يرتبط شهر رمضان الكريم بظواهر عديدة محببة الى قلوب المسلمين وخاصة
الاطفال..ومن هذه الظواهر الفوانيس ، والحلويات ، وموائد الرحمن ..ثم
المسحراتي ..ذلك الرجل الذي لاينام الليل حتى يوقظ النائمين لكي
يتناولوا سحورهم إستعدادا لصوم اليوم التالي ..هذه المهنة بدأت تنقرض
في مدينة الموصل بعد الغزو الامريكي بسبب حظر التجوال المستمر الذي
فرضته الاوضاع الامنية المتدهورة ،ولاسباب اخرى أيضا..
سرح ابو مازن (60 عاما) ،وهو بقال من الموصل ، وعاد بخياله الى زمن
بعيد حيث اخذ يجتر الذكريات ليحكيها لوكالة انباء (اصوات العراق) بينما
كانت عيناه تنظر للافق البعيد وكأنها تقلب صفحات الماضي..قال " كان
والدي رحمه الله يعمل مسحراتي قبل خمسين عاما ..وكنت اتجول معه ،
بالرغم من ان عمري لم يكن يتجاوز عشر سنوات ، في شوارع مدينة الموصل
وازقتها القديمة ..اصل عمل والدي كان بائعا جوالا اما قرع طبول السحور
في رمضان فكان عملا تطوعيا."
واضاف " كنا نطوف الشوارع ووالدي يردد كلمات (سحور.. سحور) ، وقد
علق على رقبته حبلا ربطت نهايته بطبلة ،وكان يمسك في يده عصا يدق بها
على الطبلة مرددا كلمة سحور ..وكان بعض الاهالي يطلبون من الوالد قرع
أبواب دورهم بهذه العصا وعدم الاعتماد على الطبلة ليستيقظوا للسحور."
واضاف " كانت لوالدي اكرامية سخية يستلمها اول ايام عيد الفطر
المبارك من جميع دور احياء الموصل القديمة ، ولا اذكر ان احدا تهرب من
دفع اكرامية لتعب ثلاثين يوما يوقظ فيها الناس من نومهم إلا من استبدل
المال بكعك وبقلاوة العيد.. ولم يكن والدي يتضايق لهذا الامر."
وحكى الحاج ابو سعيد (75 عاما) ،وهو مسحراتي معتزل كان جالسا في احد
مقاهي الموصل القديمة ، حكايته مع هذه المهنة بالقول " تخرجت من جامعة
الحياة وتخصصت بالمهن المتعبة حيث عملت حمالا وفي نقل المياه من النهر
، واشتغلت في تنظيف اسطبل الخيول وتارة اخرى صباغا للاحذية ..وفي شهر
رمضان يضاف لي عمل المسحراتي.."
وتابع قائلا " كنت انادي على اسماءعوائل منازل الحي فردا فردا
وأتأكد من انهم استيقظوا حتى اغادرهم الى منزل اخر ،وكنت اجد متعة في
عملي واحس انني مأجور عليه من قبل الله سبحانه وتعالى.. كل الاعمال
تزيد من ارهاق أي انسان الا هذا العمل فهو يجدد حيويتي."
واضاف " كان اغنياء الحي من الميسورين يكافئونني بقطع اللحم وبملابس
جديدة لاطفالي جزاء عملي في ايقاظهم ..ولكن العمر والمرض والوضع الامني
جعلوني اتقاعد عن مهنتي الرمضانية."
ابو اياد مسحراتي ترك عمله بسبب الوضع الامني وقال وهو ينفث دخان
سيجارته ويتابع مسار هذا الدخان " كنت اطلق صوتي داعيا الناس للسحور
وابقى بلا سحور , كنت اتلحف ببطانية تقيني برد الشتاء القارص عندما يمر
علينا رمضان في الشتاء، وكنت اسير في شوارع الموصل ولا اعود لمنزلي حتى
اذان الفجر . وكنت اتنافس مع زملاء المهنة في اختيار العبارات الانسب
لإيقاظ المتسحرين ..على كل حال هي مهنة موروثة عن الاباء والاجداد."
واضاف " تركت العمل بعد الاحتلال وكنت مجبرا لا بطل وذلك بسبب منع
التجوال ..فالجندي الامريكي سيطلق النار عليً على الفور ظنا منه انني
زارع للعبوات.. انه لا يفهم ماذا تعني هذه المهنة لصاحبها..لقد
اعتقلتني القوات الامريكية في اول رمضان مر علينا بعد الاحتلال ،
وبعدها لم يكن لي خيار إلا ترك العمل."
ويقول الطبيب هشام قدري إن " الوسائل الحديثة حلت محل المسحراتي..
فالمنبه او الاتصال بين الاهل بواسطة الهاتف النقال حلت محل المسحراتي
الذي اختفى بإحتلال العراق. ثم ان هناك امساكية تطبع مجانا وتوزع للاجر
أو للدعاية مع الحلويات والطرشي في الاسبوع الاول من رمضان أو قبله
والغاية منها مساعدة الناس على معرفة الوقت الملائم للسحور."
ويضيف "وهناك من لا ارتباط وظيفيا لهم وهؤلاء يسهرون مستمتعين
بمشاهدة القنوات الفضائية ويتسحرون اثناء ذلك ثم يؤدون صلاة الفجر
ويذهبون الى اسرتهم ..اما نحن عباد الله الموظفين ممن ينتظرهم عمل مكدس
صباح اليوم التالي فيغلب النعاس جفوننا مبكرا لذلك نأكل لقيمات صغيرة
قبل نومنا وربما لا نستيقظ وقت السحور."
بقي أن نقول ان المسحراتي مهنة قديمة ظهرت في العصر العباسي وكانت
بأجر يصرف من بيت المال اختفى بمرور السنين ليصبح اجر المسحراتي على
عاتق المواطنين على شكل تبرع لعمل تطوعي..وللمسحراتي و قد يسميه البعض
الجوال ، عدد من الادعية ينشدها بصوت مميز اثنا تجواله في ليالي رمضان
،وعادة ما تكون شخصيتة محببة وحضوره لحظة سعيدة لاسيما عند الاطفال
الذين ينتظرونه لتناول سحورهم مؤكدين صومهم لليوم التالي..
هذه المهنة النابعة من الموروث الديني والفلكلوري انقرضت في الموصل
،وربما في المحافظات العراقية الاخرى ،أو كادت بسبب الغزو الامريكي
وبسبب منع التجوال ليلا نتيجة تدهور الوضع الامني..فهل تعود يوما بعد
رحيل قوات الاحتلال أم أن الزمن سيكون قد تجاوزها..؟!! |