شبكة النبأ: لا تجد مثلا اقرب الى
التصور والاستدعاء في واقعة عاشوراء، غير العباس ابن علي (عليهما
السلام) ومواقفه في هذه الملحمة.. فهو قد جسد الكثير من المعاني
والقيم الاسلامية في مواقفه البطولية في تلك الواقعة، فقد اثر وفدى
بروحه وجسده اخويه وابنائه واهل بيته، سواءا ما تعلق ذلك منه
بحوادث العطش للماء والارتواء منه، او ما تعلق منها بتلقي الطعنات
والسهام نيابة عن اخيه.
لكلمة الإيثار عدد من المعاني، فهي تعني: (تفضيل المرء غيرَه
على نفسه)
وآثرَهُ فِي بَيْتِهِ: أكْرَمَهُ، آثَرَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ
: خَصَّهُ بِهِ، آثره بسِرِّه: اختصّه به، آثره على نفسه: قدَّمه
واختصَّه بالخير {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ
بِهِمْ خَصَاصَةٌ} والإيثار عند الخصاصة هو بمعنى: بذل المعروف،
والجود ولو بالقليل، عندما يكون الشخص الباذل بحاجة إلى هذا الشيئ.
وفي سبب نزول الاية، إنّ رجلاً جاء إلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلّم) فشكا إليه الجوع فبعث إلى بيوت أزواجه، فقلن ما عندنا
إلاّ الماء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): من لهذه الليلة؟.
فقال علي: أنا يا رسول الله.
فأتى فاطمة، فأعلمها، فقالت: ما عندنا إلاّ قوت الصبية، ولكنّا
نؤثر به ضيفنا.
فقال علي: نوّمي الصبية، وأنا أُطفئ للضيف السراج.
ففعلت، وعشى الضيف، فلمّا أصبح، أنزل الله عليهم هذه الآية:
((وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ)) الآية والايثار في علوم النفس
هو مذهب يرمي إلى تفضيل خير الآخرين على الخير الشخصيّ، وعكسه
الأَثَرة.
زهز ايضا، اتِّجاه اهتمام الإنسان وميول الحبّ فيه نحو غيره
وقبل ذاته، سواء أكان هذا عن فطرة أم عن اكتساب.
ويعرّف الإيثار بانه صفة لتصرف قام به شخص لا يعود بالفائدة
عليه بل على غيره. تفضيل راحة ورفاهية الآخرين على الذات، ويعتبر
تقليد راسخ في عديد من الأديان: في الإسلام والمسيحية واليهودية
والبوذية والكنفوشيسة والهندوسية وغيرها من الثقافات.
والإيثار هو عكس الأنانية، ويختلف معنى الإيثار عن الولاء أو
الواجب. فمفهوم الإيثار يتمركز حول الدوافع التي تقود لعمل الخير
للآخرين دون مقابل، بينما يتمركز مفهوم الواجب حول الإلتزام
الأخلاقي تجاه شخص ما أو منظمة أو مفهوم مجرد (كالواجب الوطني). قد
يشعر البعض بمزيج من الإيثار والواجب، بينما قد لايدمج آخرون بين
الإثنين. الشعور بالإيثار المجرد هو عبارة عن العطاء دون مقابل أو
جائزة أومنافع أخرى.
ينقسم الايثار الى قسمين هما:
إيثار يتعلَّق بالخالق
إيثار يتعلَّق بالخَلْق
ويقسم من حيث الداعي اليه الى قسمين ايضا هما:
قسم يكون الباعث إليه الفطرة والغريزة
وقسم يكون الدَّافع هو الإيمان، وحبَّ الخير للغير، على حساب
النَّفس وملذَّاتها ومشتهياتها.
معنى الإيثار العرفانيّ والفرق بينه وبين المواساة:
قال الشريف الجرجانيّ في التعريفات: المواساة أن ينزل غيره
منزلة نفسه في النفع له والدفع عنه والإيثار أن يقدّم غيره على
نفسه فيهما وهو النهاية في الأخوّة، إنتهى.
والإيثار نتيجة العفّة التي هي من فضائل النفس الأربعة
الكماليّة وشعبة من شعب الجود الذي هو أفضل خلق وسجيّة وأجلّ غريزة
من الغرائز الإنسانيّة ومن أحسن ما تحلّى به هذا النوع البشرّي
المتسلّط على عامّة الأنواع.
قال أحمد بن أبي الربيع في سلوك المالك: والإيثار هو كفّ
الإنسان عن بعض حوائجه وبذلها لمستحقّها، و أن يحدث من تركيب
السخاء مع العفّة الإيثار على النفس.
وقال أبن مسكويه الخازن في تهذيب الأخلاق: الفضائل التي تحت
السخاء: الكرم، الإيثار، النيل، المواسات، السماحة، المسامحة.
وقال رشيد الوطواط في غرر النصائح الواضحة: ويقال مراتب العطاء
ثلاثة: سخاء وجود وإيثار؛ والسخاء إعطاء الأقلّ وإمساك الأكثر،
والجود إعطاء الأكثر وإمسالك الأقلّ، والإيثار إعطاء الكلّ من غير
إمساك لشيء وهذه أشرف المراتب وأعلاها وأحقّها بالمدح فإنّ إيثار
المرء غيره على نفسه أفضل من إيثار نفسه على غيره وكفى بهذه الخلّة
شرفاً مدح الله تعالى أهلها بقوله: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).
فالإيثار مرتبة هي أعلى مرتبة في السخاء ودرجة هي أرقى درجة في
الجود وإذا كان كذلك فمراتب ألإيثار لا تضبط لأنّها نسبيّة وتختلف
بأختلاف الأحوال والأشخاص ويتميزّ منها مرتبتان بالإضافة إلى ما
آثر به وبذله لغيره وهي مرتبة بذلك النفس والإيثار بها وهي أعلى
مراتب الإيثار.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الإيثار على مستويين تبعاً لمدى ترويض
النفس وامتلاك زمامها.
المستوى الأول:
وهو المعبر عنه بالأصغر: الإيثار عن كره بمعنى أن الشخص يحس
بكلفة ومؤونة حينما يؤثر أخاه المؤمن على نفسه وذلك نتيجة لحب نفسه
ومصالحها، وصعوبة رفع اليد عنها في سبيل غيره باعتبار ما لدى
الإنسان من الشحّ كما تشهد الآية (ومن يوق شحّ نفسه...) وهذا
الإيثار هو من أنواع الجهاد مع النفس وثوابه عظيم عند اللَّه تعالى
ما لو تمّ وقدر الإنسان أن ينتصر على حبّه لذاته.
المستوى الثاني:
وهو المعبّر عنه بالأكبر وهو: الإيثار عن طوع ورضا ومحبة ورغبة
نفسية، وهذا أعظم وأثوب من الأول، ولا يكون إلا بعد تربية النفس
تربية كبيرة، فيصل الإنسان نتيجة لصفاء النفس الذي حصل عليه
بالتربية إلى مستوى فقدان الشحّ فيؤثر غيره على نفسه طواعية ولا
يكون ذلك صعباً عليه بل يبلغ من السهولة حد شربة الماء مع الشعور
بالسعادة والراحة.ومما ورد:
«الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان»
وإيثار أبي الفضل العبّاس لأخيه الحسين (ع) يوم كربلاء مثال
شديد الوضوح، والإيثار خصلة حميدة وسجيّة فاضلة من سجايا الكرام
وأخلاق أهل العفة والديانة وأرباب المجد والسؤدد، وكونها من صفات
المدح ممّا لا يرتاب فيه احد.
فالعبّاس الأكبر (ع) حين آثر أخاه الحسين (ع) بنفسه وفداه بروحه
وعلى سبيله سلك شهداء كربلاء فإنّ الجميع آثروا الحسين (ع) بنفوسهم
.
وآثر أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين أخاه الحسين (ع)
بالماء فلم يشربه مع كونه شديد الظمأ فمات عطشاناّ.
إيثار العبّاس للحسين (ع) بالنوعين معاً فإنّه آثره بنفسه وعلى
نفسه: أمّا إيثاره بنفسه فستبين من تضحية نفسه أمامه وقد صرّحت
بهذا أشعاره التي منها:
(نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا)
وأمّا إيثاره للحسين (ع) على نفسه فذاك حين رمى الماء من يده
وقال: لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان مع كونه قد أشرف على
التلف من الظمأ وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:
يا نفس من بعدالحسين هوني
وبعده لا كنت أن تكوني
هذا حسين شارب المنون
وتشربين بادر المعين
قد صرّح (ع) في هذا الشعر أنّه آثر أخاه الحسين (ع) ليس على
سبيل الأرتكاز الجبلّيّ لا بداعي الطبع الفطريّ ولا طاوع فيه الخلق
الغريزيّ وإنّما كان ذلك عن فقه في الدين وعلم بما للمؤثر على نفسه
من عظيم الأجر وبالأخصّ إذا كان الإيثار للإمام المفترض الطاعة ذلك
حيث يقول فيه:
وليس هذا من شعار ديني
ولا فعال صادق اليقين
قال فخر الدين الطريحيّ في المنتخب: لمّا أشتدّ العطش بالحسين
(ع) وأصحابه دعى بأخيه العبّاس وقال له: أجمع أهل بيتك وأحفروا
بئر، ففعلوا ذلك فطمّوها ثمّ حفروا اُخرى فطمّوها فتزايد العطش
عليهم، فقال العبّاس لأخيه الحسين (ع): يا أخي! أماترى ما حلّ بنا
من العطش وأشدّ الأشياء علينا عطش الأطفال والحرم، فقال الإمام
(ع): أمض إلى الفرات وأتنا بشيء من الماء، فقال: سمعاً وطاعة، فضمّ
إليه رجالاً وسار حتّى أشرفوا على الشريعة فتواثب عليهم الرجال
وقالوا: ممّن القوم؟ فقالوا: نحن من أصحاب الحسين (ع)، فقالو: ما
تصنعون؟ قالوا: قد كضّنا العطش وأشدّ من ذلك علينا عطش الحرم
والأطفال. فلمّا سمعوا ذلك منهم هجموا عليهم ومنعوهم، فحمل عليهم
العبّاس (ع) فقتل منهم رجالاً وجدّل أبطالاً حتّى كشفهم عن المشرعة
ونزل فملأ قربته ومدّ يده ليشرب فذكر عطش الحسين (ع) فنفض يده
وقال: والله لا ذقت الماء وسيّدي الحسين (ع) عطشان ثمّ صعد المشرعة
فأخذه النبل من كلّ مكان حتّى صار جلده كالقنفذ من كثرته فحمل عليه
رجل من القوم فضربه ضربة قطع بها يمينه فأخذ السيف بشماله فحمل
عليه آخر فقطعها فأنكبّ وأخذ السيف بفمه فحمل عليه رجل فضربه بعمود
من حديد على اُمّ رأسه ففلق هامته ووقع على الأرض وهو ينادي: يا
أبا عبد الله! عليك منّي السلام، فلمّا رأى الحسين (ع) أخاه قد صرع
نادى: وا أخاه! وا عبّاساه! وا مهجة قلباه! عزّ عَلَيّ والله
فراقك، ثمّ حمل على القوم وكشفهم عنه ثمّ نزل إليه وهو يبكي حتّى
اُغمى عليه، ألخ.
منازل المؤثرين:
أعدّ اللَّه تعالى للمؤثرين درجات رفيعة إضافة إلى النتائج
والثمرات التي يحظون بها في عالم الدنيا تترك بصماتها الخيّرة في
شتى الأنحاء من صفحات وجودهم وامتداد أعمارهم .
يُعفون من الحساب:
فيما روي عن موسى عليه السلام:
«يا رب أرني درجات محمد وأمته قال: يا موسى إنك لن تطيق ذلك
ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع
خلقي.. فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من
أنوارها وقربها من اللَّه عزّ وجلّ قال: يا رب بماذا بلّغته إلى
هذه الكرامة؟! قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى
لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر إلا استحييت من محاسبته
وبوّأته من جنتي حيث يشاء»
يؤثرهم اللَّه يوم القيامة:
في الحديث: «اشترى علي ثوباً فأعجبه فتصدق به وقال: سمعت رسول
اللَّه صلى الله عليه وآله يقول: من آثر على نفسه آثره اللَّه يوم
القيامة الجنة».
لهم جنة خاصة:
يقول الامام الباقر عليه السلام:
«للَّه عزّ وجلّ جنة لا يدخلها إلا ثلاثة إلى قوله ورجل آثر
أخاه المؤمن في اللَّه عزّ وجلّ». |