ونحن نلتقي بآية الله الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي قدس
سره في ذكراه السنوية الأولى لرحيله، لا بد أن نعي سيرته بكل ماتمخض
عنها من تراث، لأنَّ مسيرته الممتدة عبر أسرة آل الشيرازي إنما تمتدُّ
عبر جوانب مختلفة وعلى مدى عقود طويلة من حياتنا؛ لأنهم لا يعيشون في
نطاق الزمن الذي عاشوا فيه، بل تمتد إنجازاتهم مع الحياة كلِّها..
فالقيم الاسلامية التي تحلوا بها هي قيم السماء المهداة للعالم أجمع في
الزمن كله.
لقد عاش الفقيه الشيرازي (قدس سره) بعد أبيه السيد الإمام محمد
الشيرازي (أعلى الله درجاته)، وامتدَّ تأثيره في الحياة بمختلف نواحيها،
فكانت الجماهير تنطلق إليه وهو يرشدها عبر محاضراته ومواعظه ووصاياه،
وكان يواجه مختلف القضايا التي عاصرة حياته، من مشاكل الصراع الفكري
والتنوع الديني والطائفي.. فتلك هي مهمة العلماء أجمع ومهمة آل
الشيرازي خصوصا، في رصد الواقع بكل مايحمله من تحديات ثقافية وفكرية
وإجتماعية مصححين المفاهيم التي يمكن أن تختلف فيها التفاسير، والتي
يمكن أن تثار الشبهات بين طياتها، وكذلك تصحيح مسيرة المجتمع كي
لاينحرف عن جادة الصواب.
وعلى هذا، كان الفقيه الشيرازي يجلس إلى مختلف طبقات المجتمع ومختلف
التيارات من مختلف المذاهب ليحاورهم وليدخل معهم في حديث الاسلام
مبيناً وجهة نظر الإسلام بمختلف القضايا، مناقشاً معهم دينهم وفكرهم،
وكان كل من يجالسه ـ بشهادة كل من عاصره ـ لا يخرج من عنده إلا كان
راضياً مرضياً، أما قوة الفكر والدليل والمنطق فلا يجد أحداً حجة في
الرد عليه..
وحتى نتعرّف على شخصية الفقيه الشيرازي في عمقها الثقافي والفكري،
لا بدَّ أن نتوقف عما قاله عنه بعض معاصريه.
قال المرجع الديني الكبير آية الله العظمى المرجع الديني السيد صادق
الحسيني الشيرازي عنه "أمّا الفقيد السعيد، فإنني عشت معه منذ ولادته
[بكاء متواصل] ولم أر منه غير ما ينبغي للذين آمنوا وعملوا الصالحات
الذين وصفهم القرآن الكريم بهذا الوصف ووصفتهم أحاديث النبيّ الأعظم
والعترة الطاهرة صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. وأضاف "أن السيد محمد
رضا كان أملي لمستقبل الإسلام كان أملي ليقود المسيرة من بعدي".
وجاء عن المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي كان الفقيد السعيد
يقتدي بوالده الراحل في الاخلاق الحميدة والزهد والتقوى والاجتهاد في
طلب العلم والتعليم والتتلمذ على القرآن الكريم والتدبّر فيه وتوجيه
الشباب المؤمن الى قيم الرسالة والدرب القويم.
وجاء عن نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ عبد الأمير
قبلان، كان الفقيه الشيرازي مثال العالم الفاضل الذي حفلت حياته
بالعطاء والعمل حيث أفنى عمره الشريف في التأليف والبحث والتدريس،
فأغنى المكتبة الإسلامية بجملة من المؤلفات والأبحاث العقائدية
والفقهية.
ولهذا، لا بدَّ من دراسة كلِّ تراث الفقيه الشيرازي، لأنَّه يمثِّل
تراثاً واسعاً في الجوانب الدينية والاخلاقية والعرفانية، حيث إنَّ كل
من يسمع محاضراته ويقرأ كتبه يخرج بثقافةٍ وفكر متنوع في مختلف جوانب
الحياة عبر أبعادها المختلفة. وهذا ما ينبغي علينا في إثارتنا لكلِّ
تراث الفقيه الشيرازي الذي يُغني الإنسانية، بحياتهم وبعد مماتهم.
أما سيرة الفقيه الشيرازي الاخلاقية، فأنه عاش مع الكبير والصغير،
مع الصديق والعدو، مع الفقير والثري.. وكان قمة في التواضع ولم يجفو
أحداً، فالإنسان الذي يعيش تجارب كثيرة من خلال علاقته بالمجتمع، لا بدَّ
أن يواجه الصعوبات والمخاطر، وأن يتألم من مواقف معادية، ويشعر بالغربة
والأذى من جراء مايحصل له من إساءات، وبالتالي سيكون من البديهي أن
يعبر الإنسان عن شعوره مما لاقاه من أذية الآخرون. ولكنّ الفقيه
الشيرازي كان يملك الكلمة المهذبة والرد الجميل؛ لأنَّه عمل بالقرآن
وعمل بوصايا آبائه وأجداده، و جسد قوله تعالى "وقُلْ لِعِبادي يقولُوا
الّتي هي أَحْسَن" [الإسراء:53].
كان يتكلم بكلمة الفضيلة مع كل من عايشه حتى مع أعدائه؛ لأنه كان
يعتقد إن الكلمة تمثّل روح الإنسان وعقله وقلبه، كما كان جده رسول الله
الذي قال الله تعالى بحقه "فَبِمَا رحمةٍ مِنَ اللّه لِنْتَ لَهُم
وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَليظَ القَلْبِ لانفضُّوا مِن حولِك" [آل
عمران:159]، أو ما أشارت إليه الآية الكريمة: "ادفعْ بالتي هي أحْسَنُ
فإذا الذي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عداوةٌ كأنَّهُ وليٌّ حميمٌ" [فصّلت:34].
كان الفقيه الشيرازي يكلل الناس بالاحترام فعندما يتحدث إليه أحد لا
يقاطعه في كلام؛ لأنه كان يدرك أن المقاطعة تؤذي الضيف الذي لايستطيع
حينها أن يعبر في ما يجول بخاطره، وكان حديثه يبدأ في نهاية الكلام.
كان الفقيه الشيرازي لايرد أحداً عندما يطلب منه حاجة يقدر عليها؛
لأنه يعتقد أن قضاء حوائج الناس من الأولويات ولأنَّه يخاف إذا أخّر
قضاءها وبالتالي سيستغني طالب الحاجة عنه، فيفقد نعمةً من نِعَم الله
عليه وهي قضاء حوائج الناس. فقد تجلت أخلاقه في عطفه على الفقراء
والمساكين وهو يلتحف التراب، كما شاهدناه في مناظر كثيرة وهو يجالس
الفقراء ويتحدث أليهم ويتحدثون إليه.
هذه هي مسيرة أهل البيت عليهم السلام وهذه هي مسيرة آبائه وأجداده
من آل الشيرازي الذين أفنوا حياتهم في عمل الخير. هكذا ترجم الفقيه
الشيرازي (قدس سره) تعاليم السماء، في الجهاد والتوجيه والالتزام ودعم
كل القضايا التي تهم الانسانية.
[email protected] |