شهر رمضان شهر التغيير

 

عن السميع العليم في قرآنه العظيم

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم..)

الملاحظ في هذه الآية المباركة أن هناك تغييران، حيث فاعل التغيير الأول هو الله سبحانه وتعالى، وفاعل التغيير الثاني هم القوم، أو المجتمع، وإن كانت القدرة التغييرية الثانية، هي هبة من الله تعالى للقوم وإقدار منه تعالى للمجتمع على ذلك.

وعلينا أن لا ننسى هذا التوزيع في العملية التغييرية، ولا نتوهم حصول التغيير من قبله، تعالى قبل حصوله من عند الناس أنفسهم.

وأيضاً التغيير الذي ينبغي أن يحدث أولاً، هو التغيير الذي جعله الله مهمة القوم وواجبهم، بإقدار الله تعالى لهم على ذلك، والرجاء بأن يحدث الله تعالى التغيير الذي يخصه، قبل أن يقوم القوم أو المجتمع بالتغير الذي خصهم الله به، يكون هذا النظر مخالفاً لنص الآية، وإبطالاً لمكانة الإنسان وأمانته، ومسؤوليته.

فهذا الأصل القرآني يبين واحداً من أهم المسائل الاجتماعية في الإسلام، يؤكد لنا أن أي تغيير خارجي مرتبط بالتغيير الداخلي للأمم، وأي نصر يصيب الأمة منبعه ذاك، والذين يبحثون عن العوامل الخارجية لتبرير أعمالهم وتصرفاتهم ويعتبرون القوى المستعمرة والمتسلطة هي السبب في شقائهم يقعون في خطأ كبير، لأن هذه القوى المعادية لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا لم تكن لديها أيد في داخل المجتمع.

علينا أن نثور من الداخل كي ننهي حالة الشقاء والحرمان، ثورة فكرية وثقافية، ثورة إيمانية وأخلاقية، وأثناء وقوعنا في مخالب الشقاء يجب أن نبحث فوراً عن نقاط الضعف فينا، ونطهر أنفسنا منها بالتوبة والرجوع إلى الله، ونبدأ حياة جديدة مفعمة بالنور والحركة، كي نستطيع في ظلها أن نبدل الهزيمة إلى نصر، لا أن نخفي نقاط الضعف وعوامل الهزيمة هذه ونبحث عنها في خارج المجتمع ونظل نتيه في الطرق الملتوية.

إن من المناسب جداً أن نجعل هذا الشهر الكريم بداية لسنة روحية جديدة.. فإن مجموع الغفلات، والشهوات طوال السنة الماضية جعلت الخطايا والذنوب تتراكم إلى درجة تجعل الإنسان في بعض الحالات غارقاً تحت ركام كبير من الحجب الظلمانية، والتي تحتاج إلى ثورة باطنية عارمة لقلب الوضع رأساً على عقب.. وهذا الأمر لا يتسنى إلا بمعونة إلهية، وهذه المعونة تتجلى في أعظم صورها في هذا الشهر الكريم، حيث الشياطين مغلولة، وأبواب الجنة مفتحة.

إننا في أحاديثنا أكدنا على حقيقة جوهرية، ونؤكد عليها الآن، وهي ضرورة العودة إلى الذات، واكتشاف مجاهيلها، ومعرفة ما هي عليها، والإطلاع على سبل تكاملها، والعلم بقدراتها الفعلية، وقدراتها المختزنة.. فإن ترقية النفس، لا تتم إلا من خلال التعرف عليها، فكيف يمكن أن يعالج الطبيب بدنا ليس أمامه؟.. أم كيف يمكن لمهندس أن يبني بناء على أرض لم يرها، ولا يعرف طبيعتها؟!.

إن من المناسب أن نراجع أنفسنا بين فترة وأخرى لاكتشاف الأخطاء التي اعتادت عليها، فإن نفس ممارسة المنكر بشكل رتيب، ومتكرر، وفي جو غير مستنكر، يقلب ذلك المنكر معروفاً، وهذه مرحلة خطيرة لو استقر فيها الإنسان، فإنه لا يرجى أن يقلع عن الحرام، ومن هنا لا بد من وقفة حاسمة وصريحة مع النفس، التي ليس من السهل عليها أن ترفع اليد عن المنكر المألوف بسهولة، وخاصة إذا استذوقه المذنب استذواقاً، إن المنكرات على تعددها فإنها منحصرة غالباً في شبر مربع تقريباً!! فإن روافد الحواس الخمس هي بنفسها روافد الحرام، وكما أن هذه الحواس تنقل الأحاسيس البريئة والخالية من أي معنى سلبي، فكذلك تنقل الأحاسيس المريبة..وعليه، فإن إجراء مسح شامل لو أردات هذه الحواس، أمر ضروري لكشف كل ما هو غريب على هذا الوجود الذي فطره الله تعالى في أحسن تقويم.

ولنحاول الآن أن نجري مسحاً تجريبياً وعلى واردات الوجه التي تتركز فيه غالبية المعاصي.

فهنالك العين: وذنبها النظر بشهوة أو ريبة، وهنالك الأذن، وذنبها الاستماع إلى ما حرم من الغناء والغيبة والبهتان والنميمة وغير ذلك، وهنالك اللسان: وذنبه الفحش والكذب والغيبة وباقي المعاصي القولية.. وهنالك الفم: وذنبه إدخال الطعام الحرام فيه، واستعماله في المنكر كالتقبيل المحرم مثلاً.. وإذا انتقلنا من الوجه، فإن المصدر الأساسي الآخر للفاحشة هي ذنوب الغريزة، وما يلحقها من كوارث!..

ما دمنا حصرنا رؤوس المحرمات بما ذكرناه في رأس الإنسان، فإن العلاج سيكون سهلاً بعدما علمنا أن مناشئ الحرام محدودة من جانب، ومادية من جانب آخر، وقد جعل الله تعالى على رأس كل جارحة من هذه الجوارح – غالباً – أدوات ضبط وسيطرة، فالجفنان والشفتان أمرهما بيد الإنسان، وكذلك العورة التي جعلها الله مستورة، فيكشفها العبد بسوء اختياره في غير موضعه ليزيد إلى القبح قبحاً.

إن السيطرة على هذه الظواهر لا تتم إلا بالسيطرة على البواطن، والسيطرة على البواطن لا تكون إلا من خلال السيطرة على الجهاز المتحكم في الباطن، ألا وهي: الإرادة التي تكون في أرقى مستوياتها في شهر رمضان المبارك.. فالملاحظ أن الصائم يرى في نفسه قدرة لم يعهدها في نفسه طوال العام.. ومن أسباب ذلك الضيافة الإلهية الدافعة للعبد إلى الأمام: هو الجو الجماعي للطاعة، والعزم الفردي على امتثال الأمر الإلهي.. وعليه، فإن الفرد يختزن في باطنه طاقة حبسها طيلة حياته، فلم يطلقها في سبيل التكامل، ومن هنا يأتي العبد يوم القيامة خجلاً وجلاً، لا حجه له، ولا عذر، فيتمنى لو تسوى به الأرض لما يرى من عظيم الخسارة مع ما أعطي من رأسمال لم يقدر قدره.. أولاً يحسن بنا أن نتدارك تلك الندامة في هذه الأيام، والفرصة متاحة، والأعضاء مطلقة، وقلم التكليف لم يرتفع بعد؟!.