا يصل إليه أحد إلا هم أهل البيت (عليهم السلام) ولا يقدم على عمل إلا بعد النظر في جميع أبعاده وانعكاساته الجانبية والمستقبلية، وليس في حساباته غير الهدف الإسلامي العام الذي فيه خير الأمة ورضى الله تعالى ومع كل هذا القدر من المنزلة السامية، وما يتمتّع به من فضائل ومحاسن وحسن تخطيط ودراية للأمور، نشاهد الهبوط في وعي الأمة والضحالة في تفكيرها فينقسم خيرة مثقفيها وخلص أفرادها على هذا الحدث -معاهدة الصلح- فمنهم الرافض لكل صلح لأنه خلود للراحة وميل للدعة، ومنهم من التزم به وجعله ذريعة للتستّر على مشاريعه مع الظلمة وتحركاته مع الفجرة..، ومنهم تمرّد على هذا وذاك وحصر نفسه في زاوية مهملة من زوايا الحياة.. ومنهم ما زال يفكر.. ومنهم...

وبعض هؤلاء غفل عن حقيقة مهمة جداً وهي انهم خلطوا بين ما هو استراتيجي ثابت، وتكتيكي متحرك، فأهل البيت (عليهم السلام) كلهم نور واحد لن يختلفوا في الهدف العام والغاية الكبرى وإن قام أحدهم أو قعد، وإنما هناك تنوع في الأدوار والأساليب تبعاً للظروف المحيطة بالحدث، واختلاف القضايا العامة بين الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد الإسلامية.

إن الدخول في حوار أو صلح أو عقد هدنة بين (فرد أو جماعة) ونظام طاغي مستبد، أو رسم سياسة معينة لمجموعة منظمة اكبر من أن تترك لشخص أو ثلّة من الأفراد لكي يبتوا بها أو يحددوا مسئوليتها وذلك يعود لمجموعة من الأسباب أهمها:

1- بما أن مواقف أهل البيت (عليهم السلام) التكتيكية تختلف من ظرف إلى آخر ومن حالة لأخرى وان هناك آثاراً مختلفة تترتب على هذا التمايز والاختلاف لعلها تظهر بوضوح عند صدور الأحكام الشرعية، وتحديد المواقف السياسية، فليس من الصحيح أن يبت من لا يملك المقدرة الكافية على التشخيص ولم يدرس الأمور دراسة معمقة تستوعبه أن يرسم الطريق للآخرين أو يحدد مسؤولياتهم.

2- إن عالم اليوم بما يحمل من ملابسات وتعقيدات على مستوى الأفراد والجماعات ومن قوة وضعف في النظريات والأساليب، لا يمكن الخوض في بحاره ومواجهة خطورته وأهواله إلا بالاعتماد على أهل الخبرة أولاً لتحديد المواضيع بصورة دقيقة جداً، و (شورى الفقهاء) ثانياً لأخذ الحكم الشرعي والوظيفة المخولة «أما الحوادث الواقعة فارجعوا بها إلى رواة حديثنا...»(46).

ومسائل الحكم والسياسة والعلاقات ربما تتخللها قضايا تتعلق بالأعراض والدماء والأموال في دائرة واسعة وضيعة وهي دوائر حمراء خطيرة لا يسمح الدخول إليها أو الخوض فيها إلا من كانت له صلاحية الفتيا ومنزلة المتقين الأبرار.

3- إلى ذلك أن حالة الترابط التي تتحكّم في العلاقات الدولية والتي لا يمكن أن نكون بمعزل عنها تجعل التفرّد في اتخاذ المواقف أو عدم العودة إلى من هم أهل لإصدار القرار والحكم عملية غير مجدية ومعروفة النتائج، فالمصالح الشخصية في هكذا أوضاع دولية مترابطة، يجب أن لا تكون هي الحافز والمؤثر على إصدار القرارات واتخاذ المواقف، حيث نتلمّس ذلك في تبريرات من داهنوا الجائرين وركنوا إلى الظالمين، وإنما المطلوب في هكذا أجواء عالمية متشابكة النظر إلى مصلحة الأمة ورفعتها، والى انعكاسات القرار -الصلح مثلاً- على الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، ومدى ملائمة الظروف لهذا الحدث والمحصلة التاريخية لهذا العمل، وتأثيرات هذه الخطوة على الأجيال الآتية وقبل ذلك كله ما هو حكم الله فيها وما هي عاقبته؟، وهذه المسائل لا يلمُّ بها إلاّ من حاز على ثقة الأمة واحترامها وهم الفقهاء.

إذن أية مصالحة أو مداهنة أو تعاون يقوم به (فرد أو جماعة) مع أي دكتاتور ظالم عملية مرفوضة شرعاً ومدانة عرافاً للأسباب التي ذكرت آنفاً. ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) .

(1) كلمة الإمام الحسن(ع): ص93.

(2) المصدر السابق: ص68.

(3) الكامل: بن الاثير ج3 ص204.

(4) بحار الأنوار: ج44.

(5) العوالم: مجلد الإمام الحسن(ع) ص175، نقلاً عن الإحتجاج.

(6) بحار الأنوار: ج44 ص27.

(7) كلمة الإمام الحسن(ع): ص115.

(8) المصدر السابق: ص100.

(9) المصدر السابق: ص96.

(10) المصدر السابق: بتصرف.

(11) صلح الإمام الحسن(ع): ص213.

(12) المصدر السابق: ص261.

(13) كلمة الإمام الحسن(ع): ص103.

(14) المصدر نفسه: ص100.

(15) وذلك بعد سنتين من الصلح؛ راجع العوالم: ص197.

(16) صلح الإمام الحسن(ع): ص302.

(17) أعيان الشيعة: ج4 ق1 ص27.

(18) كلمة الإمام الحسن(ع): ص84.

(19) الإمامة والسياسة: ج1 ص151.

(20) كلمة الإمام الحسن(ع): ص103.

(21) صلح الإمام الحسن(ع): ص259-261.

(22) المصدر السابق: ص268.

(23) العوالم: ص205.

(24) المصدر السابق: ص215.

(25) المصدر السابق: ص216.

(26) كلمة الإمام الحسن(ع): ص167.

(27) المصدر السابق: ص169.

(28) العوالم: ص201.

(29) المصدر السابق: ص201.

(30) المصدر نفسه: ص228.

(31) «حيث كان عمرو بن العاص قد قال له: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يصعد المنبر ويخطب بالناس لعله يحصر فيكون ذلك مما نعيره في كل محفل، فبعث إليه معاوية فاصعده المنبر وقد جمع الناس ورؤساء أهل الشام». العوالم: ص127.

(32) المصدر نفسه: ص128.

(33) المصدر السابق.

(34) المصدر نفسه: ص230.

(35) المصدر نفسه: ص234-235.

(36) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد ج16 ص14.

(37) صلح الإمام الحسن(ع): ص329 - 330.

(38) المصدر السابق: ص332.

(39) العوالم: ص255.

(40) صلح الإمام الحسن(ع): ص359.

(41) المصدر السابق: ص341.

(42) العوالم: ص260.

(43) صلح الإمام الحسن(ع): ص347.

(44) العوالم: ص260.

(45) المصدر نفسه: ص261.

(46) بحار الأنوار: ج2 ص90.