تحقيق المناط في مقاصد الصوم

زهير الخويلدي

الصوم نصف الصبر

حديث شريف

 

ليس الغرض من أداء شعيرة الصيام هو حصول التقوى لتحصين الذات من الوقوع في المكائد والشرور فحسب كما يظهر في المعنى الحرفي للآية الكريمة التالية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( البقرة 183)، وليس كذلك مجرد إمساك النفس عن الطعام والشراب وفطامها عن الرغبات الأخرى كما يذهب إلى ذلك العديد من الناس، وإنما أكثر من ذلك هو كف لا حركة وترك لا فعل ولذلك توجد فلسفة كاملة ينبغي لكل معتقد أن يراعيها عندما يدخل في تجربة الصوم تقوم على ربط العبادات عامة بأمور الدنيا وتهتم بتأثير الصوم على الحياة اليومية وخاصة من وجهة نظر مادية وجسدا نية لما يتضمنه من قيم أخلاقية ومنافع صحية ومقاصد اقتصادية وحاجات اجتماعية ودوافع نفسية كالصبر عند الشدائد والاعتدال في الإنفاق والإحساس بالآخر والتعبير عن روح التكافل. يبعد الصوم الناس عن المضيقات والوضعيات الحدية والنواقص ويقربهم من الصمدية والوحدة والألوهية.

فما المقصود بالصوم؟ ماهي شروطه؟ لأي شيء فرض الله الصوم على المسلمين مدة شهر كامل هو شهر رمضان؟ لماذا كتب الصوم أياما معدودات؟ وما هي مقاصده؟ وهل هناك موانع وتحفظات أمام قيام الناس بهذا الركن المهم؟ وهل يمكن تخطي مثل هذه التحفظات من أجل ترغيب الناس في الصوم دون إكراه وإلزام وجعلهم يقبلون عليه عن حرية واقتناع؟ ماهي آثار تجربة الصيام على الصائم؟ فهل الصوم رابطة بين المرء وربه أم صلة بينه وبين نفسه؟ وهل هو جسر عبور للتواصل بين الأنا والآخر أم أنه طريقة للوجود في العالم؟ لماذا فضل الله شهر رمضان واعتبره شهر البركة والمغفرة والرحمة؟ هل الصوم هو الذي يميزه عن بقية الشهر الأخرى؟ ألا ترون أن الصوم تحول إلى عادة روتينية وواجب اجتماعي ينبغي القيام به لا غير؟ كيف يمكن إتمام شعيرة الصوم على أحسن وجه؟

 الصوم في اللغة: الكف عن الشيء، وفي الاصطلاح: الكف عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر لغروب الشمس بنية. وصوم رمضان من الأركان الخمسة التي بني عيها الإسلام. ولكن عبادة الصوم موجودة في عدة ديانات وليست حكرا على الإسلام وقد فرضت على موسى وعيسى عليهما السلام بل إن العرب في أيام الجاهلية قد عرفوا هذه العادة وكانوا يقدسون شهر رمضان. حول هذا الموضوع نجد ما يلي: وتقديس هذا الشهر الفضيل مما ورثه الإسلام عن العرب- معدن الإسلام ومادته. فقد كان المتحنفون...يفعلون ذلك زمنهم عبد المطلب جد النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ نقل لنا الإخباريون أنه إذا جاء رمضان شد مئزره وطلع إلى غار حراء وتحنث فيه وأمر بإطعام المساكين طوال الشهر.

ويتراوح الصوم بين الوجوب والنذور وبين الكره والحرمة وبين الاستحباب والصمت ولكنه عند المسلمين ارتبط بالشهر الفضيل رمضان الذي وقع يشتق في الضاد من الرَّمَض، أي اشتداد حرارة النّهار؛ أما المعنى الاصطلاحي فيبرز يخلق الإنسان في نفسه حرارة وحماسًا للعمل بأوامر الله تعالى، رغم كفه عن تناول الطعام والشراب وغيرهما من الملذات البدنية من ناحية، وهكذا تجتمع الحرارة الروحانية والحرارة الجسمانية فتصير رمضان.

إن تعظيم رمضان مرده انه شهر التقوى والتذكرة الحسنة والعودة إلى القرآن قراءة وتدبرا وتلاوة وختما ، وهو شهر البركة والرحمة حيث تعم فيه قيم التكافل والتعاون والتعاطف وتتقوى أواصر القربى وصلة الرحم ويكون الأقربون هم الأولى بالمعروف ويقع الاحتكام إلى الرؤية من أجل إزالة الشك واثبات دخوله وفقا للأشهر القمرية وتجتمع الملة على أمر واحد وهو صوم رمضان ويعتمر من استطاع إلى البيت.

ويكلف بالصوم من كان راشدا بالغا ومن كان حاضرا واعيا ومن كان معافى يتمتع بصحة واعتدال ويعفى منه المريض والمسافر والطفل والمسن. أما مبطلات الصوم فهي تعمد الأكل والشرب والجماع والبقاء على الجنابة والكذب على الناس وإتيان معصية والإخلال بالنية.

وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، من لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء. وقال أيضا موصيا الاقتصاد والحمية: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع.وأركان الصوم اثنان هما النية وتنعقد في الليل أو مع طلوع الفجر وتكفي النية الواحدة لكل صوم، أما الشرط الثاني فهو الكف عن تحقيق الرغبات من طلوع الفجر للغروب. وإذا أفطر المرء فيجب عليه خمسة أمور: القضاء والإمساك والكفارة والإطعام وقطع التتابع. وأما المرء الذي أفطر عن عذر كمرض أو سفر أو سهو وغفلة وشك مطالب بالقضاء.

ما نلاحظه أن الصوم له ميزة وأولوية بالمقارنة مع سائر الشعائر الأخرى تتمثل في انعدام الواسطة بين الخالق والمخلوق وشدة القرب وينفرد بخصوصية الجزاء الإلهي المباشر التي يتلقاها الصائم والفرحة التي تغمره عند الإفطار والتي تشبه إلى حد كبير فرحة لقاء الإنسان لربه لحظة الوفاة، وهذا ما نص عليه الحديث الشريف: الله تعالى يقول: الصوم لي وأنا أجزي عليه،علاوة على أن ما يستحقه الصائم من ثواب هو قيمة عالية يفوق حتى ثواب دخول الجنة وما فيها من مراتب، فهل يعني هذا أن الصوم هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله والاتحاد بذاته؟

الصوم هو أحد أركان الإسلام الخمسة وهو عبادة لتهذيب النفس وصقل الشخصية والرجوع إلى المطلق المتعالي و ذلك بقهر للضعف والتغلب على المحدودية والانتصار على النقصان ويعبر عن التوكل على النفس والرضا الباطني بالمصير ويرتكز على ممارسة نوع من الفعل الإرادي الواعي والذي يتوج بالتحكم في الشهوات والسيطرة على الانفعالات ويشحذ طاقة المرء في التحمل والصبر والمكابدة.

وقد ذكر علي ابن أبي طالب: صوموا تصحوا وروي عن الطبيب الإغريقي أبيقراط قوله: استدامة الصحة تكون بترك التكاسل عن التعب وترك امتلاء المعدة بالطعام. وقد أثبت العلم المعاصر حاجة الجسم الانساني للبقاء لساعات طويلة في حالة من الجوع من أجل الحمية والتخلص من زوائد الشحوم واللحوم والشفاء من البقع الداخلية المتعفنة والجروح المتقرحة. إن الصوم يعطي يمكن أنسجة الجسم وخلاياه من التخلص من النفايات والمواد الضارة والتوكسينات التي تراكمت حولها نتيجة عمليات الهضم والتمثيل ، كما أنه يعطي الأنسجة والأعضاء المصابة بشيء من التقيح أو الاحتقان أو الالتهاب مجالا للشفاء. ومن المعلوم أن الجسم يواصل عملية التغذي أثناء الصوم بواسطة الدهون وباستهلاك الطاقة المخزنة في الأعضاء المكونة للجسم. ومن الطبيعي كذلك أن المعدة تصاب بالعطب إذا لم يقع إراحتها لفترات متراوحة من الزمن ومن البديهي أيضا أن الإنسان يحتاج إلى الصوم حتى وان لم يكن مريضا وذلك للوصول إلى كمال الوسط الداخلي وسلامة الأعضاء والى حالة من السكينة الروحية.

فوائد الصوم عديدة ولكن أهمها هو تعلم الصبر في الحياة والتدرج في التعامل مع الوضعيات المستعصية والترتيب في الأعمال، ثم التعاطف مع الفقراء والمحرومين والإنصات إلى صرخات المظلومين وتأدية حقوق الناس، وبعد ذلك تجنب الذنوب والمعاصي والآثام بمراقبة النفس وإمساكها عن الباطل وترشيدها نحو الأصلح. يجلي الصيام القلب وينوره فتتضاعف فيه القوة الكشفية والبصيرة، وتنكشف له حقائق الأشياء والمعارف التي تضمنها الفرقان الحكيم.

 الصوم رياضة روحية على موضع حجر من التصوف لما فيه من مجاهدة لتفاهات الدنيا ومغالبة لأهواء النفس، وهو فن في التربية يساعد الناس على الإقلاع على العادات السلبية ويقوى لديهم الرغبة في التغيير والتجديد ويشحذ عزائمهم على إتيان أعمال جليلة وترك آثار رائعة والقيام بمنجزات عظيمة ولعل أهم الفتوحات وأكبر مفاخر الإسلام والعروبة تمت بفضل أرواح صائمة عن الباطل مفطرة على الحق وفي شهر معظم بليلة القدر التي هي أفضل من ألف شهر.

 وفي مد الدم وجزره فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرا قمريا دون غيره وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معني دقيق آخر وهو مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها إثبات الإرادة وإعلانها كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.

هذه مقاصد الصوم وهذه حقيقته وحاجة الإنسانية إليه ولكن بكل أسف نرى أغلبية ممن لا يكترثون بفوائد الصيام ويواصلون عاداتهم بشكل طبيعي منبهرين بنمط الحياة المعولم الذي يشجع على الاستهلاك ويعرف الإنسان على أنه آلة راغبة وهذه سنة مستحدثة عندنا خاصة إذا كانت تمارس بشكل علني وفي واضح النهار وعلى مرأى ومسمع الجميع باسم الحرية والخصوصية.

إذا كان الصوم عقيدة قارة وركنا ثابتا في الديانات عامة وفي الإسلام خاصة فإن فهمنا لأركان الأديان هو الذي يجب أن يتغير لاسيما وأنها تتراوح بين الجوهر والمظهر وبين الحقيقة والزيف وبين المنهج والعادة، خصوصا وأن العقائد ليس لها صدق داخلي في ذاته بل صدقها هو مدى أثرها في الحياة وتغييرها للواقع. فالعقائد هي موجهات سلوك وبواعث عليه لا أكثر.

إن التظاهر بالصيام وإفراغ هذه السنة من محتواها هو في الحقيقة الاكتفاء فقط بالإمساك عن الأكل والشرب وإهمال المقاصد والمنافع المرجوة في تقوية الإيمان الحي وبناء الإنسان القادر على أداء أمانة الاستخلاف. إذ كيف نفسر استرسال البعض من الصائمين في ارتكاب العديد من الخطايا والذنوب وتصدر عنهم أقوال مبتذلة وأفعال مشينة مثل الغش والغضب والرياء والعنف؟ وأي شيء دفعهم إلى الاقبال على النوافل من قيام وتراويح مع نسيانهم الفروض والواجبات من قول الصدق ومساعدة المحتاج وإعطاء حقوق الناس؟ كيف نفسر تلهفهم على موائد الإفطار الاستعراضية للثراء والوجاهة وحرصهم على متابعة المسلسلات التاريخية والفوازير الراقصة وبرامج التهريج الخفية؟ فمتى نراهم يقلعون على مثل هذه العادات السخيفة؟ وكيف يعلمون أن ماهم صانعوه مخالف لرسالة الصوم؟ وألا ينبغي أن نوفي هذه الشعيرة الاجتماعية الإرادية حق قدرها ؟ ألا توجد وراء الصوم فلسفة كاملة يحاول الإسلام أن يقدمها إلى البشرية مازلنا إلى حد الآن لم نحقق مناطها ولم نتبين مبادئها ومنهاجها وغاياتها؟

* كاتب فلسفي

...................................

المراجع:

خليل عبد الكريم، الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، الجزء 2، دار مصر المحروسة، القاهرة 2004

د.حسن حنفي، التراث والتجديد، مجد، الطبعة الخامسة، بيروت 2002.

مصطفى صادق الرافعي، نشر المقال في 1 مارس 1960 م في مجلة الهلال

محمد العربي القروي، الخلاصة الفقهية،دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى 2003

 جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 15/أيلول/2009 - 25/رمضان/1430

[email protected]