* (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما
خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن
المنكر).
* (أيها الناس، إن رسول الله قال: من رأى سلطاناً جائراً،
مستحلاً لحرام الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله،
يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر ما عليه بفعل ولا
قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله... ألا وإن هؤلاء قد لزموا
طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا
الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله...
وأنا أحق من غير).
* (ويزيد فاسق فاجر، شارب للخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن
بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله).
* * * * *
هذه النصوص الثلاثة المروية عن الإمام الحسين (عليه السلام)
تسلط الضوء على الأسس العقائدية لثورة عاشوراء، وآفاقها الإصلاحية
في الجوانب "الإيمانية والاجتماعية والسياسية".
فعندما تظهر البدع، ويحلّل حرام الله ويحرّم حلاله، وتهدّد
المصالح العامة للأمة بإعادة الروح الجاهلية إليها، من خلال تعميق
القبلية والعرقية والعشائرية، وتمزيق وحدة المسلمين بإثارة النعرات
القومية والعنصرية بين العرب وغير العرب، وبالتمييز القومي
والطبقي.
وعندما ينتشر الظلم والاضطهاد والقتل على الشبهة والظنّة،
وعندما ينكّل بالأحرار وأصحاب الرأي وكل من يطالب بإقامة العدل
ونبذ الظلم ورفض الطغيان، فيقتلوا ويسحلوا وتقطع ألسنتهم وتسمل
عيونهم.
وعندما تختلس أموال الناس وتصرف على اللهو والعبث والفسوق،
وينام المسلمون على الجوع والحرمان، فيما أموالهم توزّع على أقارب
الحاكم وحواشي المسؤولين وتشترى بها الضمائر والذمم.
عندما يحصل ذلك، وما زالت رسالة الإسلام طرية العود، ومن يقود
الحرب على قيم الإيمان والإنسان، هو يزيد الطاغية الفاجر الذي
اغتصب الحكم بالمكائد المارقة والمؤامرات الغادرة التي حبكها أبوه
معاوية، مستفيداً من عوامل قبلية وعشائرية، وضغائن وأحقادٍ جاهلية
بدرية وأحدية، ساعده عليها من قوّاه وأغناه عندما سلّطه على رقاب
الناس وعيّنه والياً على الشام وفلسطين، حيث استكبر وتجبّر وأسس
هناك مشروعه للدولة الكسروية.
ثم إنه بغدره والمال الحرام، وبفعل ركائزه الجاهلية الأموية في
المدينة والعراق، استطاع التمرد على خليفة المسلمين الشرعي،
بموازاة ذلك، فإن خنوع "جل" المجتمع وميله إلى الهوى، مكنه من شراء
ضمائرهم وسهل له تنفيذ إنقلابه. فإذا وصل إلى الحكم، بعد صلح
مشروط، نقض الصلح، وبطش وأرهب وقتل، وفرّق بين الناس، ونكّل بهم
وقتل خيارهم وقرّب شرارهم، وأسس مدرسة الكذب في الحديث، فإذا شارف
على الموت جعل الحكم لولده يزيد... إرثاً عائلياً!!. وآخر أعماله
الإجرامية أن ورث يزيد حاكما على المسلمين وأميرا للمؤمنين؟!.
عندما يحصل ذلك كلّه.. لابد من قرار كبير ومشروع عظيم وتضحية
جسيمة!!!
قرار الثورة
إذن، بعد خمسين سنة من انتصار عقيدة الإسلام على الشرك والكفر،
وبعد أن ارتفعت راية العدالة والمساواة بين البشر على أساس التقوى
والقرب من الله، وبعد أن أكمل الله للأمة دينها وأتم عليها نعمته،
نظر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى حال الأمة فرأى انقلاباً أخذ
يعمّ في أرجاء الأمة، ابتداءا من بنيتها الفوقية الحاكمة إلى ما
دون ذلك، فالحاكم يزيد بن معاوية فاسق، فاجر، ظالم، يجوّع الناس
ويصرف أموالهم على ملذاته وعلى الرشا وشراء الضمائر، ويضطهد
المسلمين، ويثير النعرات العشائرية، ويقتل المؤمنين، ويحرّف رسالة
رب العالمين، فيعطل الحدود ويحلّل الحرام ويحرّم الحلال.
والناس بين ساكت وخائف ومتردّد وراضٍ، وشريك ليزيد في أفعاله،
إما لعصبية وإما لرشوة باع بها دينه بدنياه، ولم يذكر التاريخ عن
هذا "الخليفة المتهتك" أنه صلى أو صام أو حج أو زكى، غير أنه كان
جل وقته يقضيه في اللهو والمجون، واللعب مع الكلاب والقرود،
والاستئناس بدماء ضحاياه.
والذي زاد الطين بلّةً، أن هذا يزيد الجائر الذي نال الخلافة
بالغدر والوراثة، وإن مورثه قاتل الصحابة والمؤمنين، لم يكن
يستحقها أصلاً، فهي كهبة من لا يملك لمن لا يستحق، هذا الفاسق يبعث
إلى الإمام الحسين (عليه السلام) المعصوم، المنصوص على إمامته من
الله ورسوله يطالبه بالبيعة!! فكأنّه يطلب منه إذن الموافقة على
تضييع الإسلام، وإرجاع المسلمين إلى الشرك والجاهلية، والخنوع
للجور والظلم!
أمام هذا الواقع المتردي والوضع الخطير، فإن الإمام الحسين
(عليه السلام) أمام موقف وحيد هو الثورة، وبالتالي، فإن واقعة
عاشوراء لم تكن ثورة عفوية، كما لم تكن موقفاً سلبياً مأزوماً، ولم
تكن دفاعاً مجرداً عن النفس، بحيث أن الإمام الحسين لو تُرك
لتَرَك، بل كانت – استراتيجياً - دفاعاً عن الإسلام أحكاماً وقيماً
ووجوداً، وفي الوقت نفسه، كانت كربلاء – تكتيكياً - هجوماً
وإقداماً إلى موقع القتل والقتال.
وبعد ما كان أصل الموقف واضحاً، جاءت دعوة أهل الكوفة له (عليه
السلام)، فأضافت إلى أسس الثورة حافزاً جديداً طارئاً، ولو لم يكن
أساسياً، فحتى لو لم يدعوه أهل الكوفة، فإنه حتماً سيرفض البيعة،
ويأمر بالمعرف وينهى عن المنكر، ويقوم بما قام به من الثورة، وإن
ما قامت به دعوة أهل الكوفة هو أنها، حدّدت للثورة زمانها:
عاشوراء، ومكانها: كربلاء. وهذا التحديد وفق "المفهوم البشري"،
وإلا فإن عاشوراء قد ذكرت في التوراة والإنجيل، وبين تفاصيلها رسول
الله (صلى الله عليه وآله) للمسلمين.
وبالتالي، فإن الإمام الحسين (عليه السلام) عمل بتكليفه الشرعي،
وأبى أن يبيع رأيه ومعتقده، فقد كان همه الإصلاح في أمة جده
المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإزالة كابوس الظلم والاضطهاد القابع
على رؤوس المسلمين.
أبعاد أخرى
في كربلاء، قال الإمام الحسين (ع): (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى
عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي...). والسؤال: لماذا أكد الإمام
الحسين (عليه السلام) السير بسيرة جده وأبيه بعد أن ذكر الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر؟
بعبارة أخرى: لا أريد أن أسير بسيرة فلان وفلان وفلان،
(الثلاثة)، فقد مرّ على قوله هذا، حوالى خمسون عاماً بعد شهادة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولم يحكم فيها أحد بسيرة المصطفى
(صلى الله عليه وآله) سوى علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لم
يستطع، خلال مدة خلافته، تطبيق كامل سنّة رسول اللهً (صلى الله
عليه وآله)، بسبب ما أحدثته سنّة (الثلاثة) من تبديل في أحكام
الله، وتأزيم واقع الناس، حتى أنّه (عليه السلام) كان كلما أراد أن
يطبّق سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) صرخ الناس (وا سنّة
عمراه)!!
وهكذا فقد أراد الإمام الحسين (عليه السلام) تنبيه الأمة إلى
أنه يريد السير بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيرة أبيه
علي بن أبي طالب لا بسيرة أي رجل آخر.
إن الانحراف الذي كان في يوم شهادة الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله)، قد أصبح في حكم يزيد بن معاوية شاسعاً فاقعاً، فجاءت
واقعة عاشوراء بعد أن ابتعد فيه نهج الخلافة – مطلقاً - عن سنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأصبح الانحراف مريعاً، والفساد
قد ساد في الأمة ونخر مفاصلها.
لذا، بعد أن استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) زار وفد من
المدينة دمشق، بعد واقعة عاشوراء، يريد معرفة الأسباب التي أدت إلى
هذه المجزرة البشعة من فم "خليفة رسول الله"!! وقد عاد الوفد إلى
المدينة، ليكشفوا للناس عن حقيقة "خليفة رسول الله" يزيد، وقصوره
وفسقه ومجونه، ثم نصحوا الناس بالقول: "أنتم في حلٍّ من بيعة هذا
الفاسق الفاجر".
وبعد أن تكشفت تفاصيل ما جرى في كربلاء، من عدوان على الله
ورسوله وأهل بيته، وإراقة الدماء الطاهرة، وما تبع ذلك، من هتك
للحرمات والعمل بالإثم، والتجاوز على حدود الله، أدرك المجتمع مغزى
قول الإمام الحسين (عليه السلام) بقوله: (ريد أن أسير بسيرة جدّي
وأبي) أو بقوله (وعلى الإسلام السلام إذ بليت الأمة براعٍ مثل
يزيد).
فكان بعد استشهاد الإمام السبط (عليه السلام)، والهزة التي
أيقظت وعي العالم الإسلامي، أن شرعت الأمة بالتحرك، وأخذت تدرك ما
كان قد خفي عليها، وكان الإمام الحسين(ع) قد رآه من قبل، وقد نصح
وحذّر. وبعد واقعة عاشوراء أدرك الناس ما قاله آخر ابن بنت نبي على
وجه الأرض، وصاروا يقولون إن الحق معه، لكن ولكن بعد أن أكلت فتنة
بني أمية الأخضر واليابس.
إن أحد أهداف الإمام الحسين (عليه السلام) بثورته الخالدة هو
تحفيز الأمة - من بعد غفلة وخمول قد شل حركتها – للتغيير والإصلاح
لتحقيق التقدم والرفاه والارتقاء. لقد أراد (عليه السلام) أن يبث
فيهم روح الإسلام بمعانيه السامية كالصدق والإيثار والعفاف
والفضيلة والوقوف بوجه الظالم ونصرة المظلوم.
وأراد (عليه السلام) أن ينقذ سفينة الإسلام التي بناها محمد(ص)
وسار بها علي بن أبي طالب (عليهما السلام) ليرجع الحق لأصحاب الحق،
ويخلص المظلومين والمحرومين والمستضعفين من الطغمة الأموية المريضة
بإجرامها وأحقادها وضغائنها.
وأراد (عليه السلام) أن يوصل صوته في زمن ثورته تلك على أن
يستمر مع كل الأزمان... فهل من سامع "اليوم" وهل من معين وناصر؟!!
http://alshirazi.com/ |