انتهت قبل ايام فعاليات جزء من المراسم الحزائنية التي تقام منذ
الف عام بمناسبة عاشوراء في العراق وبقاع اخرى من مختلف انحاء
العالم.. وهي مجموعة نشاطات جماهيرية تحيي مناسبة دينية مهمة.. تم
فيها قتل شخصية اسلامية عظيمة تنتمي الى رسول الله محمد بن عبد
الله عليه الصلاة والسلام، ألا وهو الحسين بن علي بن ابي طالب
عليهما السلام وآل بيته واصحابه الابرار (رض) في مدينة كربلاء عام
(61هجرية) من قبل السلطات الغاشمة آنذاك.
وقد اتخذت هذه المراسم اشكالاً متعددة غالبها ذات طابع فني،
ومضمون سياسي لتصبح وبشكل غير مباشر تظاهرات واحتجاجات على الاوضاع
السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك كانت تسقط عروش الطغاة على
مر العصور. وهذه المراسم بطابعها الفني، وماتستخدم من آليات لعرض
الواقعة، تُعتبر من اعرق الممارسات الجماهيرية اعداداً وتنظيماً
وتنفيذاً.. اي ان جميع الموارد البشرية والمالية هي من عمليات
التطوع، والتبرع، دون تدخل الدولة والسلطات في كل مكان وزمان..
لذلك تعتبر من اهم نشاطات المجتمع المدني التي تحث على الممارسة
الجماعية إضافة الى كون نشاطاتها جميعاً تعتبر غير نفعية، وهما أهم
مبدأين في عمل منظمات المجتمع المدني.
وقد حرصت الاجيال المتعاقبة جيل بعد جيل على توارث اقامة هذه
المراسم.. سواء في تنظيم مواكب العزاء، ام احياء المجالس الحسينية،
ام اقامة المشاهد التمثيلية لواقعة الطف، وهي الواقعة التي قتل
فيها الامام الحسين عليه السلام وعلى آل بيته واصحابه رضوان الله
عليهم.
وليس الفن وحده حاضراً في هذه المراسم، بل الادب من خلال
الخطابة والشعر، وفن الالقاء والوعظ الديني، كما تسهم البيوتات
والمواكب في اعداد الطعام على مختلف اشكاله ويتم تقديم الخدمات
المجانية للمشاركين في تقديم العزاء.. بحيث تستطيع هذه الخدمات
شمول الملايين من الناس.. سواء في الاطعام والاسكان او الخدمات
الاخرى، منها الصحة والتنقل.
وتعتبر مراسم عاشوراء من اكبر المهرجانات العالمية نسبة الى
عدد المشاركين بها، والمساحة الزمنية التي تقام فيها خلال شهري
عاشوراء وصفر، وهما من الاشهر الحُرم عند المسلمين. كما ان الحزن
الذي يخيم على طبيعة هذا المهرجان يجعل منه فريداً، حيث ان معظم
المهرجانات في العالم تعبر عن حالات الفرح مهما كانت المناسبة
حزينة، كالابادات الجماعية للشعوب والثورات الدموية.. لذلك تميز
"مهرجان الحزن" هذا بالتعبير عن حالة فريدة من "الاجرام" التي مرت
بها البشرية، تم فيها قتل مجموعة من الناس بسبب الرأي، وعدم تقديم
الولاء للسلطات.. فكانت الواقعة مصدر الهام للكثير من الثوار في
العالم.. منهم المهاتما غاندي الزعيم الهندي الذي تأثر بشكل مباشر
بواقعة كربلاء، وجسد المفاهيم والآليات التي اتبعت في ثورة الحسين
بن علي عليهما السلام خير تجسيد في تحرير الشعب الهندي من العبودية
والاستعمار، تحت مبدأ "انتصار الدم على السيف".
والمتابع المنصف لمراسم عاشوراء، وغيرها من المراسم التي تقام
في العراق وغيره من البلدان الاسلامية، خلال مناسبات دينية عدة
يلاحظ الرسالة العميقة، والمضمون الخفي لهذه الفعاليات ذي الوظيفة
الاعلامية، والتي يصر الناس على احيائها رغم معارضة ومقاومة
السلطات لها على مر التأريخ.. واصرارهم أيضاً على الطابع السلمي
لها رغم اكتسائها ملون الدم احياناً.. خاصة في مواكب التطبير، فحتى
هذه الدماء التي تسيل من رؤوس الذين يعمدون الى شقها بالسيوف
والقامات، انما هي صرخات احتجاجية على ما حدث عام 61 هجرية وهي
ايذاء للنفس وليس للآخر.. وهذا النوع من الاحتجاج يعتبر حالة
مغالية في حق التعبير، وفي ممارسة الحرية باللجوء الى ايذاء النفس،
للفت الانتباه الى ان وراء هذا الفعل.. "فعل" اشد وقعة واكثر
ألماً، حدث لريحانة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، عندما
قُتل عطشاناً بأرض كربلاء.. لانه احتج على الحاكم آنذاك، بسبب عدم
أهليته ليكون خليفة وإماماً للمسلمين..
وفي نفس الوقت الذي حملت فيه الجماهير هذه الرسالة الى جميع
انحاء العالم.. فأن الواقعة نفسها شهدت جدلاً سياسياً انحاز فيه
البعض الى معسكر الطغاة، وبدأ يغذى باتجاه معاكس لنبل الرسالة،
وتوجهها، وبدأ يشيع بأن ما حدث هو عبارة عن معركة حصلت بين جيش
يزيد ومجموعة من الخارجين على النظام، مع غسل دماغ واضح بطمس شخصية
الامام الحسين عليه السلام، وانتمائه الى آل رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم.. وطمس "الجرمية" التي تمت، واعتبار ذلك انتصارا
للخليفة على معارضيه.. وقد توارثت هذه المدرسة السلطات الغاشمة،
وحفنة من الوصوليين وعبدة السلطان من رجال الدين. فوقفوا ضد هذه
المراسم بما فيها منع زيارة الامام الحسين عليه السلام. او منع
اقامة المراسم بشكل علني، خاصة في زمن الطاغية صدام، حيث حجمت
وتقلصت بشكل كان الهدف منه القضاء عليها بشكل نهائي.. كما وصلت
الممارسات المعارضة لها الى اعتقال المساهمين بهذه المراسم، ومثل
هذا حدث في زمن الدكتاتورية. او القتل وما حدث من تفجيرات في
كركوك، وواسط، وبغداد، وديالى.. وغيرها من المدن أثناء إقامة هذه
المراسم خلال هذا العام، والاعوام السابقة شاهد على وقوف تلك
المدرسة البائسة بالضد من وصول الرسالة الى الاجيال الحالية
واللاحقة.
إلا ان سقوط النظام كان إيذاناً لأن تأخذ مراسم عاشوراء إطارها
الكامل والواسع، بحيث بدأت تنتقل من المحلية الى العالمية، وذلك من
خلال عدد المواكب التي ساهمت في إحيائها حيث بلغت اكثر من (6000)
ستة آلآف موكب، منها مواكب من لبنان، والبحرين، وسورية، والهند
والباكستان، وامريكا، وتركيا، والسعودية، وبريطانيا، وايران وغيرها
من الدول التي وفد منها المسلمون الى كربلاء لهذا الغرض. |