فلسفة تشريع الصيام بالمنظار العقلي

 

ربما كانت أكثر العبادات التي استأثرت بالتفكير على مستوى العقل والعلم هي تشريع صوم رمضان. لقد أجهد العلماء والأطباء والفلاسفة عقولهم ومداركهم بغية حصر ما ينطوي عليه الصوم من فوائد وحكم ودلالات، فما وقفوا إلا على اليسير الذي أثبتته تجارب الطب والعلم.  ومن دون شك فإن هذه النظرة المتوازنة المعتدلة تمكننا من الوقوف على بعض المدركات العقلية المتعلقة بأسرار الصوم وحكمة تشريعه، وذلك بطبيعة الحال بجعل الاهتداء والنظر فيما ورد بهذا الشأن أملاً في الإحاطة بأسرار وأبعاد هذا التكليف.
 وينطوي الصوم على الكثير من الحكم والأسرار التي لا يمكن حصرها، فهو محك للإرادات النفسية، وقمع للشهوات الجسمية، ورمز للتعبير في صورته العليا، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات، وتدريب منظم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه، وتحكمه في أهوائها، وقد أثبت الطب الحديث ـ عن طريق التجربة العلمية ـ أهمية الصوم في علاج الكثير من الأمراض والأسقام التي ما فتئت تنخر وتحطم صحة وأبدان بني آدم، ولم يُعثر لها على علاج شاف، بل إن العلم يؤكد على أهمية الصوم حتى بالنسبة للأصحاء أنفسهم.

يقول الشهيد السعيد آية الله السيد حسن الشيرازي في بيان حكمة تشريع الصوم وفلسفة الصيام:

إذا كان الجسم يحتاج إلى نظام الصحة، في استيفاء سعادته، فكذلك الروح، تحتاج إلى نظام الدين، في استيفاء نموها الطبيعي، ورشدها المأمول، والظفر بالأماني التي تشرئب إليها...

والصيام من سنن الدين، التي تعمل لتكييف الروح... وهو للروح كالرياضة السنوية للجسم، فكما أنَّ قانون الصحة، يُحتّم على كل عامل ـ يريد حفظ صحته ـ أن يريض نفسه شهراً كاملاً في السنة، يقلل فيه من غذاء النفس (أي العمل على الحقول الفكرية)... كذلك نظام الصحة الروحية، يفرض على كل إنسان، أن يقلل شهراً في السنة من غذاء جثمانه...

ولما كانت بينة أطباء الأجسام، في ضرورة الإقلال من تغذية النفس، شهراً كل عام، هي لزوم تعويض ما فقده الجسم، من القوة، مدى الأحد عشر شهراً، نتيجة الانهماك الفكري... كذلك حجة أطباء الأرواح، في القصد من الطعام مدى شهر كل سنة، هي تعويض ما فقدته الروح الإنسانية من جراء تفرغ الإنسان، للماديات طوال العام...

وليس الهدف من هذه التحديدات، إلاّ حصول الموازنة، بين الروح والجسد، وعدم غمط حقوق تلك، للتوفير على هذا، أو إهمال هذا لتشجيع تلك... كيما يعيش الإنسان كاملاً معتدلاً، في مناخ قانوني، يسنح لروحه وجسمه معاً، أنْ يُعبّرا عن سجيتهما، ويبلغا أقصى مدى إمكانات النبوغ والرشد فيهما...

ذلك، كان مشهداً من تصارع الجسد والروح، وكانت حكمة الصيام فيه بالغة...

هناك قوى أخرى تتصارع في الإنسان، لا بد من إنصافها في نفسها، وللصيام في معاركها إصبع، بل مسند القضاء...

... لأنَّ الإنسان جسد وروح يتصارعان... وشهوة وعقل لا يفتأ بينهما الصراع، غير أن الشهوة تتشيع للجسد، والعقل يتشيع للروح، فالجسد والشهوة معاً في جانب، والروح والعقل معاً في جانب، ومجال الصراع هو الإنسان...

فكما أنَّ الجسد يحتاج إلى الغذاء العنصري، كذلك الشهوة تحتاج إلى الغذاء الجنسي... ولكنهما ينطلقان من نقطة واحدة، فمتى شبع البطن تحركت الغريزة لترتوي، وكلما سكنت الغريزة هدأ الجسد...

فلذلك كان لا بد أن تسكن الغريزة ويهدأ الجسد، ليتحرك العقل وتنشط الروح... ومن أجل هذه الحقيقة، كان الصوم أجدى وسائل تربية العقل والروح معاً... أو لا ترى كيف يمنع بصرامة، تحركات الغريزة والجسد معاً، ويجعل لهما كفارة سواء...

ومن هنا كان الصوم، ركناً هاماً من أركان الدين... وهو الركن الذي يجمع بين واجب التعبد، وبين ترويض الجسد والغريزة، مما حل لهما المتاع به، في فترات دقيقة رتيبة، ليستريحان بين الحين والحين، وينشط العقل والروح...

وهنا تكمن عبقرية الإسلام، فليس هو دين دنيا فقط، ولا دين آخرة فحسب... بل هو دين الحياة بجملتها الشكلية والزمنية... دين العالمين، من يوم خلق الله الكون إلى أن تنتهي الحياة، كمّا عبر عن هذا الواقع سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم). (ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، بل خيركم من أخذ من هذه وهذه).

أنَّ الصوم سُنّة البشرية، وجزء صميم من نظام الكون الذي يجب أن يعيش أبداً إلى جانب الخبز والماء، وأنْ يعيشه الإنسان، كما يعيش البطن والجنس، وما دام له عقل وروح، فهو من الحاجات الأساسية الضرورية للإنسان، وليس من الأحكام الموقوتة، التي تفرض لاستجابة فترة زمنية، حتى يلغيه التطوّر، كما يظن بعض الهائمين مع الأهواء، وكما فعل عبد العزيز الجايط مفتي تونس: إذ تنازل إلى رغبات (بورقيبة) رئيس الحكومة التونسية فأفتى (بإلغاء صيام شهر رمضان، إذا تعارض مع تطوّر البلاد، وعدم صيام الشبان، الذين يجب عليم أن يغذوا أنفسهم، للمحافظة على صحتهم).

وإنّما هو سنّة ثابتة على الدهر، لا يتطوّر أبداً، ما دام الإنسان والكون وما دامت الحياة، عدا الحالات الاستثنائية، التي نص الشرع على استثنائها من أول يوم...