في بنود الاخلاق الحميدة أن تبادر أنت بالقاء التحية والسلام، أو
القيام بزيارة ذي صلة رحم أو تقطع من جانبك حبل الخلاف والنزاع، خيرٌ
من أن تنتظر من يسلم عليك أو يأتيك لزيارتك أو يمنحك القيمة الاجتماعية
والمنزلة ويتنازل اليك بنفسه وأنت جالس في بيتك، وفلسفة الخير هنا، في
أن الحالة الثانية وإن طالما يصرّ عليها الكثير بل تحولت الى قاعدة
عريضة للتعامل في أوساطنا الاجتماعية – مع الأسف- قد لا تتحقق ولا
ضمانة لها بأن تدخل حيز التنفيذ لأسباب مختلفة، فيبقى الانسان يراوح
مكانه بالتمني والترجي، وتبقى المشاكل والأزمات، في حين قرار التنفيذ
الشجاع والاقدام على فعل الخير هو الذي يسبق في تسجيل نقطة ايجابية
ويضع لبنة على أخرى في البناء الاجتماعي لاسيما ونحن نستند على كمٍ
هائل من تراث حضاري وثقافي وتربوي أرساه الرسول الأكرم وأهل بيته
الكرام على مدى أكثر من قرنين من الزمن.
فاذا كان حال الانسان اليوم هو المراوحة وعدم النهوض والتقدم
بالأخلاق والقيم الفاضلة، فان أمره سيؤول لاشك الى التعب والملل ثم
الجزع وبعدها التشكيك بكل شئ، إذ يجد أن عليه البحث عن وسائل أخرى
لتحقيق ذاته ومصالحه ومكانته في الحياة، فما فائدة الاهتمام بالآخرين
عندما يكون كل شخص منطوياً على نفسه مشغولاً بمصالحه واهتماماته الخاصة؟
وإذن؛ فما فائدة الدين بما يحمل من قيم أخلاقية وتشريعات وأنظمة؟ إنه
يصلح للكتب ذات الأغلفة الجميلة والطباعة الفاخرة والجذابة، أو في أحسن
الأحوال أن يتم تداوله في جدران أربعة لمؤسسات وكيانات دينية باسماء
مختلفة.
من خلال استماعي لمحاضرات المرحوم الفقيد سماحة آية الله السيد محمد
رضا الشيرازي الذي نمر هذه الأيام في ذكرى وفاته الأليمة، توصلت الى
إنه (قدس سره) كان يحمل في قلبه مشعلاً متوهجاً بتعاليم الدين الحنيف
وبالقيم الاخلاقية الفاضلة، وكان يشير بوضوح الى إن المجتمع ليس بعيداً
على كل حال عن هذا الدين وما يحمل من رسالة انسانية سامية، وما عليه
سوى رفع خطوات الى الأمام ليجد إنه يحاكي مجتمع الرسول الأكرم (صلى
الله عليه وآله)، الذي هو بالحقيقة النموذج النابض الذي نفخر به
وبقيادته الربانية الفذّة التي أعجزت وما تزال المفكرين والفلاسفة
والعلماء على مر الدهور والعصور.
الرسول الأكرم.. النموذج الأسمى
ومن نافلة القول هنا، أني توصلت الى سر اهتمام والد الفقيه
الشيرازي، الإمام الراحل السيد محمد بن المهدي الشيرازي (قدس سره)
بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، في معظم بحوثه وكتاباته، وأيضاً
ترويج إسمه المبارك عل معظم مشاريعه الثقافية والاجتماعية، مثل الحوزات
العلمية والمكتبات والحسينيات، وتركيزه الدائم على الحادثة التاريخية
والمشرقة التي أطلق فيها رسول الله مشركي قريش وعفا عنهم، فقال سماحة
الفقيه الشيرازي – الإبن- إن والده كان متأثراً بشدة بشخصية الرسول
الأكرم (صلى الله عليه وآله)... نعم؛ إنه تأثر وإعجاب، لكن ليس من سنخ
الرغبات الشهوانية التي يستبطنها الانسان تارةً و يظهرها تارةً أخرى،
إنما هي الذوبان الكامل في هذا النهج الرباني، ومحاولة رسم نموذج جديد
يقرّب لإنسان اليوم الصورة التي كان عليها مجتمع الرسول الأكرم، بل
والمجتمع الاسلامي في الصدر الأول.
وعلى هذا الطريق سار الفقيه الراحل السيد محمد رضا بن محمد بن
المهدي الحسيني الشيرازي (قدس سره)، لينادي في الناس أن هبوا نحو
نافذة الأمل في الحياة حيث تشرق شمس الكرامة والعدل والحرية والقيم
الانسانية من عظمة شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ومن
الدين الاسلامي بشكل عام، لكن كيف السبيل لإيصال هذا النداء الى أهله؟
فقد تفتقت ذهنية وعبقرية الفقيه الشيرازي في زمن غاية في التعقيد
والحساسية، فباتت الكتب مهما ضمّت، مهملة ومملة، والأسماء مهما كبرت لا
ينظر اليها أحد – ونقول ذلك بشكل عام-، فاختار الفقيه أسلوباً ذكياً،
مستلهماً من مدرسة جده الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو الحديث
الهادئ والمنطق الرصين، ووسيلته في ذلك الكرسي الذي يجلس عليه وجهاز
لاقط الصوت الذي أمامه في قاعة من أربع جدران يحضرها عدد محدود من
المؤمنين والموالين، ليسكب الفقيه المرحوم على أفئدتهم ما تيسّر له من
ثقافة أهل البيت (عليهم السلام) ونهجهم في الحياة.
إن الطابع العام – باعتقادي القاصر- لمحاضرات سماحة الفقيه الشيرازي
(قدس سره) يحمل رسالتان:
الأولى: الحثّ والاستنهاض للاغتراف من معين أهل البيت (عليهم
السلام)، وهو في ذلك يدعم موضوعاته بالأدلة والشواهد وأيضاً القصص التي
يطلق عليها سماحته بـ(القضايا)، والأهم من كل ذلك تركيزه على الاستدلال
من المصادر السنيّة قبل الشيعية.
والرسالة الثانية: وهي المكملة، الدعوة لتحمّل مسؤولية حمل هذا
النهج الرباني ونشره في الآفاق والمباهاة به أمام العالم.
بالنسبة للرسالة الأولى: بذل سماحة الفقيه المرحوم أقصى جهده لأن
ينقل هذه الرسالة الى المشاهد والمستمع، فشمل في بحوثه الطفل والمرأة
والرجل والعالم والجاهل وفي مختلف الظروف والحالات، هذا فيما يتعلق
بالانسان ما بينه وبين نفسه وبين مجتمعه، وتناول في محاضراته أيضاً
العلاقة ما بين الانسان وربه وما يجب عليه من التوسل بأولياء الله
الصالحين من النبي الأكرم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم
أجمعين)، وهنا أبدع سماحة الفقيه الشيرازي في نقل الأسرة المسلمة بما
فيها من أب وأم وفتاة وشاب وطفل صغير وأيضاً جد كبير، الى رحاب السمو
والعرفان والتوجه المعنوي، وهو في ذلك يبدي حرصاً شديداً وواضحاً على
تحقيق التوازن بين الاهتمامات المادية الموجودة بل ومشروعيتها في
الحياة، وبين الاهتمامات المعنوية التي يجب أن تأخذ نصيبها الوافر من
حياة الانسان، كما أكد على ذلك سماحته في أكثر من محاضرة وفي مناسبات
مختلفة.
طوفان العاطفة في نفوس الأطفال
ومن أروع الصور التي رسمها لنا الفقيه الشيرازي مشكوراً دعوته
لإقامة مجالس دعاء الأدعية المأثورة وأيضاً إقامة المجالس الحسينية في
البيوت وإشراك الأطفال فيها، فيقول (قدس سره) وهو يضغط على الحروف:
أتعلمون أي طوفانٍ يحدث في نفسية الأبناء وهم ينظرون الى الأب أو الأم
وهما يذرفان الدموع على مصاب أهل البيت (صلوات الله عليهم) أو لشدة
التأثر من كلمات الدعاء؟ ولعلي أجريت بعض التعديل على الجمل الواردة في
نصّ كلام سماحة الفقيه الشيرازي، في كل الأحوال من هذه الشواهد
والنماذج الكثير التي يمكن ملاحظتها من محاضراته، كما تطرق أيضاً الى
الجانب العلمي في الاسلام والفضل الكبير للإمام الصادق (عليه السلام)
على العالم، حيث يقول ما مضمونه بان الامام الصادق وقبله رسول الله
(صلى الله عليه وآله) له الفضل الكبير ليس على المسلمين وإنما على
العالم بأسره الى يوم القيامة.
ولا ننسى تأكيده الشديد على الصديقة فاطمة الزهراء كقدوة شامخة
للمرأة والرجل في وقت واحد، ومن أعظم ما قاله – حسب ظني- بحق الزهراء
(صلوات الله عليها)، هو أنها ماتزال تكشف الزيف المقنع لأدعياء الدين
من خلال قبرها والمجهول وأيضاً من خلال قبر ولدها السقط (محسن)، حيث
بقيا شاهدان على مر التاريخ على الظلم والانحراف والطغيان.
إن الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي، لم يستخدم الألفاظ والإثارات
المختلفة ومحاور الحديث المتعلقة بأهل البيت (ع)، لاستدرار الدموع
وإثارة الأسى في النفوس كما هي مهمة أرباب المنابر والمآتم، وإن كان له
كلمة شكر وعرفان لجميع الخطباء وأصحاب المنبر الرسالي الذين خدموا
الدين والمذهب من خلال المنبر الحسيني وجاهدوا واستشهدوا على هذا
الطريق، إنما وظّف المعلومة التاريخية والقصة (القضية) الحاصلة من قبيل
المعجزة أو العبرة أو غير ذلك، ليفتح المجال واسعاً للجميع لأن يعايشوا
تلك الأجواء التي الأيمانية، ولا يحذروا من غلبة المظاهر المادية
والظروف الحياتية الراهنة على الثوابت والقيم الدينية.
أما الرسالة الثانية، فلم تكن بمعزل عن الرسالة الأولى من الناحية
الموضوعية، حيث كانت محاضرات السيد الفقيه (قدس سره)، تتضمن محاور
تربوية وتثقيفية عامة، كما كانت تتضمن أيضاً التذكير بالمسؤولية
والمهمة الرسالية الملقاة على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع الاسلامي
إزاء الدين والقرآن الكريم والرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (صلوات
الله عليهم أجمعين)، ومن أجمل ما يمكن سماعه في محاضراته وربما تكون
يوماً على الورق بهمّة وجهود المؤمنين، هو دعوته للدعاء للإمام الحجة
المنتظر (عجل الله فرجه)، كما يدعو الانسان لنفسه ولأقاربه، وهو أمر
قلما يتطرق اليه محاضر أو مفكر أو عالم، حيث يتركز الحديث حول عادةً
حول مسألة الظهور وعلاماته وفي أحسن الأحوال المعاجز التي تحققت للكثير
على يده المباركة، إذن؛ يعرف الناس عن إمامهم الحجة المنتظر والحيّ بين
ظهرانيهم، هو بمقدار ما يوصلهم إليه من يد العون أو الإلهام أو
المساعدة أو الشفاعة وغير ذلك.
وقد أبلغ وأجمل وأحسن فقيدنا الراحل في نقل المشاهد والمستمع من
حالة الاستفادة البحتة من الإمام إلى التفكير بإفادته والعمل من أجله،
من قبيل الدعاء له عقب كل صلاة وهو دعاء الفرج المعروف والقصير، لكنه
مؤثرٌ جداً بتأكيد سماحة الفقيه، حيث يقول إن من شأنه أن يعجل في ظهور
الإمام وإنهاء المصائب والويلات والمحن.
كل ذلك – باعتقادي- كان وراء التفاعل والتأثر الشديدين بحادث رحيل
سماحة الفقيه الشيرازي، والذي جسده المؤمنون في مراسيم التشييع سواءً
في قم وكربلاء المقدستين أو في متابعة محاضرات وأفكار الفقيه الراحل،
ونذكر مرة أخرى على أن الفقيه الراحل لم يسكن العراق ولم يشاهده الناس
ولم يصلوا خلفه أو غير ذلك، إنما بزع نجماً في الأعالي بعد أن أغمض
عينيه وغادر الحياة الى حيث رحمة ربه ورضوانه.
* مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية
http://mr-alshirazi.com |