يحمِلُ كلّ واحدٍ من المشاركين في مسيرة الاربعين المليونية،
رسالة، بل رسائل، ورِثها من عاشوراء، ومن أجل انْ يُحسن أداءها
عليه ان ينتبه اليها ويذكرها ويعيشها، ليس خلال فترة المسيرة فحسب،
وإنما في سلوكيّاته اليومية.
ولعلّ واحدة من أهمّ رسائل المسيرة هي رسالة السّلام، فعلى
الرغم من ان عاشوراء كانت حدثاً دموياً أُريقت فيه دماء مقدسة لآل
بيت رسول الله (ص) على يد نظام سياسي فاسد، استبدّ بالسلطة فصادر
الحريات وقمع الحقوق وضخّم الواجبات لدرجة التأليه، مع ذلك، فان
جوهر رسالة كربلاء هو السلام، فالحسين (ع) استُشهد لنحيا بسلام.
ان مسيرة الاربعين هي احدى اعظم المسيرات المليونية في العالم
التي تحمل رسالة السلام، ولو كانت البشريّة التي ابتليت اليوم
بظواهر العنف والارهاب والحرب والقتل والتدمير، قد انتبهت الى
معاني المسيرة وجوهر رسالتها، لعثرت على الحلّ الجذري الذي يحقن
الدم ويحترم حقوق الانسان ويشيع السلام في المجتمعات وبين الشعوب
والامم.
لنوظّف مسيرة الاربعين في تكريس ثقافة السّلام في مجتمعنا،
والاّ، فعندما نمتلك الحسين (ع) ثم نعيش الخوف والرعب والفساد
والجريمة المنظّمة والعنف والارهاب، فهذا يعني ان هناك خللٌ في
الفهم والمعتقد والوعي، اذ كيف نجمع في الشخصية الواحدة بين الحسين
(ع) والخوف؟ او بينه وبين الجريمة؟ او بينه وبين الفساد؟.
ان الفترة الزمنية التي يعيشها المرء في اجواء المسيرة
المليونية وهو ينعم بالسلام ويتحسسه ويشعر به، يلزم ان يدفعه
للتساؤل؛
كيف يمكنني ان احوّل هذا الشعور المؤقت الى دائم؟ وكيف يمكنني
ان أساهم في إشاعة السلام في المجتمع كثقافة وممارسة وسلوك، لنقضي
على كل ظواهر العنف وصور الدم المسفوك ظلماً وعدواناً؟.
الم يقلْ أمير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الأشتر
لمّا ولّاه مصر:
{إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا،
فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ
لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة،
مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ
مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا
مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ
سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ
وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ} فلماذا اذن استرخصنا
الدماء واستهنّا بالأرواح والأنفس؟.
لا شكّ ان السبب الاول والاهم الذي أنتج كل ذلك هو الثقافة،
ثقافة العنف التي تطبَّع عليها المجتمع حتى كادت ان تختلط بلحمه
ودمه، فلو انه تعلم من عاشوراء ثقافة السلام لما شهدنا كل مناظر
العنف هذه.
فكيف نشيع ثقافة السلام؟.
أولاً؛ اعتماد لغة الحوار في الاسرة، ليتعلّمها الأطفال صغاراً
فيتطبّعوا عليها كباراً.
لنحذر من قمع الطفل ونهره اذا أراد ان يتكلم او يبدي رأيا،
فالقمع يصنع منه شخصيةً اما مهزوزة او جبانة او انتقاميّة، عنفيّة.
ثانياً؛ في المدرسة، وهي محطّة التربية والتعليم الاولى التي
يتوقف عندها ابناءنا وبناتنا، قبل ان نحوّلهم الى المجتمع، فلا
ينبغي ان يكون العنف والقسوة والغِلظة وسيلة من وسائل التعليم
أبداً، لانها تُنتج من الطالب شخصية عنفيّة معقّدة وربما عدوانية.
ثالثاً؛ في الفكر والثقافة، اذ يلزم ان نتسلّح بثقافة التعددية
والتنوع والتعايش وتقاسم الحقيقة والرفق واللين، ورحم الله المرجع
الشيرازي (قدس سرّه) الذي طالما سمعتهُ يؤكد على ضرورة نبذ العنف
حتى باللّسان، او ما كان يسمّيه بالعنف اللّساني، لانّه بداية كلّ
عنفٍ باليد والجوارح.
يجب علينا جميعاً ان نواجه الفكر التكفيري الذي بدأ يسري شيئاً
فشيئاً الى صفوفنا من الارهابيين، بالفكر الإنساني الأصيل الذي
عماده {وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ،
وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ
عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ
صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِيرٌ لَكَ
فِي الْخَلْقِ} لان الفكر التكفيري أساس كلّ عنف وارهاب، وهو الذي
يُنتج ثقافة الكراهية واحتكار الحقيقة وعدم الاعتراف بالآخر.
رابعاً؛ في السياسة والحكم، فلا ينبغي توظيف العنف والارهاب في
العملية السياسيّة أبداً، كما ينبغي محاربة الفساد الذي يُعتبر
الارضيّة الخصبة التي ينمو بها العنف والارهاب، وعلى حدّ قول معتمد
المرجعية العليا خطيب الجمعة في العتبة الحسينية المقدّسة، فان
الفساد المالي والاداري هو أساس الارهاب الذي يشهده اليوم العراق.
وخيراً يفعل رئيس مجلس الوزراء الدكتور العبادي اليوم عندما
يصارح العراقيين بالحديث، وبكل شفافية ووضوح، عن الفساد الذي ورثه
من سلفه، ومدى تغلغله بمؤسسات الدولة، خاصة في المؤسسة الأمنية،
والتي كان آخرها اماطته اللثام امام نوّاب الشعب عن الكشف عن (٥٠)
الف منتسب (فضائي) في المؤسسة العسكرية، وهو رقم أولي تم الكشف عنه
بلا تحقيق او تدقيق، على حد قوله، لشدة وضوح الامر!.
وانا هنا أطلب من مجلس النوّاب ان يمارس واجبه الدستوري
باستدعاء (القائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع والداخلية
والأمن الوطني السّابق) الى جلسة علنية امام عدسة الكاميرا ليطّلع
عليها الرأي العام العراقي، لمساءلته عن كلّ هذا الفساد الذي ينخر
في المنظومة الأمنية، ولماذا تستّر عليه؟ ولمصلحة من؟.
ينبغي ان لا يفلت فاسد من عقاب، وان لا يهرب متستّر عليه من
مساءلة وملاحقة، فعقاب اللصوصية لا يسقط بتقادم الزمن ولا يحميها
الموقع الرسمي ولا ينبغي ان تتستّر عليها عملية تبادل المواقع،
وصدق امير المؤمنين عليه السلام الذي يقول {أَيُّها النَّاسُ،
إِنّي رَجُلٌ مِنْكُمْ، لي ما لَكُم وَعليَّ ما عَلَيْكُمْ، وإنّي
حامِلُكُم على منهجِ نبيِّكم، ومنفِّذٌ فيكم ما أَمرَ بهِ، الا
وانّ كلَّ قَطيعةٍ أَقطعها عُثمان، وكلّ مالٍ اعطاهُ من مالِ الله
فهو مردودٌ في بيتِ المال، فانَّ الحقَّ لا يُبطِلُهُ شئٌ، ولو
وجدتهُ قد تُزُوِّج بهِ النساءُ ومُلِك بهِ الاماءُ وفُرِّق في
البلدانِ لرَدَدْتُهُ، فانَّ في العدْلِ سَعَةٌ، ومٓنْ ضاق
عَلَيْهِ العدْلُ فالجورُ عَلَيْهِ أضيق}.
نَحْنُ بانتظار ان تُعيدَ الحربُ على الفساد قطعِ الاراضي التي
وزّعها السّلف رشىً على عُصبته من الاهل والأقارب والمحازبين
والمصفّقين والنفعيّين و (المستشارين) والمطبّلين والأبواق التي
لازال بعضها يديرُ له عدداً من المواقع الاليكترونية ومواقع
التواصل الاجتماعي بأسماء ومسمّيات مختلفة، وكذلك المال العام الذي
وزّعه في البلدان.
[email protected] |