وكائنات أخرى تصوم

 

عندما يتعلق الأمر بالنبات والحيوان، والأسماك والطيور والحشرات والأشجار، فإننا نواجه حكمة الغريزة الفطرة المحضة .. ويغدو االصوم لديها درسا جديراً بالانتباه البشري.

تصوم الحيوانات كثيرا، كتعبير عن الألم والحزن فالحصان المريض يمتنع عن الطعام والكلاب إذا ما أصيبت بكسر في عظامها تصوم فترة قد تمتد إلى عشرين يوماً. كما أنها تصوم حزنا على فقد صاحبها أما عصافير الدوري والطيور التي لم تدجن والحيوانات البرية فإنها تصوم حال وقوعها في الأسر ربما كتعبير عن الأسى والحزن أيضاً.

باستثناء ذلك وبنظرة شاملة إلى الصوم عند الكائنات الأخرى - عدا الإنسان - كالطيور والحيوانات، والحشرات،  والأسماك .. حتى الشجر. جميعها، يبدو صومها مكـرسا لغاية واحدة كبرى هي: الاستمرار في الحياة والحفاظ على النوع.

ولعل في ذلك نـوعا من الحكمة بعيـدة المنال عن إدراكنا البشري، فنحن نتصور أن الوفرة وسيلة بديهية للاستمرار. لكننا لا نتقبل بسهولة فكرة أن الحرمان يمكن أن يكون وسيلة أخرى للاستمرار والبقاء. ولنتأمل..

الصوم لأجل الجديد

عجيب أمر أسماك السلمون. فكأن لها عاطفة جامحة تقودها عبر رحلة شاقة وخطيرة إلى أوطانها الأولى، لتضع بيضهـا هناك، في الأمـاكن ذاتها التي وضع آباؤها البيض فيها. إنها تولد، خارجة من البيض، في مصبات الأنهار بالشمال الأمريكي والشمال الأوربي. وبعد سنتين أو ثلاث. من الحياة في الماء العذب تبدأ رحلتها نحو أعالي البحار. وبعد أربع سنوات أخرى تبلغ أوج نضجها. عندئذ تبدأ رحلة العودة إلى الوطن الأم.

رحلة شاقـة قد تصل إلى ألف ميل (1600 كيلو متر)، عبر البحـر ثم في مـواجهة تيار الأنهار المندفع نحو البحـر. رحلة قد تمتد أسابيع وأشهرا، يتربص بها خلالها صيادو الأسماك من البشر والطيور معا، لكنها لا ترتدع. لعل الحنين إلى الأوطان يغلبها، ولعلها- مثل البشر- تحب لو ترى صغارها ينشأون حيث نشأت. وأغرب ما في هذه الرحلة أن أسماك السلمون تقطعها صائمة.

فلم الصوم ؟

الإجابة قـد تكون: أنها عبر رحلة شاقة ومليئة بالأخطار إلى هذا الحد، لا تجد وقتا لازدراد الطعام، ولا تجد وقتا للاسترخاء بعده. ثم إن هذا الصـوم يستهلك ما تراكم على أجسادها من شحوم، فـما أن  تبدأ السباحة ضد تيار الأنهار- وحيث يكـون تربص الصيادين أغزر- حتى تكـون أكثر مرونة وأرشق.. فتغالب التيار بكفاءة وتناور الصيادين باقتدار.

الصوم في أثناء فترة التكاثر

الشيء نفسه: الصوم في أثناء فترة التكـاثر، تقوم به طيور البنجوين وذكـور الأوز وذكور حيوان الفقمة. والشيء المشترك بينها أنها تتميز بالسمنة. لكن ذكر حيوان الفقمة يظل أغربها. فهو يظل صائما سـاهـرا على زوجاتـه الخمس أو الست!! وبعد أسابيع من ذلك الصوم الطويل، والسهر المنهك يخلد إلى النوم ويرتاح. ويمتد نومه ثلاثة أسابيع متواصلة، ثم يصحو ليعيش حياته المعتادة.

وفي سبيل الجديد الآتي، أيضا، تدخل اليرقات شرانقها وتصوم.. لا تأكـل ولا تتحرك حتى تتبدل من عـذراوات إلى فراشـات. تخرج لتطير، وتضع البيض.

وفي إطار الجديد الآتي، أيضا، يكـون الصـوم .. فبعض أنواع العناكب تصوم ستة أشهر في أعقاب ولادتها. أما الصيصان فإنها تصـوم ثلاثـة أيام بعد خروجها من البيض.. لا طعام ولا شراب.

الصوم كبيات شتوي

حيث يكون الشتاء فصلا يندر فيـه الغذاء في الجزء الشمالي من الأرض، يكـون على الحيوانات أن تتدبر أمرها. بعضهـا يهاجـر نحـو الجنـوب، حيث الغـذاء والدفء، كالطيور السمان والبط الـبري.

وبعضها يدخر في جحوره العميقة ما ينفعه في أثناء الصقيع، كـالسناجب والفئران، أما الأكثر وطنيـة منها، وهي في وطنيتها مرغمـة، فإنها تبقى وتلجأ إلى  حل فريد: السبات، أو البيات، أو الاكتنان- وكلها ترجمات عربية للكلمة ذاتها Hifernation

فالدببة والأفاعـي والضفادع وحيوانات المرموط والسحالي والزغبة (من فصيلة السناجب) والقنـافذ والسـلاحف، كلها، بـدرجة أو بأخـرى من العمق، تدخل في جحـورها أو كهوفها أو مخابئها، تلتف على نفسها.. وتنام!

تنام نوما طويلا يمتد حتى نهاية الشتاء، ومع بشائر  الربيع والـدفء تستيقظ وتخرج باحثة عن شيء ما تأكله. بعد ذلك الصوم الطويل.  ولهذا البيات الشتوي سر، وآلية.

فـالسر يكمن في أن هذه الحيوانـات التي تدخل في السبات، تكتنز في أجسامها نوعا من الشحوم الداكنة تسمى " الـدهن البني ". وهذا الـدهن البني أغنى من نظيره الأبيض بمحتواه من الشحـوم.

ومن ثم تستطيع الحيوانات أن تسحب منه، وتحرقه في داخلها، لتتدفأ في سباتها الشتوي الطويل دون أن ينفد سريعا ويخذلها. ومن المدهش أن كل الحيوانـات الوليـدة- حتى الإنسـان- تمتلك شيئـا من هـذا الـدهن البني في أجسامها، لكن معظمها يفقد هذا الدهن البني فور أن يكبر.

وهـذا الدهن البني يمثل نوعا من مصادر التدفئة للحيوانات الصغيرة حتى تكـبر وتستطيع الارتعاش، فالارتعاش وسيلة لبعث الدفء في أبدان الحيوانات التي لا تمتلك مدافئ أو سخانات. سواء بالكهرباء أو الغاز.

والدهن البني هذا، نفسه، هو السر في أن الفئران  المنزليـة تستطيع الحياة والانتعاش داخل الثلاجات، بينما يموت غيرها لو فعل ذلك.

هذا الدهن البني يجري سحبه في أثناء صوم الحيوان عن الطعام في مرحلـة السبات. والذي ينظم معدل السحب هو غـدة ما تحت المهاد   Hypothalamous، لأنها الجزء المنظم لحرارة الجسم داخل المخ.

ولاينتهي فصل الشتـاء حتى تستطيع غـدة تحت المهاد هذه سحب ما يكفي من الدهن البني، وإحراقه للحصول على طـاقة تكفي لرفع درجـة حرارة جسم الحيوان المستكن من 10 درجـات مئوية إلى 37 درجة مئوية، فيستطيع النهوض والسعي.

أما آلية السبات فإنها تكمن فيما هو أعمق من النوم وإن كـانت تشبهـه. ففي السبـات تنعـدم الحركـة الخارجية، ويقل معدل النبض والتنفس، وتهبط درجة الحرارة كثيرا- على غير ما يحدث في النوم- كـما ينخفض كثيرا مستوى التمثيل الغذائي.

والحيوان يبـدأ سباته الشتوي وهـو ممتلئ بالـدهن، ويخرج من السبات أنحف. لعلـه يكـون أرشق وأليق بزهو الربيع.

والصوم كبيات صيفي

ليس الصقيع والجليـد وحـدهما سببـا للبيـات. فالحرارة الشديدة والجفاف يدفعان بكثير من الحيوانات إلى البيات أو السبات، اتقاء للمنـاخ الذي قـد يكون أكثر قسوة من الصقيع.

ومن بين الحيوانات التي تلجأ إلى السبات الصيفي هذا: القواقع والتماسيح والأفـاعي، أما " سمك الرئة " الإفريقي فإنه يبيت بطريقته الخاصة. فهو يغرس نفسه عميقا في طين قاع النهر الذي جف، ويمكث بلا حراك أو طعام حتى يجيء الفيضان ويمتلىء النهر.

وعلى ذكر الحرارة والجفاف، يأتي الجمل- سفينة الصحـراء العربيـة- كنموذج للصوم الصبور. فهو يقطع الصحـراء دون مـاء أو طعـام ودون أن يبيت أو يتوقف. ويمثل سنامه مخزن الشحم الذي يحترق في داخله ببطء. فيمده بطاقة الحياة والحركة والعزم.

والأشجار أيضا تصوم

ولأن قدر الأشجار أن تعيش واقفة وتموت واقفة، فإنها تدخل في السبات واقفة، فليس للشجر أن يهبط إلى جحـور أو كهوف أو مخابئ، وليس لـه أن ينكمش ويلتف على نفسه.

وحين يأتي الخريف، مؤذنـا بقرب الشتاء- خاصة في الشمال- حيـث تتجمد المياه وتهطل الثلوج ويلف الصقيع كل شيء، لا يجد الشجر أمامه إلا أن يتخفف حتى يكفيه القليل من النسغ ويعبر قساوة الشتاء. تتسـاقط الأوراق حتى تتعـرى الفـروع، ويقف الشجر في ثبات لا يريم.

ومع عودة الربيع ينتفض الشجر. يدفع دفق النسغ الوفـير إلى اللحـاء وإلى الفروع. فيلين اللحـاء، وتبزغ البراعم، ثم تتفجر الخضرة والألوان. وكأن الشجر يفطر بفرح، بعد صومه الطويل.   (عن مجلة العربي الكويتية)