عندما نقرأ ـ ويقرأ معنا الملايين من الناس ـ زيارة الإمام
الحسين (عليه السلام)، فإننا نجد العبارة التالية تتألق، كما يتألق
البدر في أفق السماء: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ،
وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ، وَأَمَرْتَ بِالْـمَعْرُوفِ، وَنَهَيْتَ
عَنِ الْـمُنْكَرِ، وَأَطَعْتَ اللَهَ وَرَسُولَهُ...)، فلنتوقف
عند مقطع من هذه العبارة: (أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ
الصَّلَاةَ) قليلاً.
لقد أقام الإمام الحسين (عليه السلام) الصلاة بحدودها حقاً
وصدقاً، وهذا هو ما نشهد به على امتداد الأزمان: (أَشْهَدُ أَنَّكَ
قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ)، والسؤال هو: ما هي حدود الصلاة؟.
وكيف أقام الإمام الحسين (عليه السلام) الصلاة؟.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام): (للصلاة أربعة آلاف حد)، وفي
رواية أخرى (للصلاة أربعة آلاف باب(1).
فما هي تلك الحدود؟.
لقد تحدث علماؤنا الأبرار حول ذلك، منهم الشهيد الثاني (رضوان
الله تعالى عليه)([2])، وهو ذلك العالم الكبير الذي استشهد على يد
الاستبداد والطغيان والحاكم الدكتاتوري في زمانه، وكان من أعظم
علماء البشرية على الإطلاق، فقد كتب كتابين حول حدود الصلاة:
الكتاب الأول: أسماه (الألفية)، تطرق فيه إلى ألف حد من حدود
الصلاة.
الكتاب الثاني: أسماه (النفلية)، وفيه تطرق إلى الثلاثة آلاف حد
الأخرى من حدود الصلاة.
وبذلك تتم الأربعة آلاف حد للصلاة، منها ألف حد هي الواجبات،
وثلاثة آلاف حد هي المستحبات في الصلاة.
فإذا أراد الإنسان أن يكون مقيم الصلاة حقاً، فعليه أن يلتزم
بإقامة الصلاة بحدودها: ألف حد من الواجبات، مثل: الطهور، القبلة
النية وتكبيرة الإحرام، والركوع والسجود والتشهد والقيام والتسليم
بأجزائها وشرائطها وغير ذلك من الواجبات في الصلاة. كما يفضّل له
أن يلتزم بالثلاثة آلاف مستحب أيضاً.
وهذا مما يؤكد عظمة علمائنا الأبرار، كما يؤكد حقيقة أن العلم
يجب أن يؤخذ من أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، والدليل
أننا لن نجد مثل هذا العلم الغزير وهذه الأربعة آلاف حدّ، في غير
مدرسة الرسول الأكرم وأهل بيته الأطهار (صلوات الله عليهم). فقد
اقتبس علماؤنا الأبرار علومهم من أنوار أهل البيت (عليهم السلام)،
فكتبوا مثل هذه الكتب الرائعة.
وبما أن الصلاة هي مظهر علاقة هذا المخلوق بالخالق العظيم، فإذا
أراد الإنسان أن يكون مرضياً عند الله سبحانه وتعالى، فعليه أن
يأتي بالصلاة بحدودها المذكورة في أحاديث أهل بيت العصمة (صلوات
الله عليهم أجمعين).
وسوف نتحدث بإيجاز عن بعض حدود الصلاة، إذ أن استيعاب البحث عن
كل الأربعة ألاف حد للصلاة يحتاج إلى مئات، بل آلاف الساعات من
الوقت، كما أننا سوف نقتصر على الروايات الواردة عن الإمام الحسين
(عليه السلام) دون الروايات الأخرى.
الحدّ الأول: الوضوء
من حدود الصلاة الوضوء، أي إسباغ الوضوء، وهو أن تأتي بالوضوء
بتمامه وكماله أيضاً، والحديث طويل حول إسباغ الوضوء، لكننا نكتفي
بإشارة عابرة.
كيف علّم الحسنان (عليهما السلام) الشيخ الكبير
ونبدأ بالحادثة التي حصلت للإمام الحسين وأخيه الحسن المجتبى
(عليهما الصلاة وأزكى السلام)، لنقرأ بعض دلالاتها في هذا المضمار،
وقد كانا (عليهما الصلاة وأزكى السلام) في ذلك الوقت من الناحية
الظاهرية طفلين صغيرين، ربما في سن الرابعة أو الخامسة من العمر،
لكنهما هما مَن هما: سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما
أنهما سيدا شباب أهل الجنة.
لقد شاهد الحسنان (عليهما السلام) شيخاً كبيراً لا يحسن الوضوء،
ومن المحتمل أنه لم يكن يحسن بعض الواجبات، كما يحتمل أنه لم يكن
يحسن المستحبات، ولعل الأول أرجح.
فجاء الإمام الحسن والحسين (عليهما الصلاة وأزكى السلام) إلى
ذلك الشيخ الكبير، وحرصا أن لا يجبهاه بخطئه، أو بعدم إكمال إسباغ
وضوئه، ذلك أنه رجل كبير السن، وقد تأخذه العزّة بالإثم، أو قد
يحسّ بانكسارٍ نفسي، عندما يرشده طفل إلى الوضوء الصحيح، ويجبهه
بالقول: إن وضوئك باطل أو ناقص، لذا ابتكرا (عليهما السلام) طريقة
رائعة، تجسدت في اللجوء إلى أسلوب حواري رائع لإيصال البلاغ إلى
الشيخ الكبير.
وهكذا وقفا بالقرب من الشيخ، وقال كل منهما للآخر: أنت لا تحسن
الوضوء.
والعبارة الواردة في الرواية هي: (أَنْتَ لَا تُحْسِنُ
الْوُضُوءَ)([3])، فما هو المقصود منها؟.
ها هنا عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: إن المقصود منها المراتب السامية جداً، التي قد
تكون خاصة برسول الله (صلى الله عليه وآله)، أي أنه ليس المقصود من
(الإحسان في الوضوء) حتى الدرجات التي هي قلما يصل إليها الأولياء،
بل خصوص الدرجات الخاصة بالمعصومين (عليهم السلام)، على حسب درجات
فضائلهم ومشككية تلك الدرجات، بل خصوص الدرجة الخاصة برسول الله
(صلى الله عليه وآله).
الاحتمال الثاني: وهو أن يكون الأمر كله في مقام التعليم، وإذا
كانت التورية بحد ذاتها جائزة حسب رأي المشهور، فكيف إذا كانت في
مقام التعليم؟!.
الاحتمال الثالث: إن السن لم يكن سن التكليف، فتأمل. وهناك
أجوبة أخرى على هذا التساؤل.
الاحتمال الرابع: ولعله الأظهر، وهو أن الراوي نقل كلامهما
(صلوات الله عليهما) بالمضمون، ولم تكن الجملة (أَنْتَ لَا
تُحْسِنُ الْوُضُوءَ)، ولعل كلاً منهما قال: (وضوئي أحسن من وضوئك)
مثلاً.
الاحتمال الخامس: أن تكون القضية بنحو القضية الخارجية، والمراد
في هذه الحادثة الجزئية المصداقية، التي سنقوم بها أمام الشيخ
(أَنْتَ لَا تُحْسِنُ الْوُضُوءَ).
الاحتمال السادس: أن يراد (لَا تُحْسِنُ) باللحاظ الاستقلالي لا
الآلي، أي لا تحسن بذاتك، وإنما إحسانك للوضوء هو بتعليم الله
تعالى.
والمهم أن الإمامين (عليهما السلام) طلبا من ذاك الشيخ أن يكون
حكماً، ويرى أيهما أحسن وضوءاً. فتوضأ أمامه وكلاهما أحسن وضوءه،
فالتفت الشيخ إليهما وقال: (كِلَاكُمَا تُحْسِنَانِ الْوُضُوءَ،
وَلَكِنَّ هَذَا الشَّيْخَ الْـجَاهِلَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ
يُحْسِنُ، وَقَدْ تَعَلَّمَ الْآنَ مِنْكُمَا)([4]).
دروس وعبر من قضية الحسنين (عليهما السلام)
وهنا بعض المحطات، التي تستدعي منا التوقف في هذه الرواية على
بساطتها الظاهرية، وهي في واقعها دروس حياة:
الدرس الأول: التعامل بالحكمة والموعظة
الحسنة
يقول تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ
وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ)([5])، فعندما يرى الإنسان منكراً
في المجتمع، عليه أن يتحرّى أفضل السبل للنهي عنه بالحكمة والموعظة
الحسنة، وذلك من خلال الحديث الأبوي أو القصة والموعظة، وباللطف
والمحبة، وعدم التشهير به أمام الناس، وأيضاً الحديث معه على
انفراد، وغير ذلك من الأساليب التي تنطبق عليها (الحكمة والموعظة
الحسنة)، ولذا نجد ذلك الشيخ الكبير يقول للحسنين (عليهما السلام):
(كِلَاكُمَا تُحْسِنَانِ الْوُضُوءَ، وَلَكِنَّ هَذَا الشَّيْخَ
الْـجَاهِلَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ يُحْسِنُ، وَقَدْ تَعَلَّمَ
الْآنَ مِنْكُمَا).
الدرس الثاني: التعاون
الإمامان الهُمامان ـ وهما طفلان ـ يعلماننا قيمة التعاون، فقد
تعاونا للإرشاد بطريقة مهذبة ولطيفة إنسانية، ومعنى ذلك أن على
الإنسان أن يراعي شعور ومشاعر الآخرين إلى أبعد الحدود، وأقصى
الحدود.
الدرس الثالث: الرحمة
جاء في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده لمالك الأشتر:
(أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ)([6]). والرحمة هنا
ـ لذلك الشيخ الكبير ـ كانت عبر اختيار طريقة لا تشعر الشيخ بأدنى
درجات الحرج، ولذا نجد ذلك الشيخ الكبير يقول للحسنين (عليهما
السلام): (وَقَدْ تَعَلَّمَ الْآنَ مِنْكُمَا، وَتَابَ عَلَى
يَدَيْكُمَا بِبَرَكَتِكُمَا، وَشَفَقَتِكُمَا عَلَى أُمَّةِ
جَدِّكُمَا).
الدرس الرابع: العمل كفريق
يُبحث في علم الإدارة اليوم عن فكرة (العمل كفريق)، وقد وضح لنا
الإمامان الحسنان (عليهما الصلاة وأزكى السلام)، وبتصوير حقيقي
ورمزي في آن واحد، قيمة العمل كـ (فريق)، وقد يكون الفريق مؤلفاً
من شخصين، وقد يكون مكّوناً من مئة شخص، لكن المهم أن يتعلم
الإنسان، أن يعمل ضمن فريق وليس بشكل فردي، بل ضمن المجموع، وضمن
العمل المؤسساتي.
الدرس الخامس: الإتقان
الإمامان الحسن والحسين (عليهما الصلاة وأزكى السلام) يعلماننا
الإتقان في العمل، والإتقان في الإرشاد، فقد تحقق الإتقان في تعليم
إسباغ الوضوء، وهو من حدود الصلاة، فقاما به خير قيام، رغم أنهما
كانا طفلين صغيرين من الناحية الظاهرية، وبعد ذلك الإتقان في إرشاد
الآخرين.
وهنا نتوقف عند نقطة علمية قيّمة، تعرفّنا جانباً من عظمة
الصلاة، وجانباً من عظمة حدود الصلاة، وجانباً من مغزى عمل الحسن
والحسين (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، في أنهما أحسنا الوضوء
تعليماً لذلك الشيخ الكبير.
الوضوء ومسارات الطاقة
إن هذه القضية لم تكن محدودة ومقتصرة على ذلك الشيخ الكبير، بل
هي درس للأجيال عبر التاريخ، فقد سُجلت وكُتبت، وكان الغرض منها أن
تسجل وتكتب، لتكون لنا عبرة، ومدرسة تلهمنا كل تلك الدروس الآنفة
الذكر: الإتقان في العمل، والحكمة، والرحمة، والعمل كفريق،
والتعاون وغيرها من الدلالات.
وحتى يزداد الناس إيماناً على إيمانهم، نشير إلى هذا الدليل
العلمي على فوائد إحسان وإسباغ الوضوء، فإن العلم الحديث كلما تقدم
يكتشف جانباً من عظمة الإسلام.
فقد اكتشف العلم الحديث مؤخراً أن الوضوء خاصةً، لو أسبغته بشكل
كامل، كما أسبغ الحسنان (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، فإنه يترك
آثاراً إيجابية مباشرة على مسارات الطاقة في جسم الإنسان، ويقوم
بعملية إصلاح أي خلل فيها.
وهذا العلم يسمى بـ (راديستيزيا)، أو ما يعرف بـ (علم الإحساس
بالطاقة والإشعاع)، وعن فوائد الراديستيزيا في فهم بعض أسرار
الوضوء والصلاة، يؤكد العالم المصري الدكتور إبراهيم كريم، بأن
الطاقة الذبذبية تتجمع وتختزن في مناطق دهون الإنسان، لماذا؟.
لأن الدهون عازلة، تعزل ما في داخل الجسم من رنين، وتتجمع فوقها
أيضاً الطاقة الذبذبية التي علقت في جسم الإنسان خلال الحياة
اليومية، وعند الوضوء وعند غسل مناطق الوضوء ـ وهي تلك الأجزاء
الظاهرة من جسم الإنسان ـ التي تتعرض للطاقة الذبذبية الصادرة عن
الآخرين والأشياء، فإن هذه الذبذبة تسقط مع ماء الوضوء، وهذا هو
أحد أسرار الوضوء في تأهيل الإنسان للتركيز في الصلاة([7]).
ومن المعروف أن أي اختلال في مسارات الطاقة في بدن الإنسان،
يولد القلق، والاكتئاب، والذي بات اليوم يمثل "داء العصر"، ويعاني
منه مئات الملايين من الناس في العالم.
وقد ذكرنا في مقال سابق، إحصائية تشير إلى أن هناك (800) مليون
إنسان في أنحاء العالم مصابون بمرض (الاكتئاب)، والوضوء يعد إحدى
أهم طرق علاج هذا الداء، وهذه الظاهرة بالذات.
الإمامان الحسنان (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، عندما يعلمان
ذلك الشيخ الكبير إسباغ الوضوء، فإنهما في الواقع يعلمان البشرية
بأكملها، كل هذه الدلالات والمضامين الواردة في تلك القصة.
إن إتقان العمل وإسباغ الوضوء له موضوعيته كما له طريقته، وله
جانبه العبادي كما له أثره الوضعي والصحي على بدن الإنسان، وقلبه،
وأعصابه، وتركيز ذهنه، ذلك أنه يحول دون تشتت الذهن، وغير ذلك، إلى
جانب إصلاح الخلل في مسارات الطاقة في بدن الإنسان.
الوضوء والأيونات السالبة
كما أنه ثبت في العلم الحديث أيضاً، أن هناك شحنات من الأمواج
(الكهرومغناطيسية)، والتي تأتي من الغلاف الجوي باتجاه سكان
المعمورة، فتسبب اختلالاً في توزيع الأيونات السالبة والموجبة في
بدن الإنسان، والتي توزعت على سطح البدن، وعلى الجلد، وهذا
الاختلال بدوره يسبب في ظهور حالات القلق النفسي والاكتئاب،
والتشتت في الذهن، وعدم القدرة على التركيز، والإحساس بالإرهاق
الشديد.
وقد ثبت علمياً أن الوضوء يعالج هذا الاختلال، خاصة في حالة
إسباغ الوضوء، كما صنع الإمامان الحسن والحسين (سلام الله عليهما)،
وكما علّما ذلك الشيخ الكبير، وكما أرادا أن يعلماننا أيضاً.
هذه هي دقة الإسلام..! وهذه هي دقة أئمة أهل البيت (عليهم
السلام)، فكم هم دقيقون في الأحكام الإسلامية!.
وذاك لأنهم التجسيد الحقيقي للإسلام، ولذا قال الرسول (صلى الله
عليه وآله): (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثِّقْلَيْنِ: كِتَابَ
اللَّهِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي)([8]).
فكتاب الله هو الذي يحمل المعاني السامية والقيّم المجردة، وأما
أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام)، فهم التجسيد الأسمى لتلك
المعاني السامية، والمناقبيات النموذجية.
والحاصل: إن الوضوء يسهم ـ كما ثبت علمياً ـ في إعادة ترتيب
الأيونات السالبة والموجبة في بدن الإنسان، فيستعيد الإنسان حيويته
ونشاطه.
وهنا نلاحظ أن بعض الروايات يكمل بعضها البعض، مثلاً: هنالك
رواية عن أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي بن أبي طالب (عليه
السلام):(إذا غضبت فتوضأ).
فإذا غضب الإنسان، وكاد أن ينفجر بوجه زوجته أو أولاده، أو
أصدقاءه، فعليه أن يتوضأ.. ذلك أن الغضب هو شعبة من الجنون، لذا
تجد أن صاحبه سرعان ما يندم.
أما إذا لم يندم فسيكون جنونه مستحكماً، وهذا هو ما صرح به أمير
المؤمنين (عليه السلام): (الْـحِدَّةُ ضَرْبٌ مِنَ الْـجُنُونِ،
لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَنْدَمُ، فَإِنْ لَمْ يَنْدَمْ فَجُنُونُهُ
مُسْتَحْكِمٌ)([9]).
إن الله سبحانه وتعالى خالق الكائنات، وهو الذي أودع علم
الأولين والآخرين عند رسوله وعند أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى
السلام)، وهم الذين نقل لهم رسول الله تلك العلوم عبر طرق شتى،
وتدل عليه الروايات الكثير إليه، ومنها: (أَنَا مَدِينَةُ
الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا)([10])، وهكذا إلى سائر المعصومين
(عليهم الصلاة وأزكى السلام).
من هنا كانت دساتير وقوانين الإسلام هي (دليل السعادة) في
الدنيا قبل الآخرة.
الحد الثاني: أداء الصلاة لوقتها
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في نصّ الرواية: (لَا يَزَالُ
الشَّيْطَانُ هَائِباً لِابْنِ آدَمَ ذَعِراً مِنْهُ، مَا صَلَّى
الصَّلَوَاتِ الْـخَمْسَ لِوَقْتِهِنَّ، فَإِذَا ضَيَّعَهُنَّ
اجْتَرَأَ عَلَيْهِ فَأَدْخَلَهُ فِي الْعَظَائِمِ)([11]).
إن جملة (مَا صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْـخَمْسَ لِوَقْتِهِنَّ)،
تعني المبادرة إلى الصلاة والمسارعة إليها، وأن لا يحول بينها
وبيننا أي عمل آخر، من دراسة أو مطالعة، أو تجارة أو اجتماع؛ لأن
هذه هي دعوة الله سبحانه وتعالى، وعلى الإنسان تلبية دعوة الله
فوراً، فإن بيده جل اسمه مقاليد الأمور وتفضيل (العمل) مهما كان
كبيراً على الصلاة، لن يكون فيه البركة، بل تكون نتيجته عكسية
وسلبية.
وفي تكملة الحديث نلاحظ: (فَإِذَا ضَيَّعَهُنَّ اجْتَرَأَ
عَلَيْهِ فَأَدْخَلَهُ فِي الْعَظَائِمِ)، وهي المعاصي الكبيرة، لا
سمح الله وأعاذنا الله وإياكم من ذلك.
إن هذا الالتزام بحدود الصلاة، نجده بأجلى صوره في مدرسة الإمام
الحسين (عليه السلام)، حيث أنه كسائر المعصومين، التزم بالصلاة أول
الوقت طوال عشرات السنين من حياته رغم كل الظروف.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، ظهيرة يوم العاشر من المحرم، ففي تلك
المعركة الحامية الوطيس، حيث الأعداء يحيطون به، وبالخيام، وبأهل
بيته من كل جانب.
فإنه (عليه السلام) بمجرد أن حلّ وقت الزوال، أغض عن المخاطر
وانشغل بالصلاة، وصلى مع نصف جيشه الصغير جماعةً، حسب بعض
الروايات، رغم أن الخطر كان كبيراً جداً، وكانت السهام تنهال عليه
وعلى أصحابه. ـ بأبي هو وأمي وبكل البشرية أيضاً كلنا له ولتراب
أقدامه الفداء ولتراب أقدام حفيده الإمام الثاني عشر الحجة المنتظر
الفداء ـ
إن الإمام الحسين (عليه السلام) صلى بتلك الحالة صلاة الانقطاع
الكامل إلى الله تعالى عن كل ما عداه، ككل صلواته أيضاً، وأعطى
أروع دَرسٍ في العبودية لله عزَّ وجل، رغم تلك المواقف الخطرة
والدواهي العظيمة، وربما يصعب على الكثير منّا حتى أداء الصلاة في
الأهون بكثير من هكذا ظروف، بل قد نذهل عنها تماماً.
إن علينا أن نقتبس الهدى من سيرة إمامنا الحسين (سلام الله
عليه)، فنتعلم منه الالتزام بالمحافظة القصوى على أداء الصلاة
لوقتها، وهذا ما تذكرنا به، شهادتنا له صلوات الله عليه، دوماً بـ
(أَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ).
ثم إن هذا الالتزام ينبغي أن لا يكون بالإكراه، إذ (لَا
إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)([12])، والنبي (صلى الله عليه وآله) لم
يكره أحداً، ولم يغلق الأسواق والدكاكين بالقوة لأداء الصلاة في
وقتها، بل يجب أن تكون هنالك حالة التزام طوعية عند الناس، والقرآن
الكريم يقول: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ)([13]).
الحدّ الثالث: الولاية
الحد الآخر هو الولاية، وهذا الحد يحظى بالأهمية الكبرى، بل له
موقع الصدارة، وهو الولاية لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأهل
بيته الأطهار (عليهم الصلاة وأزكى السلام).
فإذا صليت الصلاة وأنت موالٍ للرسول وأهل بيته، وكنت تكّن لهم
الحب والولاء والودّ، فإن صلاتك ستكون مقبولة عند الله تعالى،
وبغير ذلك فإن الصلاة باطلة.
والروايات في ذلك ليست قليلة، ويكفينا شاهد صدق في قوله تعالى:
(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْـمَوَدَّةَ فِي
القُرْبَى)([14])، فإن أجر تبليغ الرسالة مودة قربى رسول الله (صلى
الله عليه وآله)، وهم علي وفاطمة والأئمة الأبرار من ذريتهم (صلوات
الله عليهم أجمعين).
ومن لم يدفع هذا الأجر فهو خائن، ومثله كمن يستأجر عاملاً ليعمل
عنده ثم يحرمه العطاء، فإذا آمن الإنسان بالله وبرسوله، ولكنه لم
يدفع أجر الرسالة فإنه خائن مجرم ـ والعياذ بالله ـ.
السر في موقف النبي
وهنا نتوقف عند الرواية التالية الغريبة والشهيرة جداً، وهي
متعددة الأسانيد أيضاً، وقد رواها ابن عقدة بسنده إلى أبي سعيد
الخدري، وهي أنه بعدما نزلت الآية: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا)([15])، كان النبي (صلى الله
عليه وآله) يأتي إلى بيت علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم الصلوات
وأزكى السلام) لمدة تسعة أشهر وعند وقت كل صلاة: صلاة الصبح ثم
صلاة الظهر، وصلاة العصر، وحتى صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويرفع
صوته عند باب علي وفاطمة والحسن والحسين ويقول: (الصَّلَاةَ
يَرْحَمُكُمُ اللهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)([16]).
إن الآية الكريمة (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ)([17]) أمر،
يكتفى في امتثاله بالمرة الواحدة، وكان يمكن للنبي أن يكتفي بأمر
واحد، ويكون بذلك قد امتثل الأمر الإلهي بالأمر بالصلاة فلماذا كان
يذهب لهم كل صلاة، ويكرر العبارة والأمر ولمدة تسعة أشهر؟!.
إن ذلك أمر غير طبيعي، وهو بحاجة إلى وقفة تأمّل، فإنه لا يوجد
في الآية أن اذهب إليهم يومياً، واطرق باب بيتهم، ولا اذهب وارفع
صوتك، ولمدة تسعة أشهر عند كل صلاة!.
إن هذا الموقف من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، موقف نادر
واستثنائي بكل المقاييس، خاصة إذا لاحظنا أن النبي الأكرم (صلى
الله عليه وآله) كان مثقلاً جداً بمهام كثيرة وأعمال كبيرة، وكان
رئيس دولة، وقائد أمة، وكانت مسؤولياته جسيمة إلى أبعد الحدود،
وهذا ما يؤكد وجود دلالات كبيرة لهذا الحدث، ومضامين مهمة لهذه
الرواية.
وهنا نتوقف عند عشر دلالات لهذه الرواية الشريفة:
الدلالة الأولى: الذهاب إلى بيت أصحاب
الكساء عبادة
إن الذهاب لبيت علي وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم
أجمعين) في حد ذاته عبادة، وهذا ما يكشف عن نفس عمله (صلى الله
عليه وآله)، إذ ليس من المعقول أن يقوم الرسول الأكرم (صلى الله
عليه وآله) بشيء عبثاً.
فإذا قام (صلى الله عليه وآله) بعمل دلّ على رجحانه، وإذا كانت
خصوصيات ذلك العمل ـ التي هي على سبيل البدل ـ مما يقع بعضها في
طريق الدعوة والإبلاغ، كان اختياره لبعضها دون البعض الآخر دليلاً
على عباديته.
فإذا سلبنا من هذا العمل صفة العبادية، فسوف يكون النبي الأكرم
(صلى الله عليه وآله) قد قام بشيء عبثاً، وهو منزّه (صلى الله عليه
وآله) عن أن يقوم بشيء من هذا القبيل([18]) بل هو ـ بأبي وأمي ـ لا
يقوم بشيء إلا قربة إلى الله سبحانه وتعالى.
ونحن أيضاً إذا ذهبنا إلى بيت الحسين (عليه أزكى والصلاة
والسلام) أو إلى قبره الشريف، أو إلى الحسينيات، أو إلى أي مكان
يذكر فيه اسم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فإننا نقوم بذلك
بعمل عبادي بلا ريب.
الدلالة الثانية: شدة الحب النبوي للبيت
العلوي
يدلنا هذا الحديث على شدّة حب رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم الصلاة وأزكى السلام)؛ ذلك أن
من غير الطبيعي أن يذهب الإنسان باليوم خمس مرات إلى بيتٍ ما
ليذكرهم بالصلاة، مع أن أهل ذلك البيت هم أشد الناس التزاماً
بالصلاة، بل إنهم (صلوات الله عليهم أجمعين) سادة المصلين، وهم
الذين أقاموا الصلاة بحدودها كلها.
إن ذلك مما يكشف عن شدة حب الرسول الأكرم لأهل بيته (صلوات الله
عليهم، فكأنه (صلى الله عليه وآله) يريد أن يكون تذكيرهم بأوقات
الصلاة مثل (الذريعة)، أو الحجة ـ حسب التعبير المشهور ـ حتى يذهب
ويراهم، ويزورهم، خمس مرات كل يوم على الأقل.
ويرشدنا إلى ذلك أن الله تعالى سأل موسى عليه السلام: (وَمَا
تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)([19])، فأطال موسى في الجواب:
(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى
غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى)([20])، مع أن الله تعالى
عالم بكل شيء، لكن كان ذلك من موسى حباً للحديث مع الله سبحانه
وتعالى.
الدلالة الثالثة: جريمة إيذاء أهل البيت
إن هذا الفعل النبوي يكشف بوضوح ـ ودون أي لَبْس ـ عن الحب
الشديد الذي كان يحمله النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) بين
جوانحه لأهل بيته الأطهار، وبالتالي فإن الذي يؤذي أي أحد من أهل
البيت (عليهم السلام)، كمن يؤذي فاطمة (صلوات الله عليها)، أو أمير
المؤمنين أو الحسن، أو الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين) فإنه بذلك
يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه، بل هي جريمة يرتكبها،
وأي جريمة؟!.
فما بالك بالذي يتجرأ على قتل الحسين (عليه السلام)، سيد شباب
أهل الجنة!!([21]).
* فصل من كتاب الإمام الحسين (عليه
السلام) وفروع الدين
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mortadashirazi.htm
.........................................
([1]) الكافي: ج3 ص272 باب فرض الصلاة ح6.
([2]) زين الدين بن علي بن أحمد بن جمال الدين
العاملي المشتهر بالشهيد الثاني. وُلد (رحمه الله) في 13 شوال سنة
911هـ. ختم القرآن وعمره تسع سنين. قرأ على والده العلوم العربية
وبعض الفقه. له تلاميذ أجلاء وله كتب نفيسة جيدة منها: "الروضة
البهية في شرح اللمعة الدمشقية"، و"منية المريد في آداب المفيد
والمستفيد"، و"تمهيد القواعد الأصولية والعربية"، و"شرح شرائع
المحقق الحلي". خلَّف ألفي كتاب فيها مائتا كتاب كانت بخطه الشريف
من مؤلفاته وغيرها. قُتل (رحمه الله) في قصة معروفة لأجل التشيع في
القسطنطنية في يوم الجمعة شهر رجب سنة 966هـ.
([3]) بحار الأنوار: ج43 ص319 ب13 ضمن ح2.
([4]) الرواية نقلها في بحار الأنوار: ج43 ص319
ب13 ضمن ح2، عن عيون المحاسن.
([5]) سورة النحل: 125.
([6]) نهج البلاغة، الرسائل: رقم53-ومن كتاب له
(عليه السلام) كتبه للأشترالنخعي لما ولاه على مصر وأعمالها.
([7]) جريدة تشرين السورية: الصفحة 5 تحقيقات،
العدد 7698 الصادر في يوم السبت 13/5/2000م.
([8]) مستدرك الوسائل: ج7 ص255 ب47 ح8181.
([9]) نهج البلاغة قصار الحكم: رقم255.
([10]) وسائل الشيعة: ج27 ص34 ب5 ح33146.
([11]) وسائل الشيعة: ج4 ص111 ب1 ح4646.
([12]) سورة البقرة: 256.
([13]) سورة الغاشية: 21-22.
([14]) سورة الشُّورى: 23.
([15]) سورة طه: 132.
([16]) بحار الأنوار: ج25 ص212 ب7.
([17]) سورة طه: 132.
([18]) وقد يستدل بالظهور العرفي من ذهابه إلى
بيوتهم على عبادية الذهاب إليها، من غير توقف على الاستدلال أعلاه،
وقد يستدل بارتكاز المتشرعة، ويمكن الاستدلال بالعديد من العمومات
والإطلاقات وغيرها، فتدبر.
([19]) سورة طه: 17.
([20]) سورة طه: 18.
([21]) هذه ثلاث دلالات لهذه الرواية، وهنالك
سبع دلالات أخرى مهمة بل أكثر، منها ما يرتبط بنظرية ومعادلة
(المنعكس الشرطي) في علم النفس، التي ستذكر لاحقاً إن شاء الله
تعالى. |