على ضفة عالية من نهر الفرات في قرية السديناوية جنوبي الناصرية ،
سيقف الشيخ فضل بعد ايام متوكئا على عكازته الخيزرانية محدقا في الأفق
الذي يتوقع أن يبزغ فيه هلال شهر رمضان القادم، ليكون ، كما يتمنى ،
أول من يشهد على رؤية هلال الشهر العظيم .
هكذا يرسم الشيخ طقوس اللحظة المتكررة في كل عام من حياته التي
شارفت الثمانين ويقول انه سيدفع بعكازته مجددا هذا الشهر نحو تلك الضفة
.
يقول الشيخ انه منذ أربعينيات القرن الماضي كان يطل من على النهر
باحثا عن ملمح قوس النور في الأعالي ، وهذا ديدنه قبل يومين من كل شهر
رمضان جديد .
في ذكرياته عن رمضان الأمس ، صور من حياة الناس البسطاء يقول الشيخ
فضل لوكالة أنباء (أصوات العراق) " أول رمضان عشته كان في زمن حكومة
نوري السعيد كانت العوائل الريفية تتهيأ قبل بدء هذا الشهر بأيام ، حيث
تعج القرية بحركة العربات القادمة من المدينة وهي تحمل الحبوب وأكياس
التمر المخلوط بالسمن الحيواني و (الكليجة) وهي احدى انواع المعجنات
العراقية المشهورة التي تصنعها العوائل بالبيوت .
اضافة الى الزوري ( صغار السمك ) والمصموطة ( السمك المجفف ) وأطباق
ثريد اللحم واكلة ( المحروق إصبعه ) التي هي عبارة عن بقايا فتات الخبز
بعد مزجه بالطماطم وقليه على النار لمدة طويلة ، فضلا عما تجود به
الأرض التي نزرعها .
وعن ليالي رمضان قال الشيخ الفضل " نحييها بالأدعية والصلوات
الكثيرة وإقامة المجالس والقراءات الحسينية لا سيما الليالي العشر
الأخيرة من رمضان كما يتوجه معظم الأهالي إلى زيارة قبر الأمام علي
عليه السلام في مدينة النجف .
وأضاف "هناك تجمعات في القرى لإحياء ليلة القدر تستمر حتى الصباح
وكان الشيوخ والوجهاء في القرى يتنافسون لإقامة ولائم الإفطار الجماعي
في مضايفهم وفي البيوت أحيانا وبعد الإفطار يبدأ الناس وخاصة الرجال
بالتزاور فيما بينهم."
ويتذكر الشيخ انه في عام الطوفان ( 1956 ) غرقت معظم أجزاء قريته ،
وانشغل الناس عن تحضير الإفطار بإنقاذ مواشيهم وأملاكهم ، وافترشوا
أعالي الأرض قرب عشيرة النواشي ، فما كان من أفراد تلك العشيرة وشيخهم
إلا أن جلبوا إفطارهم وتشاركوا به مع أهل القرية.
وعن ذكرياته عن المسحراتي الذي يقرع الطبل لإيقاظ الناس إيذانا
بموعد السحور قال " لم نكن نحتاج إلى احد يدق علينا الباب أو ينبهنا
بمدفع أو طبل" ، واضاف " كنا نسهر في مجالسنا حتى صلاة الفجر."
أما الشيخ نجار صافي الماهوب احد شيوخ آل جميل فيقول " يقوم بعض
أصحاب المجالس الدينية في العشيرة بعد منتصف الليل بتوزيع حليب الجاموس
المحلى ونوع من السكر يسمى (القند) بعد أن يتم طحنه ، وكان من شان هذا
ان يجعل الصائمين يقاومون الليل حتى صلاة الفجر."
ولا ينسى الشيخ ماهوب ان يروي قصة الساعة التي كان كل اهل القرية
يفطرون عليها ويقول " ان احد أفراد القرية لديه ساعة نوع (اوستن) ولعدم
توفر وسائل يتم من خلالها معرفة موعد الإفطار بشكل دقيق ، فان أهالي
القرية تتجه أنظارهم إلى بيت المرحوم فرج الحاج مطرود صاحب الساعة
الوحيدة من تلك القرية الذي ينادي بأعلى صوته " إفطار .. إفطار " .
وبعيدا عن الريف إلى مركز المدينة ، يقول الأديب احمد الباقري الذي
واكب شهر رمضان منذ الأربعينات من القرن الماضي "ان الناس في هذا الشهر
يتركون الألعاب المسلية ذات الربح والخسارة مثل الدومينا والطاولي (
النرد ) ويلجئون إلى ألعاب شعبية أخرى مثل المحبيس والمساجلات
الشعرية."
والمحيبس احد الالعاب الشعبية التي يشتهر بها رمضان في العراق
ويتبارى فيها فريقان وتقوم فكرتها على اخفاء الخاتم من قبل الفريق
الاول بينما يقوم احد اعضاء الفريق الثاني بالبحث عنه .
يقول الباحث التراثي ياسر البراك " ان الطقوس التي كانت سائدة في
المدينة حتى أواخر السبعينيات ومُنعت من قبل النظام السابق هي مواكب
العزاء التي تجوب شوارع الناصرية ليالي 19 و 20 و 21 رمضان وهي الذكرى
السنوية لجرح واستشهاد الإمام علي بن أبي طالب حيث تتميز هذه المواكب
بالحضور الشعبي الكبير الذي يملأ الشوارع الرئيسية في المدينة."
واضاف " لكن هذه الطقوس عادت من جديد للظهور في شوارع الناصرية
وساحاتها العامة بعد سقوط نظام صدام."
وللمثقفين طقوسهم الرمضانية أيضا ، يقول رئيس اتحاد أدباء وكتاب ذي
قار رزاق الزيدي " تقام المجالس الأدبية خلال هذا الشهر وخاصة في سوق
الشيوخ والشطرة ومركز المحافظة."
وأوضح " من المجالس المشهورة تلك التي كانت تعقد في ديوان آل حيدر
ويشرف عليها الشيخ الشاعر المرحوم جميل حيدر ومجلس الشاعر الشعبي
الراحل عبد الواحد الهلالي والشيخ الشاعر الراحل عبد الحسين ، ومجالس
تقام في الناصرية في حسينية أبو هبة غربي المحافظة، فضلا عن مجالس
اتحاد أدباء الكتاب ويتم خلالها دعوة أدباء من محافظات العراق لإقامة
المساجلات الشعرية."
وحول تداعيات الوضع الأمني بعد الحرب الأخيرة وأثرها على الطقوس
الرمضانية قال رائد الشرطة حيدر عزيز " الجهات الأمنية أخذت على عاتقها
مسؤولية حماية التجمعات والمجالس والحسينيات واعدت خطة أمنية لهذا
الغرض ، لاسيما وإن المحافظة مقبلة على تسلم الأمن خلال رمضان ."
وذكر في هذا السياق " في رمضان العام الماضي عثر في مدينة الناصرية
على ما يقارب ثلاثة آلاف قذيفة معدة للهجوم على مساجد في مدينة
الناصرية بعد إلقاء القبض على عصابة في منطقة سوق الشيوخ جنوبي المدينة
وبحوزتها مخططات وخرائط لمواقع المساجد والحسينيات في المدينة."
وأضاف "رمضان قبل الحرب لا يختلف عن رمضان بعدها إلا بكون الوضع
النفسي للمواطن العراقي قد تغير من ناحية الشعور بإمكانية الممارسة
الدينية دون قيود أو خطوط حمراء ."
وعلى اية حال فان حال رمضان في محافظة ذي قار لا يختلف كثيرا عنه في
بقية مدن العراق فهو يبدأ بدعاء العراقيين وينتهي بدعائهم ان يعم الامن
والسلام بلدهم التي طحنتها رحى الحروب . |