وعي النهضة في فكر السيد الشهيد حسن الشيرازي

                 سمير الكرخي
مركز الإمام الشيرازي للبحوث والدراسات

بسم الله الرحمن الرحيم

هل تدرك عقولنا أي ضياع انحدر بالأمة من قمة كمالها إلى درك الهوان؟

وكيف نأمل عروجها في ظل العديد من مشاريع التصحيح والإصلاح؟

استفهام يشد إليه الشهيد السيد حسن الشيرازي (ره) في كتابه (كلمة الإسلام) محاولاً الإجابة عليه ببراعة المفكر والأديب والثائر المتحلق في سماء الرقي نحو عالم الكمال والفضيلة.

تجد الشهيد في مقدمة كتابه - لا محالة - أمام تجربة معمّقة من تاريخ الأمة، ليتمم رؤيته عنها ويصوغ كلمته في فترة انتقالية حرجة، رفضت جماهيرها (الوقوف والتراجع)، لتتأكد من صحة وصلاحية المشاريع المرحبّة بالتصحيح والتطوير.

ولأهمية (الوعي والحذق والإتقان) وكونها عوامل في معادلة التفاعلات بين عناصر تكوين القضيّة، تتباين بحسب المرتكزات الفكرية والتصورات الأولية، تراه يشترط عند الوقوف على أي محاولة إصلاحية - تصحيحية، سبقها بالبحث (عن خيوط الانحراف، لتعاكسه بخط الإصلاح، فالثغرة التي نخرت في الواقع الإسلامي، حتى انتهت بسقوط الحكم الإسلامي في الصعيد الدولي وفي الصعيد العقيدي، هي الثغرة التي نشأت من تسلسل المتطفلين إلى مراكز القيادة الإسلامية، دون أن يختارهم الله، فلم تكن فيهم الإمكانات التي تؤهلهم للسير بالأمة سُججاً نحو السيادة العالمية، فسقطوا وسقطت معهم، حتى انتهت إلى الدرك الذي نعيشه اليوم).

فببعث (الوعي الإسلامي الصحيح في معارض الفكر، ودحض الأفكار الدخيلة عليه) تراه يشحذ هممه لإبراز القيمة الواقعية للوعي، كعنصر خطير يدخل في متطلبات (إقحام الإسلام في واقع الحياة) ويبدأ في رسم تصوراته عن القضية فيحدد أبعادها ويسلط الأنوار على مدافنها ليظهرها متناسقة مع رونقة المقال وخطر المآل، لا يشوب صفاء فكره صخب الناس وتدافعهم المادي، ولا تثنية مداهمة (زوار الليل) لأنه المؤمن بأن (الإنسان لم يخلق في هذا الكون للراحة، وغداً سوف نموت ونخلد إلى الراحة الأبدية، وأما اليوم فعمل وعلينا أن نتغلب بوعينا وبمعرفتنا على كل الأشياء كي تنتصر فينا تجربة الروح المدفونة في هذا الجسد على المادة. فالكون بما فيه، صراع بين الروح والمادة، بين الحق والباطل، والإنسان هو الفارس الجلي في هذه الحلبة، إما أن ينتصر فيرتقي، وإما أن يستسلم لمغريات المادة فيفشل في تجربته ويخضع لشهوات المادة والنفس وينتهي روحاً وجسداً(1). وقد صدق الشهيد (قده) بقوله (إن إقحام الإسلام في واقع الحياة رسالة تتطلب ألف عنصر وعنصر) فكان هو حقاً الرائد والفارس من بين العناصر، الجلي في حلبة الصراع، والثائر المردد:

واسحق جباه المعتدين مردداً       لا السجن يرهبني ولا الإعدام

 

عناصر النهضة الطبيعية في أدبيات الشهيد

في سياق تتبعه لمجريات حياة الأمة وأدوارها ضمن مشاهدها السابقة وهي تجرر فلولها المهزومة أذيال الخيبة والبؤس، يقول:

كان على الأمة أن تشعر بالتحشيدات والتأهبات التي تتفاعل حولها، من أجل إعداد الجواب في الساعة الفاصلة، غير أن القيادات المتطرفة السادرة، التي منيت بها الأمة، لم تفكر ولم تسنح فرص العمل للمفكرين. فكانت الأمة متضائلة متراجعة، في الوقت الذي كانت تتناصر خيوط الظلام، وتتضافر وتتجمع القوى الموتورة والملحدة. وكان النتيجة الحتمية - التي تقولها الأقدار حين التحكيم بين معسكر متخاذ منهزم، ومعسكر متجمع مندفع - فأودت في المحاولة الأولى بالأمة إلى أبعد قرار، حتى لم تملك أن ينبض فيها عرق الدفاع، أو يترقرق في عينها حلم وفي قلبها رجاء.. ولم تفكر في النهوض، بل لم تطق أن تفكر في النهوض، بعد تلك الانتكاسة العنيفة، التي بضعها أشلاء بائسة مرعوبة.

إلا أن مقتضيات الحياة وسننها، وطبيعة السلوك الاجتماعي واندفاعه الذاتي نحو التطور، ساق بالأمة لتمارس تجارب الآخرين، التماساً لمعنويات قد تسترد فلولها المهزومة، عسى أن يكتب القدر لها نصيباً من حياة شامخة أضاعتها. ويصف الشهيد محاولاتها هذه بأنها نجاحات متواترة خطت طريق الأمل للأمة البائسة، فقرر لها أن تتسلق الحافات. فالتفاتة بسيطة إلى مقولته سرعان ما تضفي على الأذهان من تبادر النجاح بطريقة التسلق على الحافات، بأنه نوع هزيمة جديدة يخطط لها القدر من جديد، لأنه وصف لا يرضي طالب العلا، ولا يتناسق مع ذوق فنان بارع يترك لوحته في دياجير الظلام. لأن هذه الأمة فاتتها (عملية التفكير)، واندفعت بلا هدف ولا اتجاه، لأنها رأت الأمم المتحررة تندفع، ولم ترها تفكر، فحسبت أن عليها أن تندفع فحسب، وسيكون في انتظارها النجاح المحتوم. غير أن الأمم المتربصة فكرت لها ألف تفكير وصممت لها ألف خطة، لتهضمها في طريق الصعود، كما هضمتها في طريق الانحدار.

فما انطلقت لكسب نجاحها، حتى وجدت نفسها على مفترق الطرق، وتلفّتت لتلمس المعونة المادية والمعنوية، التي تضمن لها المسير والمصير، فارتسمت حولها في الأفق، إشارات كبيرة تقول:

إلى أين؟.

كيف المسير؟.

ما هو الهدف؟.

إلى متى الصراع؟.

وما هي وسائل النهوض؟.

إن هذا الاندفاع اللاشعوري مع الإغراءات الدعائية المعسولة نفرّ بالأمة إلى اتجاهات وقطاعات متذبذبة جرفتها بتياراتها على حدي الإغراء والإرهاب.

وهكذا بقيت الأمة رهن الحلول المتنوعة، المنبثقة من خلفيات مختلفة، كل يتفاعل مع القضية بحسبها..

ويتناول الشهيد كل فئة بأسلوب الوصف والنقد والتحليل، بطريقة استدلالية عقلية ونقلية لبيان مدلولات حلولها، إلا أنه (ره) يضع لمساته المعرفية على العناصر الطبيعية للنهضة الجذرية للأمة، والتي تتلخص في:

1- وجود مبدأ شامل صحيح.

2- وجود قيادة محدودة حكيمة، منتزعة من صميم ذلك المبدأ.

3- وعي الأمة لذلك المبدأ، وتلك القيادة.

4- إيمانها المطلق بهما معاً.

5- ثقتها بنفسها، كأمة تستجمع مؤهلات النهوض المستقل.

6- تنفيذ الأمة لذلك المبدأ - في واقعها - بإيحاء تلك القيادة.

فالعناصر الرئيسية إذن هي المبدأ والقيادة وإيمان الأمة بهما، وهي حقيقة لا تخلو عن كونها سنة حياتية أو حركة تاريخية يشهد فصولها التاريخ والمجتمعات بأنواع تفاعلاتها، بل إنك لا تجد فلسفة أو معتقداً يخلو من هذه العناصر أو إحداها، وقد صدق الله تعالى بقوله:( ولن تجد لسنة الله تبديلاً) (2).

فهي رؤية معبرة عن غاية التدبر والإمعان بلا تحيز أو تعصب، لأنها تحديد صادق تؤيده تجارب الآخرين في نقاشاتهم الفكرية وتجاربهم العملية، فهي فلسفة الحياة والإنسان والمجتمع.

 

فلسفة القيادة

يشترط السيد الشهيد انتزاعية القيادة من صميم المبدأ الذي تؤمن به، لأن الله تعالى عندما خلق الإنسان وأرسل نظامه لا بد أن يعين قادته، وأن الإسلام ليس نتاج رأي الإنسان، بل جاء لتحديد رأي الإنسان بحسب المصلحة العليا، ولم يفوّض للإنسان اختياره أو ترشيحه للقادة كيفما شاء وعلى هذا الضوء نجد أن القيادة الكونية، بطبيعتها الأولية، مختصة بالله، والإنسان الذي هو جزء من المجموعة الكونية، لا يتفرد دونها بقيادة خارج القيادة الكونية، فقيادته مختصرة في الله وحده ويدل على ذلك، الحقيقة الطبيعية في احترام حقوق الناس وضمانها التي يؤكد الإسلام عليها في الأحاديث الكثيرة الدالة على عدم أحقية أحد في السيطرة على الغير لأنهم جميعاً متساوون في الحقوق، خلقوا كأسنان المشط، من أب واحد، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالرتب المعنوية الناتجة عن التقوى، ولكن الناس جميعاً، حيث كانوا عباد الله الذين خلقهم، ليعرفوه ويعبدوه، بمدلول الآية الكريمة: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)(3) كان لله تعالى وحده، التصرف في العباد، وفرض إرادته الحكيمة عليهم، لأنه الذي خلقهم ورزقهم من الطيبات، وهو يحييهم ويميتهم، ويعيدهم ويحاسبهم، ثم يثيبهم أو يعاقبهم على ما فعلوا في الحياة الدنيا.. فله القيادة المطلقة بحق... ولكنه خول هذه الصلاحية القيادية للنبي الأكرم (ص) ليكون قائداً بشرياً في الناس، حتى يتوفر لهم التفاعل معه والاطمئنان إليه، فصرح القرآن الحكيم قائلاً: (أطيعوا الله والرسول...( ثم أكد (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم..) ثم توارثت هذه القيادة المحدودة في الأئمة الطاهرين، الذين قاموا بخلافة الله والرسول في الأرض، فأردف القرآن قائلاً: (... وأولي الأمر منكم) وتواترت تصريحات الرسول بقيادة الأئمة - من بعده - بأسمائهم وخصوصياتهم، كما في خطابه الكبير يوم الغدير، وتتابعت نصوص السابق من الأئمة على اللاحق منهم. وبعد ما توارى المعصومون (ع)، عن التفاعل المباشر مع الناس استنابوا عنهم في قيادة الأمة، العلماء الجامعين لشرائط (المرجعية) وصدرت عنهم التصريحات المتواترة - معنىً - لتثبيت هذه القيادة النيابية...

فالنبي والأئمة (ع)، والعلماء المراجع، انحدرت إليهم الصلاحية القيادية، بإرادة خاصة ومباشرة من الله تعالى، فحقت لهم القيادة البشرية وخرجوا عن العمومات التي تنص على حرمة سيطرة إنسان على إنسان...

إن هذه القيادة، طبيعة منبثقة من فلسفة الحياة، ومنحدرة من خالق الكون والإنسان، الذي هو أجدر بكل شيء، وأحق وأعلم بكل شؤون الحياة والإنسان.. كما أنها منتزعة من صميم الإسلام، والواقع الفكري والذاتي للأمة، كما أنها دينية صميميه، يكوّن رباطها الأوسع والأقوى، دين فكري، يمثل إرادة السماء، وذلك للانسجام الكامل الدقيق، بين حقيقة القيادة، وواقع الأمة والإسلام، وأهدافهما واتجاههما وأساليبهما، الذي يتجسد أروع ما يكون في النبوة ثم في الإمامة ثم في الاجتهاد المطلق أو الأعلمية في الفقه الإسلامي المنتزع من صميم أعماق الواقع والأمة.

إن هذا الانسياب المنطقي الحيوي، في إثبات انحدارية القيادة ومشروعيتها بحاجة إلى فهم واقعي لمعنى خطورة وعي الأمة لمبدئها وقيادتها، فهم نابع من صميم اعتقادها وإيمانها لكل مفردات العقيدة، لأن الإخلال في أي جزء منها عمداً أو سهواً، سيولد تصورات ومفاهيم إجماعية يعبر عنها السيد الشهيد بـ(الانخفاض الفكري في واقع الأمة) الذي يتسبب عادة من تلاقح عوامل ملخصها:

1- ارتداد القيادة الإسلامية، بهدف مسخ التصور الإسلامي الكامل الصحيح في الرأي العام الإسلامي، وضرب القادة الأصليين وأبعادهم عن ذهنية الأمة.

2- انحراف الحكم الإسلامي عن مقاييسه التي صممها الإسلام في ميزان الأخوة والمساواة العادلة.

3- الاستعمار الفكري المسلح بوسائله وأجهزته وتوجيهه بما يؤمن مصالحه.

(ونتيجة لهذه العوامل الثلاثة، فقدت الأمة وعيها لمبدئها وقيادتها بل كسبت وعياً معاكساً لهما).

إن هذه الانطباعات والتأثرات التي انتهت بالأمة إلى هذه النتيجة المستفيضة عن انعكاس خاطئ في طريقة تفكيرها ومعالجتها لواقعها، جعلتها تلجأ إلى قيادات أجنبية عن طبيعتها وطبيعة حياتها، وتؤمن بمبادئ دخلية على النظام التكويني لأن الإنسان الحي في هذه الحياة، يعيش حياة واعية مرتبطة بين المبدأ والقيادة والإيمان، يستمد من كل واحد منها قوة وسعادة، تعينانه على تأدية الحياة، فيوجه عقله للتعامل مع الله تعالى، ويكرس روحه للتفاعل مع الكون، ويخلص عاطفته للتلاقح مع المجتمع، فبتوجه هذه العناصر الثلاثة، في اتجاهاتها، وفق رأي الإسلام، تتألف (الشخصية المسلمة)... فكل إنسان اطمأنت في وجوده الخاص، هذه الطاقات الثلاث، يكون (فرداً مسلماً) - بإطلاقه الواقعي - إذ يصبح إنساناً، نابعاً، متميزاً، يتصف بالغنى الذاتي، والخصب الداخلي، فيملك واقعه، بل ويستطيع أن يصوغه بإرادته المستقلة، أو كيفما يوحي به الإسلام، ويصح أن تطلق عليه كلمة (الإنسان) قبل إطلاق كلمة (المسلم). بل أن الإسلام جاء لينقح معنى الإنسانية في الأجواء الاجتماعية ابتداءً، وليمسك بعرى الإيمان والتصديق وليضفي عليها قوة وعزيمة لكي تغور في متقلبات الأحوال بعيون إسلامية ناظرة إلى ربها، مطمئنة في وجودها، واعية لفلسفة حياتها، مطيعة لمبدئها وقيادتها. فإن اختزال أي من المؤثرات الثلاثة التي حددها السيد الشهيد والتي تؤثر في طبيعة التفاعل الإنسان الكوني يعني إضعاف أواصير الثقة والاطمئنان والسكينة، فتحرف الإنسان عقله أو روحه أو عاطفته أو جميعها، وتخلق عنده قوابل الاستسلام والخنوع والاستكانة، فيتخبط في تأدية الحياة وقد تحرفه عن (الإنسانية) التي أرادها الله تعالى له.

لذا ترى السيد الشهيد يحذر تارة ويركز أخرى على خطورة فقدانية الأمة لثقتها بنفسها ويتفنن بأساليبه في تصوير أنواع الهياكل نصب أعينها ليبعث فيها روح الوعي وليضع أمامها مخاطر التخلف وفقدان الثقة كنتيجة طبيعية عند عدم استكمال مؤهلات النهوض المستقل المتلخصة بالمبدأ الشامل الصحيح، والقيادة المحدودة الحكيمة، والإيمان المطلق بهما معاً.

 

المشكلة الإسلامية المعاصرة

إن استقراء السيد الشهيد لتاريخ الأمة الإسلامية، وإحاطته بالعوامل الفكرية التي أنتجت:

1- إيقاظ الشعور بالخطر، في صميم المسلم الحديث.

2- إيقاظ الإيمان بالنجاح، في ضمير المسلم الحديث.

استقراء لواقع نلتمس الكثير من تداعياته إن لم يكن في ذاته، في عصرنا الراهن، ونرى بأم أعيننا (مشكلة التيه والتمزق) و(مشكلة التدافع الاجتماعي)، وأن الأمة الإسلامية لا تزال تنتظر من يعالج مشكلتها المركزية ويجعل من نفسه مادة سخية بعيدة عن (المصلحية) و(الأنانية) و(الرفعة) على الآخرين. لكن إيقاظ الأمة وإيمانها بالنجاح وإن لم يكتملا نضوجاً، إلا أنها قادرة بفعل التراكم التاريخي على تقييم أنواع القيادات التي تأخذ بزمام أمورها. ولا يساورها الشك أن المجيبين عن مشكلتها ينطلقون من مصالحهم الذاتية ويستفيدون من قدراتها لتثبيت مقومات وجودهم، ولعل الأحداث في ساعاتها تثبت مصداقية القول بتقولب الأطروحات في إطار المصلحية الذاتية، المعبرة عن الأنانية المؤطرة بالوطنية والإسلامية وما على شاكلتيهما.

وإلى ذلك يشير السيد الشهيد تمهيداً لطرح علاجه للمشكلة الإسلامية الكبرى بقوله: (ورغم كثرة الإجابات وتكررها، لم يوجد فيها - حتى الآن - الجواب السليم. ومن المؤسف أن يعلن الواقع فشلها دون إنجاز هدفها الأساسي، وانحرافها عن مناهج العمل الإسلامي. ومما يؤكد فشلها - بصورة واضحة - أنها لم تعالج المشكلة، وإنما بقيت متفاقمة نامية، ولو كان فيها الجواب الصحيح، لما بقي خيال المشكلة شبحاً مرعباً يهدد بالأخطار والويلات، ولما بقي السؤال على كل لسان: ما هو العلاج للمشكلة الإسلامية الكبرى؟).

بل إننا نجد أن التضارب الصارخ في الآراء المنبثقة - بالاعتبار الأولي - من نفس المبدأ ومن الإيمان بالاتجاه الواحد ووحدة الموقف تضارب من أجل تحقيق الوجود الذاتي، لا من أجل إحقاق الحق وفق ميزان الأخوة والعدالة.

لكن السيد الشهيد يرى أن شروط العمل الإسلامي المستفيد من نظرة الإسلام للحياة والإنسان يجب أن يكون:

1- علاجاً فعلياً تجريبياً... وأما لو كان علاجاً شعراً مغرقاً في المثالية، فلا يصح اعتباره علاجاً.

2- أن يكون علاجاً منبثقاً من صميم الإسلام بوحيه وأساليبه، لأن الإسلام - باعتباره فكرياً عقائدياً - يرفض كل علاج يقضي على مشكلة ما لم يكن منتزعاً عنه.

3- أن تتوفر لديه (الضمانات) التي تكفل للإنسانية صدقه وصوابه عند الله وفي رأي الإسلام، لأن مجرد الاقتباس من مصادر الشرع الإسلامي، لا يغني لإثبات حقيقة دينية، بل لا بد من توفر (ضمان) يؤكد واقعيتها.

4- أن تتوفر المصادقة الشرعية على كافة مرافقه.

5- إسلامية الفلسفة التي تستقي منها جذور الحركة، لأن المعالجات تختلف باختلاف الفلسفات النظرية حول الحياة والإنسان والإسلام.

ولكنك لو تمعنت في شرطه الثالث - الضمانات - قد يتبادر إلى ذهنك لأول وهلة، أن كثيراً من الحلول بمفاهيمها المؤطرة، سواء وجدت طريقها إلى الساحة الإسلامية - كمسلمين - أو على النطاق العالمي كالإيمان بالديمقراطية المطلقة، حلول أو مفاهيم مقنعة، تجلب أنظار التواقين إلى الحرية الرافضين لأشكال الاستعباد واحتكار الرأي والقرار، فلماذا لا يؤخذ بها إذا كان المعيار هو تحقيق السعادة أو الوصول إلى ساحل الحرية والرفاه بأمان؟ يجيب السيد الشهيد على ذلك فيقول:

(لا نكون واقعيين إذا اتخذنا (الإقناع) ضمان الحق والصدق في تقرير المصير أو في أي شيء. والإسلام لا يعتبر (الإقناع) ضماناً:

1- لأن الإقناع لا يكون له معنى ما لم يكن بين (مجتهدين) بالغين مبلغ (الاجتهاد الشرعي) الذي يعبر عنه في الفقه بـ (الاجتهاد المطلق)، وفي غير الفقه بـ(الخبرة) أما (الإقناع) الذي يكون أحد طرفيه، أو كلاهما غير (مجتهد) فلا يصح إطلاق (الإقناع) عليه: بمحتواه الاصطلاحي، بل يكون من نوع (إقناع) المجانين والأطفال.

2- لأن (الإقناع) يكون بالحق وبالباطل، وما أكثر الناس إلا (مقنعين) و(مقتنعين) بالباطل ولن يعترف الإسلام - ما دام ديناً فكرياً واقعياً - بـ(ضمان الإقناع) الذي يخرج بأكثر الناس في الباطل. ولو اعترف الإسلام بضمان الإقناع، لاعترف بـ(الديمقراطية المطلقة) التي تعتمد على (الإقناع الحر)، ولاعتبر كل مؤمن بباطل محقاً يدخل الجنة مع الأنبياء والصديقين، ولاعترف بجميع آراء الفلاسفة المارقين الذين يبنون آراءهم عن اقتناع...

على أن الإقناع ليس ضماناً واقعياً، لأن من الهين إقناع كثير من الناس، بكل كذب وزور... فالإقناع ليس ضماناً في نظر الإسلام، وإلا لبطل الإسلام كله، وليس ضماناً في نظر الواقع، وإلا لصدق السوفسطائيون في بطلان الحقيقة وإنكار كل شيء.

وإذا سقط ضمان الإقناع، وجب الضمانات التي تثبت حقيقة دينية، أن تكون نفس الأمور التي قررها الإسلام، ضمانات لإثبات الحقائق الدينية).

وعلى هذا، فإن من وجهات النظر الفلسفية حول الحياة والإنسان والإسلام، تترشح النظريات والرؤى، وآليات التعامل مع كل مفردة من مفردات الكون، وتحدد طبيعة العلاقات والنظم الاجتماعية والسياسية وغيرها. ولا شك أن حشر أو الباس أي مفهوم، وممارسة أي آلية في ضمن المفاهيم المستوحاة من روح المبدأ وصميم العقيدة إنما يخالف الطبيعة التي رسمها المبدأ، والمنهجية التي وضعتها العقيدة على أساس الإيمان المطلق بالمبدأ.

ثم يتطرق السيد الشهيد إلى الاتجاهات التي حاولت معالجة المشكلة الإسلامية المعاصرة، فيتعرض إلى مجمل المفاهيم السائدة في نظمها، فيأخذ بطريقة النقد والتحليل لصياغة رؤيته الإجمالية عن طبيعة تفاعلات هذه الاتجاهات ومقوماتها، إلا أنه ينتقل بالأذهان بطريقة التوعية الفكرية إلى مفاهيم يتشدق بها دعاتها، وربما كانت بذاتها استعارة خفية تسللت إلى مناهجهم السياسة وسرت في مجمل أساليبهم على الرغم من تناقضها الفاضح مع طبيعة اعتقادها.

فالديمقراطية مثلاً (غير مستوحاة من الإسلام، لأن الديمقراطية، منهج سياسي يحدد طريقة الحكم، وليس نظاماً داخلياً، يختلف مع الإسلام في قوانينه الداخلية أو يتفق، فيتلخص مفعولها في جعل الشعب مصدر السلطات، وإلغاء المصادر الأخرى، ومؤدى ذلك: ترك حرية شرع النظام وتنفيذه للشعب - المتمثل في الأكثرية -).

وكذلك القيادة في طبيعتها الرابطة بين المبدأ والإنسان، فإن الإسلام يرى أن القيادة الإسلامية (لا تتمثل إلا فيمن تكاملت منه مؤهلات (مرجع التقليد) وطريقة تنصيبه ليست الانتخاب والاختيار الكيفيان، وإنما تتحقق بإثبات توفر تلك المؤهلات فيه، فهو لا يحتاج إلى أكثر من التمييز والتعرف عليه، بواسطة تحكيم (أهل الخبرة) الذين لا يحق لهم استخدام صلاحياتهم إلا في مجرد التحديد والبيان). وعلى ذلك فإن (القيادة الإسلامية لا يجوز لأحد توليها، إلا بنص صريح من المعصومين (ع) - لأن - الإسلام يحرم التصدي للقيادة إلا لمن تشمله النصوص... بأن يكون نبياً أو وصياً أو مرجعاً. لأن الله تعالى، لم يجعل لإنسان على آخر سلطاناً ولو برضاه، وحرم الاستغلال والتسخير، وعلى هذا الأساس يحرم - القيادات - بكلتا صورتيها: الديموقراطية النابعة من رضا الناس والدكتاتورية المتفرعة من الاستغلال والتسخير، فكيف بالتصدي للقيادة الإسلامية، وعلى خلاف ما قرر الإسلام، فإنه من اغتصاب الخلافة الذي وعد الله عليه أشد العذاب).

ويزيد السيد الشهيد في تحليله إلى أن التقاء الحركات الفكرية، والسياسية، والاقتصادية والدينية مع الإسلام في بعض مبادئها أو أهدافها أو أساليبها لا يختلف عن تفرقها عنه (لأن التقاءها ليس التقاءً هادفاً يفصح عن حقيقة مشتركة - بحيث - يكون نابعاً من وحدة الاتجاه، وإلا فالخطوط المتقاطعة تلتقي في بعض النقاط، فهل يكون دليل وحدتها؟).

فالإسلام (الذي يرضي به الله ورسوله مجموع متداعم متجاذب، لا ينفرط منه جزء، ولا يتطرف جزء. فكل مزايدة في هذه الحركات، مزايدة بلا ثمن) وحتى أن (حركة الأعمال الفردية) فالنجاحات والمكاسب التي قد تحررها (لا تدل إلا على الصدف العمياء التي قد تلمع في الأجواء المرتبكة، بلا قواعد ومقاييس، إلا قواعد ومقاييس العوامل الخفية التي لا تخضع للعاملين في حقول الأعمال الفردية، والصدف لا تستحق أن تكون قاعدة للحركات الفكرية العقائدية، التي تستهدف الدنيا والآخرة في كل لفظة وخطوة وتصميم).

وبعد مناقشات تفصيلية ومحاورة فكرية يضع السيد الشهيد (التنظيم المرجعي) في دوره القيادي للأمة الإسلامية، مستدلاً عليه في أكثر من موضع في كتابه كقيادة شرعية امتدادية لقيادة النبي2 والأئمة المعصومين (ع) ضمن النظام التكويني الطبيعي.

 

قيادة الفقهاء المراجع

يمثل هذا المشروع الذي يطرحه السيد الشهيد (ره)  في صفحاته الأخيرة، خطاباً فكرياً توعوياً. حمل كتابه عنوانه (كلمة الإسلام). فبعد أن استبعد كل الحلول المطروحة على الساحة الإسلامية عن تصوراته، عاد إلى نظمه الفكرية وخزينة المعرفي ليضفي على محاولة التصحيح. الإصلاح قدرة الإسلام على استعادة الثقة (المتزعزعة) وللنهوض بالأمة وفق المشروع الإسلامي الذي عبر عنه في أكثر من موضع بأنه (يرضي الله تعالى ونبيه (ص) والأئمة (ع)، لإيمانه المطلق وثقته العالية ووعيه المميز المتمثل في قدرته على تشخيص (المشكلة الإسلامية المعاصرة).

ففي معرض طرحه لهذا النوع من القيادة - قيادة الفقهاء المراجع - يتعرض إلى هيكليتها الإدارية المتألفة من قمة وجهاز وقاعدة، فالقمة تتمثل في المرجع الأعلى، والجهاز يؤدي دور مجلس الوزراء، بينما القاعدة هي مجموعة الأمة، التي تقلد ذلك المرجع.

ثم يذكر السيد الشهيد تفرعات هذا الجهاز، وطريقة إيصال الوعي الديني - بكل أبعاده - من المرجع الأعلى إلى الأمة، وبذلك تتحقق (زعامة المرجع الأعلى)  في ظل تنظيم واحد باتجاه واحد هو اتجاه الفقهاء المراجع.

والمرجع الأعلى هو (رجل رشحته مؤهلاته لهذا المقام، وازدلف حوله كل فرد من المسلمين، لا كرهاً، بل إيماناً وثقة بشخصه. وله (إدارة منظمة) ولكن غير مسلحة إلا بالطاقات المعنوية والكفاءات الدينية - وإن كانت لا تأبى عن استخدام السلطات الزمنية، لتولي القيادة الحكومية للأمة، إن أتيحت لها، غير أن وجودها الفعلي أعزل لا يلتجئ إلى العنف - وإنما تكونت لتكون مجرد أداة رابطة بين المسلمين والمرجع، حتى أن المسلمين يطيعون أفراد هذه الإدارة، لأنها تعبر عن المرجع لا خوفاً منها أو ثقة بها، بحيث لا يوجد رصيد شعبي لهذه الإدارة، وإنما الرصيد كله لشخص المرجع، حتى أن تلك الإدارة لو تخلت - بكاملها - عن المرجع، لا ينهار أي جانب من شعبيته، وإنما يملك أن يؤلف إدارة أخرى، وفي أية لحظة شاء يستطيع إلغاء كافة الإدارة، وتنظيم إدارة جديدة دون أن يحتاج في تنفيذ هذه الإدارة إلا إبلاغها إلى المسلمين، ومن غير أن يتأزم عليه الموقف بصورة تغضها إطلاقة واحدة).

ومن هذا المنطلق يبدو أن المحاولات الأخرى التي يذكرها السيد الشهيد والتي حاولت الإجابة عن (المشكلة الإسلامية المعاصرة) لا تمتلك هذا النوع من القيادة الذاتية التي لا تتوقف في وجودها على غيرها، فهي قيادة تتمتع بقوة ذاتية منقطعة النظير، تدير دفة القيادة الدينية للأمة، بلا حماية ولا سلاح، كقيادة النبي (ص) والأئمة الأطهار (ع) فهم قادة وإن تخلى الناس عنهم، لم ترتبط مناصبهم القيادية بقواعد هرمية تفنى بمجرد الإخلال في عناصر تركيبتها.

ولعل من أبرز ما تتصف به هذه القيادة هي (العلم) و(العدالة) فلا يشغل مرافق هذه القيادة الحركية سوى الفقهاء العدول الذين هم قمم البشرية، في المواهب الفكرية والجدارات النفسية، ولا يحق لأحد تولي (تنظيمهم القيادي الأعلى) عدا أعلمهم وأورعهم، الذي يكون أعلى القمم البشرية الحية، في طاقاته الفكرية، وإمكاناته النفسية... وهذا النوع من القيادة العلمية العدالية ينسجم مع سجية الإسلام، المفطورة بالعلم والعدالة، لأن الدين الذي يتفوق على كل مبدأ ودين، بالعلم والعدالة، لا يمكن أن يغفلهما في قيادته.

الخاتمة

لم تختلف مسيرته (ره) في الجهد والعمل الفكري والمثابرة في أي من مفاصل حياته الدينية والفكرية والسياسية، فكل مسيرته عبير آفاق الشجاعة والبطولة والحماسة والإقدام الذي عشقه وترجم ممارسته الهادفة - عقلاً ومنطقاً - إلى السمو والارتقاء في رحاب الإسلام العظيم، فهو يرى (أن الشاب المتحمس المندفع، الذي لا يستطيع أن يصمد مع الحق في الأزمات، ويترك مركزه كفرد مسلم عليه مسؤولية الإسلام، إن وجد المناصب والرواتب في الجانب المناوئ للإسلام، هو انتهازي مائع، ينهار أمام الإرهاب، وينجرف مع الإغراء، وسيكون في المطاف الأخير نصيب الشيطان، ولا يصلح أن يكون عضواً في حركة إسلامية تحارب كل ميوعة وانتهازية، ويحاربها المستعمرون والعملاء، بالإغراء والإرهاب.

إنها تحتاج إلى رجال أشداء، تزول الجبال عن مراسيها ولا تساورهم الرِيَب والشكوك، رجال من نوع علي وأبي ذر وعمار. فإن وجد نظائرهم، أو من يدأب على سنتهم يعود الإسلام على أيديهم إلى الحياة مهما قلّوا. وإن وجد عبّاد المناصب والرواتب، وأصحاب الصخب والضوضاء فلن ينتصر بهم، وإن كانوا أكثر من زبد البحر (فأما الزبد فيذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)(4).

فالمتصفح لمسيرته (ره) يلتمس مشاركة فاعلة في التأسيس الفكري والعلمي، صدقاً ومصداقاً لحركة الإسلام الواعية، رغم تعقيد الظروف المحيطة به وتهافت المستوى العقيدي العام، وفقدان الثقة ذاتاً أو تعويلاً على أنواع التصديات السافرة منهما أو المستترة.

حماسة ثائر أبى إلا أن تعانق روحه روح من استفاضت قبله حتى تلقى رصاصات العابثين صارخاً:

في كل شبرٍ للرجال مجازر       وبكل دار صرخة الأيتام

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.


(1) قبس من ذاكرة الشهيد الشاهد، حيدر مصطفى عبد الكريم،  مجلة النبأ- العدد 61 - السنة 7، جمادى الثانية 1422هـ.

(2) سورة الأحزاب: الآية 62.

(3) سورة الذاريات: الآية 56.

(4) سورة الرعد: الآية 17.