إلــى ... الحـــوار الضــائـــع

الشيخ مصطفى الحسن

منذ زمن بعيد... شكَّل الحوار... المادة الأساسية لمنهج عقل النبوات.. لا باعتباره مفردة أخلاقية.. ناشئة من سلوك الأنبياء(ع) بل قيمة إنسانية وحضارية.. وفضيلة كمالية.. ترتقي بالإنسان.. إلى أرقى مصاف الكمال.. الذي جاء من أجل تحقيقه الأنبياء(ع) عن طريق امتثال البشر لما جاءت به كتبهم ورسالاتهم.. عبر العصور المختلفة..

وتبدو هذه الفضيلة كباقي مصاديق الفضيلة الأم..! قد تعرضت للتغيب تحت وطأة الأهداف والأسباب المختلفة لتصبح أزمة التغيب هذه سلوكية عامة متوارثة من جيل إلى جيل شاغلة بذلك حيزاً واسعاً من ذهنيتنا ووعينا.. فصرنا نرفعها شعاراً ونرفضها باللاشعور وهذه الأزمة التي نعيشها حقيقة وواقعاً وسلوكاً ومنهجاً.. صارت جزءاً من ثقافتنا العامة ويبدو هذه الأزمة لا يمكن تجزئتها عن محيطها العام فهي متأثرة به.. فهي جزء من أزمة حقيقة نعيشها بابتعادنا.. عن الله وعن المثل والقيم الإنسانية الحقيقية.. بسبب ما تعنيه في خضم صراعات فكرية وأيديولوجية وثقافية مختلفة.. قد تفرض علينا التواجد في اتجاهات متعاكسة ضمن ساحة الصراع العام والمتعدد الوجود والوسائل..

والكلام ليس عن ظاهرة -كما يسميها البعض- لأن الظاهرة عادة ما تخلقها ظروف استثنائية تنتهي بزوال أسبابها.. لكننا نتكلم عن آفة ومرض عضال حقيقي.. في نفوسنا وضمائرنا وعقولنا.. وسلوكنا اليومي..!! لا نخفيكم فإن هذه الفضيلة (فضيلة الحوار) قد رفعها البعض من قاموس تفكيره..!! بحجج تبريرية رسمتها له خيالاته من مشاعر الاستعلاء والتفوق الزائف.. واحتكار الحقيقة وامتلاك ناصيتها..!! واستبدال تلك الفضيلة برذيلة التعصب واللاتسامح والفوقية، ما نتكلم عنه الآن هو حالات من التشوه.. التي تخلق شخصية مريضة رفضت أسس التسامح والعقلانية، نذكر أننا لسنا بصدد معالجة أو ذكر الأسباب الحقيقية لغياب (فضيلة الحوار) واستبدالها بالتعصب واللاتسامح بل نتكلم عن مظهر من مظاهر تأثيراتها وجوها العام..

الذي نريده هنا، هو أن نرفد أنفسنا وعقولنا وثقافتنا، بضرورة من ضرورات المظاهر الصحية للسلوك المعرفي -على مستوى الفرد أو مستوى العام- غايتنا هو تحريك السجال وتصعيده وتوسيع المجال أمام حرية الرأي الآخر وتوسيع المجال أمام حرية الرأي الآخر وتوسيع آفاقه الرحبة -صوب التجديد والكشف-.

نعم كلنا نريد الحوار..! وكلنا نريد أن نستبدل التعصب بالتسامح وكلنا نقول نحن نحترم الرأي الآخر.!!

الكلام: يجب أن نريده حقيقة وبوعي شعورنا -لأن ألستنا تريد شيء- وعقلنا يختزن شيئاً آخر ويرفض ما نطلب!!

الذي نريده هو الحار الخلاق -الحوار الحقيقي- لا مجرد شعار لا يتجاوز التراقي!!

قد نجد من يقبل الحوار.. ولكن بشرط قبول رأيه بالنتيجة ولكن هذا ليس حوار هذا تعصب مرفوض..

ولكن السؤال الذي يتبادر.. هل الحوار الذي تقصدونه.. الجدل.. مثلاً..؟ نقول: لا، الكلام مختلف تماماً ما نريده ليس الجدل، فهو لغة: لدد ولجاج في الخصومة الكلامية وقد يكون مقروناً بالحيلة الخارجة عن ملاكات العدل والإنصاف.. لذا فهو مذموم عقلاً ومنهي عنه شرعاً!!

ما نريده هو الحوار الحقيقي.. المبني على الأسس العقلانية المنطقية الصحيحة والعقلانية -الحوار الذي يهدد إلى الحقيقة- لا الحوار الذي يفضي إلى نزاعات وضغينة -حوار مبني على احترام الرأي الآخر- أساسه الحجة والبرهان والدليل المبدد للحيرة والشك واللبس... ونذكر ليس بالضرورة أن يخضع أحد المتحاورين لرأي الآخر بالضرورة بقدر ما يخلق الحوار الأرضية المناسبة لتشكيل جسور وروابط بين مباني الخلاف وتضييق دائرتها لتصب بالنتيجة في مصلحة طرفي الحوار على حدٍ سواء..

لقد أكدت تجارب الأمم والشعوب، أن عاقبة أي فعل معرفي وثقافي وحضاري يكمن في تعدد أصواته وفي قوة الإيمان المطلق بمنطق الحوار لتهيئة الأجواء المناسبة لأرضية الحوار بعيداً عن الحسابات الذاتية الضيقة والأنا الحقيرة.. بل بالضد منها تحجيمها وتعريتها داخل نفوس المتحاورين - ونبذ المظاهر المرضية التي تسمم العقل وتشل التفكير- وصياغة نفس وعقل مبدع عبر أسلوب الحوار والتحليل الهادئين.

وتتجلى قيمة الحوار الحقيقية -في التسليم بضرورته وأهميته- ومعرفة شرطه ومقدماته وأسلوبه في التسليم بضرورته وأهميته وأن الحقيقة ليس مطلقة الزمان والمكان دائماً.. وقد تكون واحدة لكن سبل الوصول إليها متعددة! علينا أن نعقد العزم والبدأ بالمسيرة من الداخل -أي داخل النفس- بعيداً عن التكرار النمطي الممل لمجتمع (الأنا) بعيداً عن الافتراضات الواهمة والزعم الذي لا ينتهي -إن من اختلف معهم بالرأي فقد ضلّ السبيل!!- إن الخطأ القاتل أن نجانب الصواب، أن نجانب الحقيقة.. أليس من الإيمان أن نؤمن بأن هناك منطقة (للأعراق!!).

يبدو أن البعض لا يدرك أن التنوع والتباين والاختلاف مظهر من مظاهر العافية والصحة لقول النبي (ص):« خلاف أمتي رحمة..».

ولابد من التذكير مرة أخرى بمقدمة الحوار وأسلوبه -وهذا من شروط صحته وإنجاحه لأننا قد نرغب بالحوار- لكن لا نعرف كيف نتحاور.

فبمجرد أن نشرع به: لا نتوقع غير المراشقات الكلامية الحادة -وإمطار بعضنا البعض بالاتهامات- مما يطغي روح الانفعال والتشنج على أية جلسة حوار -من يفقدها أبسط قواعد اللياقة والمنطقية- وأبعد ما تحصل عليه -كمحصلة نهائية- هو الجدل العقيم.

تترمح الكفة فيه لمن يطلق عقيرته في الصراخ والزعيق للطرف المقابل الذي لا يرتقي بنظر المحاور الآخر عن مرتبة (العدد -أو الخصم أو الند في أحسن حالاته..).

ويبدو أن هذه العقدة جبلت عليها الكثير من النفوس معتقدة دون أدنى شك أو ريب بأنها وحدها من تمتلك ناصية الحقيقة -وهي على صواب دائماً..! وما تملكه حقائق منزلة- وليس للطرف المقابل بد إلاّ الاقتناع ولو قسراً والخضوع لها صاغراً دون قيد أو شرط.!! وما عند غيرها مجرد أوهام وأباطيل زائفة لا يمكن التسليم لها بأي شكل من الأشكال..!

قد يرفض البعض الحوار بحجة الالتزام والتعصب لما يحمل -وهو خطأ لا يقل خطورة عما ذكرناه آنفاً ويبدو أن هؤلاء البعض- خلطوا ما بين التعصب والالتزام، لأن الالتزام انتماء إلى فكرة ما مع الانفتاح على غيرها وهذه غير مانعة الجمع- أما التعصب هو أن تنتمي إلى فكرة وتنغلق عليها، هناك فرق ما بين الالتزام الواعي والالتزام الأعمى الذي يعني الجمود والضيق الانغلاق وقتل روح الإبداع.

يبدو أن الموضوع مثير وبحاجة للتحدث عنه بشمولية لنواصل السجال والمحاورة ومد جسور الألفة الفكرية لفتح آفاق جديدة لعقولنا ووعينا لنستنشق الهواء الطلق -هواء الحرية النقي- لتنضج حقول الفكر وتزداد مناسيب الثراء المعرفي.

لأن المشوار طويل وطويل جداً والبداية لا تبدأ فقط من إعادة النظر بالمسلمات التي تتحكم في سلوكنا اليومي بل تبدأ من مراقبة سلوكياتنا الثقافية والمعرفية التي نزرعها ونروّجها كثقافة عامة يقرأها الصغير والكبير المثقف والغير مثقف -الحقيقة أننا بحاجة ماسة إلى منهجية تربوية صحيحة تنمي هذه الفضيلة وباقي الفضائل المعنية- علينا أن نجعل من التسامح في حقيقته تربية مستمرة واستبدال مشاعر الانفعال بمشاعر ضبط النفس وقبول الآخر وإدراك أننا نعيش في عالم واحد تشترك فيه الأفكار المختلفة جنباً إلى جنب ولا بد من التسامي فوق المطامع والمطامح والمصالح الضيقة -لأن التسامح والحوار يقضي بأن نرى مصالحنا في إطار مصالح الآخرين- والتعصب رباط يشد عين صاحبه فلا يرى من خلاله إلاّ الظلام -ونحن بأمس الحاجة إلى نقطة ضوء- ولابد من التذكير والتأكيد على أن الحوار والتسامح شجاعة وقوة وليس ضعف وتحكيم الفعل والحجة والبرهان والدليل، امتثالاً لأوامر الله تعالى بالحث على المحاورة الهادئة بالبرهان والدليل والحجة بعيداً عن الإكراه والقسرية، قال تعالى:

( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إنَّ ربك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (النحل: 125).

وقال تعالى:

( أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) (النمل: 64).

أخيراً نقول إن مجرد دعوة -للحوار والتسامح- لأن الحوار هو الأكثر قدرة والأقوى منطقاً لسبب بسيط وواضح لأن التعصب يولد التعصب والتسامح والحوار يولد الألفة والمحبة والتعايش بسلام..