قال لنا عليٌ (ع): تدبّروا آيات القرآن

ضرورة التدبر وتبرير الهجران

السيد محمود الموسوي

ماذا تقول فيمن يُعطى أسباب التقدم فلا يأخذ بها؟

وكيف تنظر لمن يُقدّم له أداة النجاح، فلا يعيرها اهتماماً؟

وبأي وصف يمكن أن تصف من يُعطى مفتاحاً للخروج من الفتن والمشكلات، فيتركه وراء ظهره؟

بلا أدنى شك ستجيب وأجيب ويجيب كافة العقلاء بأن هذا الإنسان سيخرج من دائرة العقلاء وسيدخل ضمن صنف المجانين، وهنا أتذكر ما تحدّث عنه الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في أحد كتبه، يشير إلى أن من نسميهم مجانين في الواقع هم أصحاب ابتلاء ولا يضرون إلا أنفسهم في الغالب، أما المجانين الحقيقيين فهم من يحسبون أنهم عقلاء وما هم كذلك، فهم يضرون أنفسهم ويضرون غيرهم، لأنهم لم يأخذوا بأسباب التقدم والإنتصار، فيكونوا أداة من أدوات الهدم والتخلف.

نداء العقل الذي خلقه الله تعالى من نور، يكشف لنا بوضوح لا لبس فيه أنه ينبغي لنا أن نأخذ بأسباب التقدم وبأدواة النجاح، ومفاتيح المشكلات من حولنا، لنتخطاها ونتغلب عليها، وما يكون ذلك إلا بهدى القرآن الكريم، كلام الرب عز وجل لخلقه على مر العصور وفي سائر الأمكنة، (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً)، وهو (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) من خلال بصائره التي يبصّر بها الناس ليمشون بها في الناس والحياة.

رسول البشرية العظيم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (ع) من بعده دعونا صراحة لأن نتمسّك بالقرآن ونلجأ إليه ليخرجنا من ظلمات الجهل والفتن إلى نور العلم ورفاه الحياة الطيبة، كما عن الإمام الصادق (ع) عن الرسول (ص): (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل وهو الفصل ليس بالهزل وله ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق، له نجوم وعلى نجومه نجوم، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ودليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب ويتخلص من نشب فإن التفكر حياة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور)، فأي عذر يمكن أن نعتذر به بعد صراحة البيان، وصراحة الدعوة؟

كل أيامنا أيام القرآن الكريم، وربيعه شهر رمضان المبارك، الذي تتجلى فيه حقيقة القرآن وعظمته، من خلال عظيم ثواب قارئه، وعظيم ثواب متعلمه، وعظمة التدبر في آياته، وعظمة حامله بالحق ليستنير به في الحياة، ويكون في أيامه ولياليه قلب الإنسان خير وعاء لبصائره. إلا أن الشيطان الرجيم مازال يوسوس للإنسان، لكي يهجر القرآن، ليتمكّن منه بعد ذلك، فإن الشيطان يسعى دوماً إلى سلب سلاح المؤمن منه، ليبقى ضعيفاً كما بدأ الله خلقه، فيتمكن من إغوائه والسيطرة عليه، فقد تعهّد بقوله لله عز وجل: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ). 

أما التبريرات الخاوية التي يدخل من خلالها الشيطان الرجيم لمنع نور القرآن من الوصول إلى قلب الإنسان، لينسف العلاقة بين الإنسان والقرآن، فمنها:

1/ عدم كفاية الوقت: يتعذر البعض بأنه لا يمتلك سعة من الوقت لكي يقوم بالتواصل مع القرآن الكريم، وهذا التبرير ليس له واقعية، لأننا نجد أن من يشعر بأهمية شيء، فإنه يخصص له وقتاً ويحرص على أن يهتم به، كما أن الأوقات التي تضيع من الإنسان ليست قليلة، فهو قد يجد لنفسه وقتاً طويلاً للجلوس مع أقرانه، أو لمشاهدة برامج تلفزيونية، أو ماشابه ذلك، فكيف لا يجد لنفسه وقتاً مع القرآن، وهو بهذه الأهمية التي تصب في صالحه!

2/ الإكتفاء بالتلاوة: قد يظن شخص بأن التلاوة بما لها من ثواب عظيم، وحث أهل البيت (عليهم السلام) عليها، يكفي في التواصل مع القرآن الكريم، ولكن هذه النظرة ناقصة وتحتاج إلى تتمة، فالتلاوة هي مقدمة للوصول إلى معاني القرآن ونوره إلى القلب والعقل عبر تدبر آياته والتفكّر في مضامينه، ولذلك جاء في دعاء بداية تلاوة القرآن عن أبي عبد الله (عليه السلام): (اللهم فاجعل نظري فيه عبادة، وقراءتي فيه فكراً، وفكري فيه اعتباراً واجعلني ممن اتعظ ببيان مواعظك فيه، واجتنب معاصيك، ولا تطبع عند قراءتي علي سمعي، ولا تجعل على بصري غشاوة، ولا تجعل قراءتي قراءة لا تدبر فيها بل اجعلني أتدبر آياته وأحكامه، آخذاً بشرايع دينك، ولا تجعل نظري فيه غفلة ولاقراءتي هذراً إنك أنت الرؤف الرحيم)، وقال الإمام علي (ع): (تدبروا آيات القرآن واعتبروا به، فإنه أبلغ العبر).

3/ عدم التمكّن من فهم القرآن: يأتي هذا التبرير بعدة وجوه، وكلها تقود إلى نفس الغاية، وهي نقض غرض القرآن، وحجب نوره من أن يصل إلى القلوب، فإن الله تعالى أنزل كتابه إلى الناس كافة، ولا يمكن أن ينزله عليهم ويطالبهم بالإيمان والهداية والإتعاظ به، دون أن يكون الكتاب نفسه نافذة تطل على الهداية، ودون أن يكون للإنسان القابلية والقدرة على الفهم والوصول إلى الهداية من خلاله، فالقرآن شهيداً بين يدي الرسول (ص) لينذر به الناس، (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ). وقال عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ).

 نعم إن القرآن عميق غوره وله بطون وآفاق قد لا يفهمها إلا العلماء، ولا يفهمها كلها إلا النبي (ص) وأهل بيته (ع)، إلا أنه من جانب آخر فيه مستويات، فبعض يفهمه عامة الناس الذين يعرفون العربية وبما لهم من فطرة فطرهم الله عليها، وبما لهم من العقل الذي كرمهم الله به، يمكن أن ينهلوا منه، وبعض يفهمه العلماء والأولياء، كما جاء عن أمير المؤمنين (ع): (ثم أن الله جلّ ذكره.. قسّم كلامه ثلاثة أقسام: فجعل قسماً منه يعرفه العالم والجاهل، وقسماً لا يعرفه إلا من صفا ذهنه ولطف حسه وصحّ تمييزه ممن شرح الله صدره للإسلام، وقسماً لا يعرفه إلا الله وأمناؤه الراسخون في العلم..).

وقال الإمام زين العابدين (ع) ببيان لا لبس فيه: (كتاب الله عز وجل على أربعة أشياء: على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء).

وأما عندما يقف الإنسان عند الآيات المتشابهات والتي لا يعيها ولا يصل علمه مضمونها، فلابد أن يلجأ إلى الذين يعلمون الكتاب، العلماء به، فينهل منهم ما نقص عنده، إما عبر التفاسير المكتوبة أو المنطوقة أو التعلّم عند المعلّم، فإنه (ينبغي للمؤمن أن لا يموت حتى يتعلم القرآن أو يكون في تعليمه) كما قال الإمام الصادق عليه السلام.

4/ التطفّل على القرآن: من تسويلات الشيطان الدقيقة التي ينبغي الحذر منها، هي أن يدعي البعض بأننا لا نحتاج إلى مرشد ومبيّن لفهم القرآن الكريم، وبدرجة أخص، يدعون بأنهم ليسوا بحاجة إلى النبي (ص) وأهل بيته (ع) لتكون قراءتهم وفهمهم فهماً قويماً. نعم لقد ذكرنا في نقطة سابقة بأن في القرآن ما هو مفهوم لدى عامة الناس من خلال اللغة والعقل، ولكن القرآن عميق فمن أجل المزيد من المعرفة ومن أجل الوصول إلى آفاقه العميقة، لابد من التمسّك بأهل البيت (ع) عبر المنهج الذي بينوه والإرشادات التي ذكروها لفقه القرآن والإستفادة منه.

فإن أهل البيت (ع) قد بيّنوا القرآن الكريم بطريقين:

الأول: فسروا الآيات القرآنية، وأولوها في من نزلت وفي من كانت مصاديق لهم، وبينوا دلالات الألفاظ وآفاقها، عبر روايات التفسير المباشر، إلا أن ذلك التفسير لا يعتبر المعنى الوحيد للآية، فإنهم عليهم السلام قد فسروا بعض الآيات بعدة تفاسير، وهذا مصداق لبطون الآيات.

الثاني: قد بين لنا أهل البيت (ع) منهج الفهم الصحيح وأعطونا مفاتيحاً، لكي نقوم بعملية فقه القرآن وفهمه، حيث عرفوا لنا المحكم والمتشابه وكيف نتعامل مع الآيات، فنرد المتشابهات إلى المحكمات، وبينوا لنا أن القرآن نزل بإياكِ أعني واسمعي يا جارة، وأشاروا إلى بعض القواعد القرآنية، وأنه يصدّق بعضه بعضهاً وأن على كل حق حقيقة ولكل صواب نوراً، وأن كلام الله أوله في شيء وآخره في شيء وهو متصل، وماشابه ذلك، كما كانوا يحثون الأصحاب على التوجه نحو القرآن والتفكر فيه، والتدبر في آياته. 

فمن القطيعة مع القرآن الكريم هو أن نضل طريقه الصحيح، فنفقد العاصم لمسار العقل، وهم النبي (ص) وأهل بيته الأطهار، ولذلك فإن من فرّق بين الكتاب وبين أهل البيت (ع) ضلّوا وأضلّوا، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على غير ما نزل وعلى غير ما جرى مجراه، وعلى غير ما كان عليهم المثل. وقد عملوا بما تشابه عليهم من الآيات وقد أمروا بأن يؤمنوا بها وأن يردوها إلى محكمها، ليعملوا بالمحكم من القرآن، فهكذا علمنا أهل البيت (ع) لنأخذ أسباب القوة والنجاح ونتخطى المشكلات بالقرآن الكريم، فلا نهجره بتبريرات عدم الفهم ولا نجترحه من غير نهج قويم من أهل الذكر.

"يابن آدم..الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما"

www.mosawy.org

 جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/أيلول/2009 - 25/رمضان/1430

[email protected]