فسيولوجية الصيام وتأثيره على مرضى الأمراض المزمنة

 

ليس علم الإنسان بوظائف الطعام وحده الذي يدفعه لطلبه، فهناك أيضاً حاسة الجوع الضاغطة وشهوة الطعام الباعثة، فأما حاسة الجوع فهي التي تدعو الإنسان إلى ما يسد حاجته من طعام ضروري لاستيفاء الحياة واطرادها على أوفق حال، وهذا مندوب إليه شرعاً وعقلاً، بما فيه من حفظ النفس وحراسة الجسد، أما الشهوة الباعثة، فهي شهوة الطعام ولذته وهذه وسيلة غير أن الكثير من الناس يجعلونها غاية، هنالك حقيقة عجيبة، ولكنها مع ذلك ثابتة على نحو قاطع، وهي أن آليات تعامل الأبدان مع الطعام تستوجب ممارسة الصيام.. فلقد صمم الباري عز وجل الأبدان على نحو يهيئ التعامل مع مركبات الطعام، وفقاً لآلية تسير بنظام وتوافق في ثلاث مراحل متتابعة، فالمرحلة الأولى هي عمليات الهضم في المعدة والأمعاء، والامتصاص والتمثيل في الأمعاء، وعمليات تحويل الطعام إلى سكر كلوكوز يسري في الدم، والى مواد أخرى أولية يتيسر استخدامها لإطلاق الطاقة وبناء الأنسجة، والمرحلة الثانية هي مرحلة تخزين الفائض من الطاقة، فالكلوكوز الفائض يخزن في الكبد والعضلات، على هيئة نشا حيواني (كلايكوجين)، بينما يخزن فائض الدهون في معظم أجزاء الجسم. هذا وتتولى المرحلة الثالثة مهمة فتح مخازن الطاقة وتحويل الكلايكوجين والدهون، إلى كلوكوز وأحماض دهنية، لإطلاق طاقتها في الأجسام، وتختلف المرحلة الأخيرة عن سابقتيها، في أنها لا تحدث مطلقاً، إذا لم يمتنع الإنسان لفترة زمنية محددة عن تناول الطعام، أي إذا لم يصم الإنسان، فالصائم يمتنع عن تناول الطعام، يبدأ مستوى سكر الكلوكوز الطبيعي (80 – 120ملغم/ 100سم3) في دمه بالانخفاض بعد نحو ست ساعات من بدء الصوم، وهنا تنتبه على الفور منطقة (الهيبوثلامس) بالدماغ، فترسل إلى الغدد برسائل عاجلة تطلب منها العون والمدد، وعندئذ تفرز الغدة الكظرية مزيداً من الهرمونات التي تحث على تحول الكلايكوجين المخزون إلى سكر الكلوكوز بواسطة هرمون (الأدرينالين) و(الكورتيزول) وتعمل الغدة الدرقية نفس العمل بواسطة أنزيم (الثيروكسين) وكذلك الغدة النخامية عن طريق هرمون النمو والبنكرياس أيضاً عن طريق هرمون (الكلوكوز) وهكذا تتشارك كل هذه الهرمونات في حث الجسم على تحويل مخازن الطاقة المدخرة في الكبد والعضلات إلى سكر كلوكوز، ليعيد الاتزان المفقود في سكر الدم، على أن الكلايكوجين المخزون قد يستنفذ، وهنا لا بد من التعامل مع مخازن الدهون، لهدمها وتحرير طاقتها، وقد أكد الباحثون فعل الصيام في زيادة منحنى احتراق الدهون طوال ساعات الصوم، حيث يتم استهلاك مخازن الدهون المتراكمة في مناطق ترسيب الدهن في الأجزاء الخارجية من الجسم كالأرداف والعجز والبطن ونحو ذلك، وهنا نستطيع أن تخمن ما يمكن أن يحدث في الجسم إذا لم يمارس الصوم – من وقت لآخر – إذ يبقى الجسم مشغولاً بإجراء المرحلتين الأوليتين، ولا تتاح له فرصة إذابة مخزون الكلايكوجين والدهون، والنتيجة سوف يثقل كاهل الجسم بكميات هائلة من الدهون المخزونة، والتي تستلزم إنشاء عشرات الكيلو مترات الإضافية من الشعيرات الدموية الصغيرة والدقيقة لنقل الدم إلى تلك الدهون المتراكمة، وتشير إحدى الدراسات بأن كل كيلو غرام من الأنسجة الدهنية الزائدة تقابله زيادة 3 كم طولاً من الشعيرات الدموية يلزم وصول الدم إليها مما يعني مزيداً من العبء على القلب وشرايينه، علاوة على ما تسببه الدهون المتراكمة من تأثير سيء على الكبد والكلي وسائر أعضاء الجسم وأجهزته. وعلى ضوء ذلك فإن فسيولوجيا خلق الأبدان، تقتضي الامتناع عن تناول الطعام بين وقت وآخر، وتستوجب الحصول على فترات معقولة من الصيام، تكفل إراحة الوظيفتين الأوليتين وتعمل على منح الوظيفة الثالثة فرصتها في العمل والتغيير.

وبناءً على ما تقدم فإن الصيام يعتبر من الناحية الطبية تمريناً فسيولوجياً للجسم على تحمل الجوع في كافة الظروف حيث يحدث العديد من التبدلات الهرمونية والفسيولوجية في كافة أعضاء الجسم بشكل يتأقلم فيها البدن مع النقص الحاصل في الوارد الغذائي من الخارج فكما ذكرنا أن الجسم يصرف الطاقة من مخازن الكلايكوجين والسكريات المتعددة الموجودة في الكبد والعضلات خلال فترة الصيام، ويحدث تبدل هرموني في إفرازات غدة البنكرياس مثل الأنسولين والكلوكاكون وهرمونات الغدد النخامية والكظرية، وما إلى ذلك من تبدلات، ورغم الفوائد الجمة والهائلة للإنسان الطبيعي والإنسان السوّي. إلا أنه غير مناسب لبعض المرضى، وفي أحيان معينة يزيد حالتهم الصحية سوءاً لذلك لا بد من إعطاء ملاحظات وأفكار ولو بسيطة عن تأثير الصيام على بعض الأمراض الشائعة، ومن هم غير المؤهلين من الناحية الطبية لصيام هذا الشهر المبارك.

مرضى السكر:

السكر كما هو معروف طبياً نوعان الأول معتمد على الأنسولين كلياً، أي أن العلاج يتطلب تناول حقن من الأنسولين مع مراقبة غذائية دقيقة، وقد يتعرض هؤلاء المرضى لنقص حاد في السكر أو زيادته، لذلك لا ينصح الأطباء بصيامهم في شهر رمضان، أما النوع الثاني، فهو السكر الكهلي أو يدعى في بعض الأحيان بـ السكر غير المعتمد على الأنسولين، وهؤلاء المرضى بإمكانهم الصيام وذلك بعد استشارة الطبيب المختص حول الخطوات الصحية لذلك مع مراقبة دقيقة للغذاء والنشاط اليومي.

مرضى القلب:

غالباً ما يستفيد مرضى القلب من الصيام من ناحية خفض الإجهاد القلبي أثناء فترة الصيام وتقليل نسبة الدهون في الدم، لكن على المرضى الحذر عند فترة الإفطار، لأن تناول كميات من الطعام يؤدي إلى زيارة إجهاد القلب وذهاب كميات كبيرة من الدم إلى المعدة والأمعاء من أجل إكمال عملية الهضم. أما المرضى الذين يتعاطون المدررات البولية من أجل معالجة ارتفاع ضغط الدم أو فشل القلب فهؤلاء لا يستطيعون الصيام لأن الجسم بحاجة إلى بعض السوائل ويمكن أن يتعرضوا إلى اضطرابات في الشوارد الدموية، لذلك يجب على المرضى عدم الصيام.

مرضى الكلى:

المرضى الذين يعانون من فشل في الكلية لا يستطيعون الصيام بسبب اضطرابات توازن الصوديوم والماء في الجسم وبعض الأيونات الأخرى مثل البوتاسيوم والكالسيوم وغيرهم، فالجسم بحاجة إلى الماء بشكل متوازن ولا يستطيع المرضى تحمل الجفاف ونقص الصوديوم وبقية الأيونات، كما أن هناك حمية غذائية بمرضى الفشل الكلوي تعتمد على توازن بروتين محدد مع توازن معدني خاص ومحدد أيضاً، لذلك يجب مراجعة الطبيب في بعض الحالات التي يجوز فيها الصيام لدى هذه الفئة من المرضى، وذلك تبعاً لدرجة فشل الكلية.

مرضى القرحة الهضمية:

من البديهي أن القرحة الهضمية تزداد بازدياد حموضة المعدة، ومن المعروف أيضاً أن الأشخاص المصابين بالقرحة الهضمية بحاجة إلى تناول (4-6) وجبات يومياً من أجل معادلة حموضة المعدة ومساعدتهم على العلاج، لذلك يكون الصيام لديهم غير مناسب، وبالأخص في حالة القرحات الشديدة والحادة والتي تتطلب معالجة فورية وآنية، فالمرضى يحتاجون لتناول ثلاثة إلى أربعة أنواع من الأدوية على مدار اليوم لذلك فهم لا يستطيعون الصيام، أما المرضى الذين لديهم قرحات غير حادة فبإمكانهم الصيام بحذر، وعليهم أيضاً تناول الأدوية المثبطة للحموضة مثل دواء (امبرازول) و(الوزيك)، إذ تؤخذ حبة كل 12 ساعة بعيار 20 ملغم، ويكن تحديد المواعيد بحيث لا تتضارب مع الصيام.

مرضى الدم:

لا ينصح الأطباء الاختصاصيون المرضى الذين يعانون من اضطرابات تخثر الدم بالصيام، وبالذات المرضى الذين لديهم تخثر دموي في الساق، أو حدث لديهم سدادة أو صمامة رئوية، لأن الصيام يعمل على زيادة إمكانية حدوث تجلط الدم داخل الأوردة والشرايين، والذين يصرون على الصيام عليهم تناول الأسبرين يومياً عند الإفطار أو استشارة الأخصائيين لأجل تناول أدوية أخرى من أجل تلك الغاية.