المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي: شهر رمضان خير فرصة لتزكية النفس وهداية الناس وإرشادهم

على أعتاب شهر رمضان المبارك قام جمع من أساتذة وطلاب الحوزة العلمية من مدينتي إصفهان وقم المقدسة بزيارة المرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله في بيته المكرم بقم المقدسة فألقى سماحته عليهم محاضرة قيمة هذا نصها:

 قال الله تعالى : « يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»(1) وقال:

يقول العلامة المجلسي: جاءت كلمة (لعل) في القرآن الكريم في موارد متعددة بمعنى الإيجاب أي إن ما بعدها متحقّق. ومن تلك الموارد هذه الآية، فمعناها: إذا صمتم فستصيرون متّقين حتماً.

ولا يخفى أن للصوم مراتب، والصائم الذي يبلغ التقوى هو الذي يكون صائماً حقيقة، لا الذي تقول عنه الروايات كحديث الإمام علي سلام الله عليه: «كم من صائم ليس له من صومه إلا الظمأ والجوع»(2)، بل الذي يصوم وتصوم جوارحه أيضاً، كما في الحديث عن الإمام الصادق سلام الله عليه:«اذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك»(3). فصيام كهذا لا شك سيكون سبباً لأن يصير الإنسان متقياً.

وكذلك للتقوى مراتب، ومفتاح ذلك كله بأيدينا، فإن الله تعالى قد خلق فينا القابلية لأن نستفيد من الصوم أكثر، وذلك بأن يكون صومنا في اليوم الثاني من الشهر أفضل من صومنا في اليوم الأول، وهكذا.

وقال سماحته: كان النبي صلى الله عليه وآله يستقبل شهر رمضان من كل عام بخطبة يوجّه فيها المؤمنين إلى أهميّة هذا الشهر وضرورة الاستفادة منه: ولذلك فخُطَب النبي صلى الله عليه وآله وكذلك خُطَب الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه في استقبال شهر رمضان كثيرة، ومنها الخطبة المشهورة التي رواها الإمام أمير المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وآله، والتي يسأل فيها الإمام عن أفضل الأعمال في هذا الشهر، فيجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله بأنها الورع عن محارم الله تعالى. فحريّ بنا أن نقرأها ونتدبر في معانيها ونعمل بها ما وسعنا، والله سبحانه وتعالى يعيننا على ذلك.

وأضاف: إن والله تعالى ينتظر أن نتقرّب اليه أكثر فأكثر؛ لأنه يحبّنا أكثر من حبّ الأم لابنها كما في بعض الروايات. بل يقول الله تعالى في كتابه الكريم: «إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم»(4). والظاهر أن العلة هنا منحصرة، واللام لام التعليل.اذاً ينبغي لنا أن نستفيد من هذا الشهر العظيم أكثر فأكثر ونزيد من اقتدائنا بأهل البيت سلام الله عليهم.

وقال: لقد كان الأئمة سلام الله عليهم يدعون حتى لأعدائهم؛ فقد روي في المقاتل أن الإمام الحسين سلام الله عليه وبعد أن نزلت به كل تلك المصائب واستشهد أصحابه وأهل بيته وذبح طفله الرضيع و... شوهد يبكي. ومن المعروف أنّ المقاتل لا يبكي في ساحة الحرب لأن ذلك يعد علامة على الضعف والانكسار، فلماذا بكى الإمام الحسين سلام الله عليه؛ لقد كان الإمام سلام الله عليه يرى أن هؤلاء الأعداء كلهم سيكون مصيرهم إلى النار؛ فبكى عليهم.

هؤلاء أئمتنا فلنكن من المأتمين بهم إن شاء الله تعالى، ولنتوسّل بهم في هذا الشهر أيضاً.فإن الله تعالى يقول: «ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله»(5) وقال: «وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله»(6)، وهذا يعني أن الله تعالى يعطي، والنبي صلى الله عليه وآله يعطي، مع أن عطاء النبي هو من الله أيضاً، وهكذا الأئمة الأطهار الذين هم امتداد لجدّهم صلى الله عليه وآله وكلهم نور واحد. ولا يوجد طريق غيرهم يؤدي إلى الله تعالى؛ حيث قال الإمام الباقر سلام الله عليه: «شرّقاً أو غرّباً لن تجداً علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت»(7).

وفي هذا الصدد نقل سماحته القصة التالية فقال: ينقل أن الميرزا النائيني ذهب مرة من النجف إلى كربلاء ماشياً مع تلامذته. وقبل أن يصلوا إلى كربلاء بحوالي 8 كيلومترات أمطرت السماء بشدة وتبللوا جميعاً، ولما وصل الميرزا النائيني إلى كربلاء مرض بسبب ذلك حتى أغمي عليه من شدة الحمّى، ولما رأى الطلاب أنه في سكرات الموت أسرع بعضهم لاستدعاء طبيب فيما ذهب أحدهم إلى قبر الإمام الحسين سلام الله عليه ووقف تحت القبة ودعا لشفاء الشيخ. وبعد أن تعب عاد إلى المدرسة حيث يرقد الشيخ، وكان في حالة بين اليأس والرجاء لا يعرف حال الشيخ أهو حي أم ميت؟

وعندما وصل إلى المدرسة رأى الشيخ جالساً، فسأله عن صحته فقال إنه بخير وبصحة تامة، وقال: بينما كنت في تلك الحالة رأيت الموت بأم عيني ورأيت ملائكة الموت، ورأيتك أيضاً تحت قبة الإمام الحسين سلام الله عليه تدعو لي، وأظن أن دعاءك هو الذي صار سبباً لشفائي.

وأضاف: أما الشيء الغريب الذي رأيته في تلك الحالة أيضاً، فهو أني رأيت الملائكة يأتون اليّ ويأخذون علومي واحداً واحداً، ولم يبق لي إلا القرآن وروايات أهل البيت سلام الله عليهم، وفي لحظة رأيت أني قد شفيت.

فعقّب دام ظله: أجل إن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لنا طريقاً صحيحاً إليه إلا طريق أهل البيت سلام الله عليهم ولا يقبل منّا غير هذا الطريق، فعلينا أن نسعى لرضا الله سبحانه بجلب رضاهم، وأن نعرف كيف نرضيهم. فمن المسائل المهمة عند أهل البيت سلام الله عليهم هي أن نكون في كل يوم أفضل من اليوم الذي سبقه. وهذا الشهر المبارك هو شهر التزكية فعلينا أن نزكي أنفسنا فيه حتى نصير أمثال زرارة أو علي بن مهزيار أو سلمان المحمدي، وهذا لا يحتاج إلى أكثر من أن نصمم حتى نوفّق إن شاء الله تعالى.

وقال سماحته: أنقل لكم فيما يلي قصة أحد العلماء المتقين في هذا المجال، وكيف أنه تغير تغيراً كبيراً حتى أصبح مسلّم العدالة في عصره. ليتبين لكم أن التغير ممكن ولكنه بحاجة إلى عزم وتصميم.

كان هذا العالم أيام شبابه طالب علم يدرس العلوم الدينية في العراق، وكان كأيّ من الشباب في عصره.

فإنّ بعض الشباب آنذاك إذا أراد الزواج هيّأ بدلة (حلّة) من قماش خاصّ يأتون به من سوريا خصّيصاً لليلة الزواج. فإن كان طالب علوم دينية كصاحبنا عملوا له منه جبّة أو قباء مثلاً.

وأتت مناسبة زواج هذا الشاب الحوزوي، ولكن اتّفق نفاد هذا القماش في الأسواق. ومهما عمل للحصول عليه لم يفلح. وكان يوجد من أنواع الأقمشة الأخرى بالعشرات، لكن هذا النوع بعينه كان مفقوداً، وكان بعض الشباب ـ أقول بعض الشباب وليس كلهم ـ إذا أراد أن يتزوج لا يرضى عن ما يريده بديلاً!

ولم تكن الطائرات والسيارات كما هي اليوم لتلبية رغبة هذا الشاب الطالب! وربما لم يكن يملك المال الكافي لإرسال من يأتي له به من سوريا على عجل؛ فما كان منه إلا أن أخّر زواجه لمدّة سنة كاملة ليس إلا ليكون في ليلة زواجه مرتدياً ذلك القماش!

وعن هذا الشاب نفسه أنقل لكم القطعة الثانية من تاريخه، وقد نقلها لي والدي رحمه لتعرفوا مدى التغيير الذي حصل في حياته.

يقول والدي رحمه الله: في النجف الأشرف كانت العادة أن الناس لا يصلّون خلف أي كان من العلماء، ولكنهم كانوا يصلون خلف هذا الشخص؛ لأنه كان قد وصل إلى مرتبة بحيث كانوا يعبّرون عنه بمسلّم العدالة عند الكل. فحتى مراجع التقليد كالمرحوم السيد الحكيم والمرحوم والدي والمرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي والمرحوم السيد حسين الحمامي كانوا يصلّون خلفه ويأتمون به.

هكذا وإلى هذا المستوى تغيّر هذا الشاب!! بحيث صار يصلّي خلفه أشخاص أصبحوا فيما بعد مراجع تقليد للمسلمين.

إذن من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة. وشهر رمضان مناسبة جيّدة للتغيير.

وأكد سماحته: المسألة الأخرى التي ينبغي الالتفات إليها هو الاهتمام بهداية الشباب وإرشادهم في هذا الشهر، فإن النفوس تكون مهيّأة أكثر لاستقبال الموعظة، ولا تتصوروا أن هؤلاء الشباب لا يهتدون، بل كثير منهم إذا وجد الطريق الصحيح سلكه وربما صار هو من العظماء وصار سبباً لهداية الآخرين مثل كثير من أصحاب الرسول الأعظم والأئمة الميامين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

إذاً علينا أن نستثمر فرصة هذا الشهر الكريم من أجل هداية الشباب عبر تشكيل الجلسات لهم وأن نستمع إلى الشبهات التي تخالجهم فنرفعها، وأن نربيهم في هذا الشهر على شيئين هما:

1. العقيدة الصحيحة.

2. مكارم الأخلاق. فإن النبي صلى الله عليه وآله يقول: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(8).

فلربما اهتدى شاب واحد وصار فيما بعد سبباً لهداية المئات. والعكس صحيح أيضاً فرب شاب فاسد صار سبباً لفساد المئات.

إن الانسان السائر في طريق الله تشمله النصرة الإلهية؛ حيث يقول الله تعالى: «إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد»(9) فلنزكّ أنفسنا في هذا الشهر، ولنعمل على هداية الشباب وإرشادهم إلى الطريق القويم.

أسال الله تعالى ببركة شهر رمضان العظيم وبركة أهل البيت سلام الله عليه أن يوفّقنا لذلك وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

------------------------

1  / سورة البقرة ، الآية 183.

2  / وسائل الشيعة / ج 1 / باب 12 بطلان العبادة المقصود بها الرياء / ص 72 / ح 161.

3  / فروع الكافي / ج4 / باب أدب الصائم / ص87 / ح1.

4  / سورة هود ، الآية 119.

5  / سورة المائدة ، الآية 119.

6  / سورة التوبة ، الآية 59.

7  / رجال الكشي / ص 209.

8  / مستدرك وسائل الشيعة / ج11 / باب 6 استحباب التخلّق بمكارم الأخلاق / ص 87 / ح1.

9  /  سورة غافر، الآية 51.

© جميع الحقوق محفوظة  لشبكة النبــأ المعلوماتية  1426هـ  /  2005م

[email protected]