مدفع الإفطار.. إسم في الذاكرة وصوت تلاشى

 

"مدفع الإفطار".. إسم يدل على أن لهذا المدفع إرتباطا وثيقا بشهر رمضان ، فبعد أن عرفه المصريون قبيل نحو 560 عاما، إنتقل من هناك إلى البلاد العربية والإسلامية ومنها العراق، وصار ينطلق في كل محافظة عند وقت الإفطار حتى أن مشهده في مدينة " الكوت " مركز محافظة واسط لا يزال ماثلا في ذاكرة الكثيرين، لكنه اليوم غاب وتلاشى صوته في رمضان الحالى بسبب إهمال المسؤولين له .

هذا المدفع الذي يختلف عن سواه من المدافع، كان مشهده طوال شهر رمضان في مكان قرب سدة الكوت، ويحرص الكثير من الأشخاص، خاصة الصغار، على أن يكونوا قريبين منه وقت الإفطار يشاهدون منظره ويسمعون دويه قبل أن يجتمعوا أمام مائدة رمضان ، ذلك المدفع العتيد لم يعد له وجود في مكانه اليوم، وصار اسمه ومنظره مجرد ذكريات رمضانية ليس إلا.

السيد شاكر هداد، كان نائب ضابط في موقع الكوت العسكري وواحد من طاقم مدفع الإفطار مدة سبع سنوات، قال لوكالة أنباء (أصوات العراق) "لا تزال صورة المدفع في مخيلتي رغم إنني فارقته منذ عام 1989 بعد أن أحلت على التقاعد حيث كنت مسؤولا عن طاقمه المكون من خمسة جنود ."

وأضاف "قبيل شهر رمضان كنا نحضر المدفع من موقع الكوت العسكري، وهي الجهة المخولة باستخدام المدفع والرمي به، ونستلم معه أيضا 30 طلقة غير حقيقة تسمى بالمفهوم العام " خلب ".

وتابع "عادة ما نمنح أحد الجنود استراحة بينما الآخرين في الواجب ولكل منهم مهمته فهناك (المعمارجي)، ومهمته أن يضع الطلقة في مكانها داخل ماسورة المدفع فيعمِّرها، والثاني (رام) ومهمته أن يقوم بتشغيل الترباس الذي يحكم إخراج الطلقة، والثالث (طومار) وهو الذي يقوم بتبريد الماسورة بعد إخراج المقذوف، بينما تكون مهمة الرابع إحضار الطلقة للمعماري، وأكون أنا مشرفا أو مسؤولا عليهم."

و أوضح أن أفراد هذه المجموعة يطلقون عليهم تسمية " زمرة " وهو مصطلح عسكري دال على المجموعة .

وقال "بعد إتمام عملية الرمي تذهب الزمرة كلها لتناول الفطور الذي نصنعه بأيدينا."

واستدرك "في الغالب يأتينا الفطور من العوائل القريبة ، فكل عائلة ترسل لنا نوعا من الأكل ما يدل على طيبة تلك العائلات وحب الناس لنا وتعلقهم بمدفع الإفطار."

وقال "بعد الانتهاء من الإفطار نقوم بتنظيف المدفع وإدامته، وتلك العملية تستمر طيلة رمضان."

وأضاف "بعد أن تمت إحالتي على التقاعد عام 1989 ظل عشق المدفع ملازما لي، ففي اغلب أيام رمضان في السنوات التي تقاعدت بها كنت اذهب إلى مكان المدفع والتقي طاقمه لان قسما منهم كانوا معي في الزمرة التي تقوم بالعمل على المدفع ."

وأضاف "مع مرور الزمن تغيرت الأمور وتغير الناس، لكن ذاكرة المدفع بقيت بينما تم نقل مكانه إلى جهة أخرى من المدينة بسبب إشغال إحدى الدوائر الأمنية في حينه مكانا في الجانب المقابل من شاطئ السدة عام 1994."

وتابع "وخشية من رمي المدفع أو يكون عتاده حقيقيا، تم نقله من المكان القديم حسب أمر المسؤولين في تلك الدائرة."

وأضاف "على الرغم من أن المدفع انتقل إلى مكان آخر، كان الجميع ينتظر صوته ليبدأ الإفطار حيث ان صوته كان يسمع في كل إرجاء المدينة لصغرها، أما في السنوات الأخيرة وبسبب التوسع والحركة والأصوات المتعددة الاخرى، فقد ضاع عن أسماع الغالبية من أهل المدينة عدا ممن يسكنون قريبا منه."

وتنهد هداد وهو يرى مكان المدفع هذا العام خاليا بينما كان موجودا حتى في سنوات الاحتلال الماضية ولغاية العام الماضي.

وقال "صحيح الناس صارت تعتمد التوقيت، وهناك أكثر من علامة تدل على بدء الإفطار، لكن للمدفع خصوصيته التي يجب أن لا ننساها أو نهملها، لأنه موروث له صلة وثيقة برمضان وعاداته وتقاليده. "

وزاد "علينا أن لا نهمل مدفع الإفطار أو نلغيه."

السيد عناد عيسى السلمان، وهو معلم متقاعد، قال" من المؤسف جدا أن يهمل مدفع الإفطار الذي تعودنا على سماع صوته منذ أن كنا صغارا ولم نشاهد منظره في المكان الذي رأيناه فيه منذ عشرات السنين على شاطئ سدة الكوت."

وأضاف "الكثيرون منا يتشوقون لسماع دوي مدفع الإفطار ساعة غروب الشمس؛ ليبدأوا فطورهم ."

وتابع "رغم أن مدفع الإفطار غاب في هذه السنة، ولم يهتم المسؤولين به مثلما كان يحصل سابقا، لكن ذلك لا يعني انه الغي من ذاكرتنا، بل إنه سيبقى جزءا مهما، وصورة دائمة في شهر رمضان المبارك على مدار السنوات."

وتساءل عن أسباب غيابه هذا العام، مشيرا إلى أنه كان موجودا حتى بعد الحرب، أي في العام الماضي حيث كان يضرب يوميا وقت الإفطار ،لكن ما حصل في العام الحالي أمر يثير الدهشة والاستغراب ويدعو للقول أيضا أن ليس لمدفع رمضان علاقة بالنظام السابق ليتم اجتثاثه هو الآخر ."

وقال ليس بالضرورة أن المدينة كلها كانت تسمع صوت مدفع الإفطار، لكن هو جزء من هذا الشهر الفضيل وله صلة وثيقة بالصائمين.

أما السيد حسن درويش، كاسب، 54 عاما، فقال "منذ زمن طويل وجدت مدفع الإفطار يتم نصبه بداية كل شهر رمضان بالقرب من سدة الكوت حيث يأتي طاقم المدفع قبل يوم أو يومين لاستطلاع المكان ومن ثم أحضار المدفع الذي كان يشدنا صوته كثيرا."

وأضاف "لقرب منزلنا في حينه من مكان المدفع، كنا نشاهد عددا كبيرا من العوائل القريبة تقوم بإحضار الطعام والشراب لطاقم المدفع وقت الإفطار اعتزازا بدورهم في إشعار الصائم ببدء الإفطار."

وأبدى درويش استغرابه من إلغاء فكرة المدفع أو تناسيها هذا العام .

وقال "ذلك يدل على جهل أو عدم معرفة بالقيمة التاريخية لهذا المدفع الذي صار سمة رمضان المميزة في كل البلدان العربية والإسلامية."

وعن نشوء فكرة هذا المدفع وتاريخه، قال الباحث مثنى حسن مهدي إن لمدفع رمضان أكثر من حكاية تحكي حوله، إلا أن أشهر الحكايات والقصص تلك التي تعيد نشوء مدفع رمضان إلى المماليك في مصر، وتقول الرواية إنه فيما كان الجيش المملوكي يستعد للحرب إنفجر مدفع صدفة ساعة الآذان والإفطار، فطرحت فكرة إطلاق المدفع ساعة الإفطار إيذانا بحلول موعد الإفطار.

وأضاف "هناك رواية أخرى تقول إن الإمبراطور نابليون خلال احتلاله لمصر، فكر في عمل يرضي به أهل تلك البلاد والمسلمين بشكل خاص، فأمر بأن تنصب المدافع حول قلعة القاهرة، وتطلق منها القنابل البارودية إيذانا بحلول رمضان وإثباتا للعيدين."

وتابع "من قلعة القاهرة انتقل التقليد إلى معظم القلاع في المدن الإسلامية، فنصبت المدافع فوق تلال القلاع في شهر رمضان."

واستدرك أن أشهر الروايات عن مدفع الإفطار تقول أن والي مصر محمد علي الكبير كان قد اشترى عددا من المدافع الحربية الحديثة في حينها في إطار عزمه على تسليح جيش مصر، وجعله جيشا قويا ، وصادف أن قرر الوالي القيام بتجريب مدافعه الحربية في رمضان فأطلقت أول قذيفة من تلك المدافع لحظة غروب الشمس في أول يوم من أيام رمضان المبارك؛ فظنّ العامة من الناس أن والي مصر لجأ إلى طريقة جديدة للإعلان عن موعد آذان المغرب في رمضان.

وأضاف أن الناس أعجبوا بهذه الطريقة وشكروا الوالي وطالبوا أن يتكرر ذلك خلال السحور أيضا فوافق الوالي .

وقال أنه طبقا للروايات فإنه حتى عام 1859 م، كان المصريون يستخدمون الذخيرة الحية في إطلاق المدفعية، لكن بعد ذلك تمت الاستعانة بالذخيرة غير الحية من أجل تقليل الأضرار التي تلحق بالقلعة الموجودة جنوب القاهرة التي كانت موضعا لإطلاق مدفع الإفطار.

وخلال هذه الفترة كانت قد انتقلت إلى بقية البلدان العربية والدول الإسلامية أيضا على مراحل عدة، وكان مثل هذا يحظى بقبول الناس في كل مكان بخاصة لدى الأطفال الذين يتخذون مواقعهم فوق أسطح الدور والأماكن المرتفعة لكي يسمعوا صوت انطلاق مدفع الإفطار.

وأوضح أنه على الرغم من الاختلاف في الروايات حول نشوء هذا المدفع إلا أنه لا يمكن الاختلاف على أن أول ظهور له كان في مصر .   

© جميع الحقوق محفوظة 

شبكة النبأ المعلوماتية-الخميس  5/تشرين الاول /2006 -11/رمضان /1427

[email protected]