يتميز رمضان في المدن الاسلامية بطقوس وعادات وتقاليد لا تتكرر الا
في شهر رمضان من كل عام لا تقتصر على مائدة طعام يتحلق حولها افراد
العائلة بل ان هذه الطقوس تكاد تختفي او ربما تنحسر في بغداد المدينة
التي طالما سعت للاحتفاظ بطقوسها وعاداتها وتقاليدها.
وباتت اسباب الخوف متعددة ومشروعة ويأتي في مقدمتها الخوف من عصابات
السلب والخطف والسرقة والعبوات الناسفة والمفخخات بكل اشكالها .
وبسبب الخوف امتنع الاهالي من التجمع في الحدائق والساحات العامة
اثناء الافطار وبعده وخلت مناطق مثل كورنيش الاعظمية وساحات الكاظمية
وحدائق العطيفية من هذه الظاهرة التي كانت سمة لها طيلة رمضان خلال
السنين الماضية . واختفى التزاور بين العائلات الذي كان يطلق
البغداديون عليه تسمية "تعلولة رمضان" للاسباب ذاتها وتحول التلفاز الى
انيس العائلة العراقية الوحيد على الرغم من كونه متوفرا لفترة قصيرة
بسبب انقطاع التيار الكهربائي .
وامام التلفزيون وعلى شاشات عراقية وعربية متعددة يتابع العراقيون
مسلسلات رمضان التي تنقل واقعهم وانتاجا ضخما ومتعددا لم يكن متوافرا
في نظام صدام وهناك العديد من المسلسلات العراقية التي يتابعها سكان
بغداد من بينها "ميليشا الحب وثمنطعش وسارة خاتون وبيت الشمع وماضي يا
ماضي ومناوي باشا " .
واستعاض التلفزيون عن مدفع رمضان المتكئ على ضفة دجلة من جانب الكرخ
الذي لم يعد يمكن التمييز بين صوته ودوي اصوات القذائف التي يطلقها
المسلحون على احياء بغداد.
ان ما سمعه ومازال يسمعه البغداديون من دوي انفجارات لا يكتفي بهز
بيوتهم بل ربما تكون هذه البيوت في احيان كثيرة اهدافا لهذه الانفجارات
التي غالبا ما تكون على شكل قذائف هاون ضلت طريقها اوسيارات مفخخة او
عبوات في اكياس رميت على قارعة الطريق .
وفي بغداد لم تختف الطقوس وانما حرصت بعض الصحف على ان تخفي من
صفحاتها الاولى التقويم الهجري لتبقى محايدة بعد ان انقسمت اخرى بشانه
والذي ادى الى فرزها بحسب مرجعياتها الدينية .
ويكاد يرتبط رمضان في العراق ارتباطا وثيقا بسوق "الشورجة" ولم يتسن
لعائلة عراقية ان تستقبل رمضان الا من خلال روائح البهارات والعصائر
والتوابل المميزة التي تتميز بها دكاكين الشورجة .
بيد ان رئة بغداد التجارية "الشورجة" لم تعد كسابق عهدها تضج
بالمتبضعين خلال شهر رمضان فالتدهور المستمر للوضع الأمني بات يعيق
البغدادي من الذهاب الى الشورجة وشراء حاجات رمضان .
ومثله انحسر عمل محال كبرى للحلويات التي تقدم اطباق المن والسلوى
والزلابية والبقلاوة بالجوز والدهن الحر خوفا من تردي الوضع الامني وهو
ما دفع محلا كبيرا مثل حلويات ابو عفيف في الكرادة لان يفتح بابا صغيرا
يحيط به عدد من الحراس ليقدم اطباقه للزبائن .
ومثله فعل محل حلويات السليمانية الذي يعد اشهر من يقدم اطباق المن
والسلوى او كما يسميها البغداديون "من السما" في حين استفاد محل حلويات
سعد من حواجز كونكريتية وضعها حراس مكتب للجوازات يجاوره قبل الوصول
اليه لتوفير الامن له ولزبائنه.
ولا تختلف اطباق الحلويات كثيرا عن التي تقدم في عدد من المدن
العربية غير ان "من السما" يكاد يحتفظ بميزة عراقية وهو يصنع من مادة
المن التي تفرزها اشجار البلوط في جبال السليمانية .
كما يقوم اشهر واقدم محل عصير في العاصمة بغداد وهو عصير الحاج
الزبالة والذي تاسس عام 1900 بتقديم عصير الزبيب الذي اشتهر به من على
عربات في الشورجة واسواق اخرى بالعاصمة بغداد بعد ان كان يرفض ولسنين
ترك محله الصغير في شارع الرشيد الذي اغلق ولم يعد بمقدور زبائنه
الوصول اليه .
ومثل كثير من الظواهر والتقاليد التي انحسرت او غابت بات من العسير
سماع قرع المسحراتي او حتى تمييزه عن اصوات العبوات الناسفة التي تنفجر
واصبح الامر الذي يجعل من سماعهم للمسحراتي او "ابو طبيلة" كما يسميه
البغداديون وكانه سماع صوت نشاز لا يزيد الا الما .
كان لبغداد مسحراتيها ايضا الذي دأب من خلال طبله المميز على ايقاظ
الصائمين لتناول وجبة السحور هذا المسحراتي الذي يطلق عليه البغداديون
لقب أبو طبيلة نسبة الى الطبل الذي يقرعه اثناء مروره في الشوارع
والأزقة والحارات انسحب عليه ما انسحب على باقي الطقوس الرمضانية.
لكن مسحراتي بغداد اليوم يمشي وسط ليل محفوف بالمخاطر حين يبدا
جولته اليومية طوال شهر رمضان عند الساعة الثالثة فجرا بالتوقيت المحلي
لمدينة بغداد ويبدا بدق طبلته ثلاث مرات قبل ان ينادي بأعلى صوته "اصح
يا نايم وحد الدايم" و"أهلا يا رمضان يا شهر الغفران" وليس ثمة سواه في
شوارع مظلمة ليصح البغداديون على امل ان يكون رمضان هذا العام آمنا
وشهر سلام . |