شبكة النبأ: بعد اغتيال أمير
المؤمنين، عليه السلام، وهو في محراب مسجد الكوفة، ساد الظن بسهولة
الانقضاض على مقاليد الأمور في الأمة، فقد كان علي ابن أبي طالب،
البطل المغوار في سوح القتال، والكرار غير الفرار، وكان في الوقت
نفسه، المسؤول العطوف والحنون على أصغر وأضعف فرد في المجتمع،
والأهم؛ كان "القرآن الناطق" وصاحب الكلمة التي "دون كلام الخالق،
وفوق كلام المخلوق". وصاحب ميزان العدل والحق والفضائل.
كل شيء كان مهيئاً لتحويل الدولة الاسلامية الى "مملكة" بقوانين
خاصة، لا علاقة لها؛ لا بشرع السماء، ولا بالقيم الانسانية، فقد
كان معاوية، قد خبر أهل الكوفة الذين يتشكل منهم الجيش الذي اعتمده
الامام علي، وخلفه في ذلك ابنه الحسن، عليه السلام، وعرف نقاط
الضعف والثغرات القاتلة فيه.
المؤرخون والباحثون يشيرون الى عوامل هزيمة جيش الكوفة في أول
تشكيلة له على يد أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما نزلها قادماً
من المدينة، لقتال "الناكثين"، من اصحاب "الجمل"، ثم "المارقين"،
اصحاب معاوية، ثم "القاسطين"، من الخوارج. أهم تلك العوامل؛ التنوع
الأثني، حيث كان المجتمع الكوفي متشكلاً من أحياء وحارات تسكنها
قبائل من الفرس ومن عرب الحجاز ومن اليمن وغيرها، والأهم؛ عدم
تبلور الهوية والرؤية العقائدية لهم، مما يدفعهم للقتال والتضحية،
إذ لم يمض على تشييد المدينة بالاساس، سوى خمسة عشر سنة. في مقابل
هذا المجتمع المفكك والجيش الفاقد للمعنويات القتالية، نلاحظ جيش
الشام، الذي كان يضم اضافة الى اهل البلد، عناصر من جيش الروم
المحترفين للقتال، والذين اسلموا خلال الفتوحات الاسلامية. فكان
هؤلاء، مع اهل الشام الأصليين، تجمعهم نقطة واحدة، وهي الطاعة
المطلقة للقيادة، وهو ما استفاد منه معاوية وجعله اليد الضاربة
التي قصمت ظهور الكوفيين.
إذن؛ ما العمل في هذه الحالة...؟
مسار الاحداث والظروف الاجتماعية والنفسية تتجه الى تراجع النهج
الرسالي – المحمدي أمام المد الأموي – السلطوي، فالامام الحسن،
عليه السلام، الذي تسلّم مقاليد الأمور بعد استشهاد أبيه، عليه
السلام، كان يعلم علم اليقين بحقيقة اهل الكوفة، وما صنعوه بأبيه
من قبل. لذا كان الخيار ليس الحرب والمواجهة في الميدان، إنما
المواجهة والحرب على صعيد النفس والضمير. فكانت الثورة... وكانت
الهزّة العنيفة في النفوس للتنبيه من الواقع الفاسد، وفي مرحلة
تالية؛ محاربته والسعي الدائم لإزالته. وهكذا كانت الخطوة
التاريخية التي اتخذها الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، بتنازله
عن الحكم والقيادة السياسية (الظاهرية)، عندما اتسقت كل الامور
لمعاوية ونظام حكمه.
بعض الباحثين يرون في قضية "الهدنة" انتصاراً لمعاوية من
الناحية السياسية والعسكرية، وأن أهل الكوفة تسببوا في هزيمة جيش
الامام الحسن، عليه السلام. مع أن الاعتقاد الثاني صحيحاً، فان
الاول غير صحيح، لأن الانتصار بمعنى حصول هزيمة في الجبهة
المقابلة، التي لم يكن يمثلها أهل الكوفة وحسب، إنما الامام الحسن،
ومعه أخيه الحسين، واهل البيت، عليهم السلام، وخيرة الاصحاب و
الاتباع، وهذا مجافٍ للحقيقة والواقع. فقد أدى الامام الحسن، عليه
السلام، من خلال إمامته القصيرة، وفي تلك الظروف العصيبة
والاستثنائية، أعظم دور نهضوي في طريق الرسالة المحمدية، بل كان
الممهد للنهضة العارمة والانفجار الثوري الذي حصل في أرض كربلاء،
وهذا ما يؤكده عديد الباحثين والعلماء، ومنهم سماحة الامام الراحل
السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ثورة الامام
الحسن"، حيث يؤكد أن "دور الامام المجتبى، عليه السلام، كان حساساً
وصعباً اكثر من دور سيد الشهداء، عليه السلام، لان الامام الحسن،
كان عليه أن يهيئ الارضية الصالحة للنهضة المباركة، وقد قام الامام
الحسين، بتلك النهضة الحقّة...". وفي مواقع آخر يقول سماحته: "ان
مسؤولية الامام الحسن، عليه السلام، كانت أصعب وأهم من مسؤولية
الامام الحسين، عليه السلام...".
من هنا؛ يمكننا القول أن الامام الحسن المجتبى، عليه السلام،
نجح وانتصر في احداث اختراق وهزّة عنيفة في داخل الدولة الاموية،
وايضاً في داخل المجتمع الاسلامي بشكل عام، والكوفي بشكل خاص.
بمعنى أن الخطوة الذكية التي اتخذها الامام، عليه السلام، كانت على
خطين متوازيين:
الاولى: على صعيد الحكم.
فقد تمكن الامام، عليه السلام، من تسليط الضوء على ثغرات ومساوئ
الامويين وفضح حقيقتهم امام الناس، بعد أن كان معاوية يبذل الجهود
والاموال والدهاء والمكر، لصرف الانظار والاذهان والقلوب عن اهل
البيت، عليهم السلام، بعد ان يصورهم في الاذهان على أنهم ليسوا
أهلاً في تولّي أمر الامة، وأنه الاجدر والافضل لهم. ولعل قصة ذلك
الشامي الذي فوجئ بخبر استشهاد أمير المؤمنين في محراب المسجد،
لأنه كان يعتقد جزماً أن الامام لم يكن من المصلين...!
هذا الطريق الذي حفره الامام لمعاوية، لم يكن له مخرج سوى
الهاوية، لانه يعكس ويمثل النهج والسلوك لدى الامويين، فكان إفصاح
معاوية لأهل الكوفة عن نواياه ودون وجل او خجل، حيث قال: "يا أهل
الكوفة...! أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج...؟! إنما
قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم
كارهون. ألا وإن كل مال او دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط
شرطته فتحت قدمي هاتين..."! وهذا ما كان يتوقعه الامام الحسن ،
عليه السلام، بحذافيره.
الثاني: على صعيد المجتمع والأمة
إن التغيير والإصلاح الذي ينشده أهل البيت، عليهم السلام،
والتزمه الامام الحسن، عليه السلام، لا يتوقف على على فضح الفئة
الباغية والجهة المعادية، لأن هذا نصف الطريق، إذ لابد من إعداد
الطليعة المؤمنة في المجتمع، وبناء العناصر المخلصة التي من شأنها
ان تكون الشرارة التي تفجر الثورة تحت ركام الواقع الفاسد.
إن وجود الصفوة المخلصة والكوكبة التي لم يظهر لها مثيل في
التاريخ، في أرض كربلاء سنة (61) للهجرة، يفند القول بأن الامام
الحسن، عليه السلام، تعرض لهجران كبير من قبل الاصحاب المقربين،
بعد تنازله لمعاوية في "الهدنة". وقد تقوّل بعض المؤرخين والباحثين
على الصحابي الجليل حجر بن عدي الكندي، بأنه هو القائل للإمام
الحسن، "السلام عليك يا مذل المؤمنين"! وهو الصحابي الذي قال عنه
رسول الله، صلى الله عليه وآله: "يقتل بعذراء سبع نفر يغضب الله
لهم وأهل السماء". نعم؛ إن الجهود الصامتة والمضنية التي قام بها
الامام الحسن، عليه السلام، وهو يضغط على جراحه النفسية العميقة،
هي التي خرجت امثال حبيب بن مظاهر ومسلم بن عوسجة و برير وغيرهم من
ابطال كربلاء.
من هنا؛ نعرف حجم الدور الكبير الذي قام به الامام الحسن، عليه
السلام، في إنضاج النهضة الحسينية وبلوغها مرحلة الانتصار على
الواقع الفاسد وعلى كل المفاهيم والقيم الزائفة ومحاولات الانحراف
التي سعى اليها الامويين ومن يتبعهم على مر التاريخ. وهذا يجعلنا
نقف وقفة إجلال وإكبار أمام هذه الشخصية العظيمة ونرفع شيئاً من
المظلومية والاجحاف التي لحقت بها من البعض، كما نقف الموقف ذاته
أمام الامام الحسين واصحابه واهل بيته، فهؤلاء سقطوا بالسيف في
قتال أعداء الدين في كربلاء، بعد أن سقط إمامنا الحسن، عليه
السلام، مسموماً، مظلوماً، ثم دُفن بعيداً عن الاضواء في مدينة
جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله. |