شبكة النبأ: الانتفاضات
الجماهيرية والثورات التحررية الناجحة، تلك التي توفرت على عوامل
عديدة، تمكنها من تحقيق اهدافها في التغيير الشامل، اهمها العلاقة
الوثيقة والمتبادلة بين القاعدة والقيادة. وطالما كتب الباحثون
والمفكرون في طبيعة هذه العلاقة ومواصفاتها، ومن تقع عليه
السمؤولية الاكبر في التحرك والتفاعل؟. ويتفق معظم الباحثون على أن
القيادة هي المسؤولية عن وضع منهج التغيير وتحديد الوسائل ونقطة
الوصول، وكلما كانت علاقة القائد بجماهيرية أعمق واوسع، كان حجم
التفاعل اكبر، ولن تجارب عديدة من تاريخنا المعاصر، لعل ابرزها؛
الهند خلال فترة النضال للتحرر من الاستعمار البريطاني بقيادة
"غاندي"، فهو المحامي المثقف، بيد أن ساحة المواجهة بين شعبه
المضطهد والمستعبد، وبين قوة عظمى تدّعي انها "لا تغيب عنها
الشمس"، جعلته يخلع الملابس الانيقة، ويحتذي بالناس الفقراء
والمعدمين الذين يسترون اجسادهم بقطعتي قماش، وربما بقطعة
واحدة...! وهكذا كان يتقدم الحشود في المسيرات الاحتجاجية ويقود
حركة التمرد السلمية ضد الاستعمار البريطاني، والنتيجة؛ أن الشعب
الهندي اليوم، رغم التعدد الهائل في طوائفه وشرائحه، يعد "غاندي"
القائد والمحرر.
نعم؛ إن "غاندي" او أي زعيم تحرري آخر، ثبت اسمه في سجل
الناجحين والمنتصرين لشعبه في نطاق بقعة جغرافية معينة، بينما في
كربلاء، وعلى أرض الطف، ثمة قائد ملهم للانسانية والاجيال، في قيمه
ومبادئه، قدم نموذجاً أكمل وأشمل للعلاقة الوطيدة مع انصاره
وجماهيره، بحيث جعلهم يتضاحكون ويستبشرون فيما أسنة الرماح وحد
السيوف في وجوههم، وهم في قلتهم مع كثرة عدوهم.
ها هو الإمام الحسين، عليه السلام، يقدم صورة رائعة للتاريخ
والاجيال، وموقفاً انسانياً عظيماً، عندما كان يراقب اصحابه وهم
يتقدمون الى قتال الاعداء، فما أن يسقط أحدهم شهيداً، حتى يسرع على
جواده ويحضر عنده ويمسح التراب عن وجهه ويأتي به الى المعسكر، ولا
يتركه بأي من الاحوال.
هذه الالتفاتة يذكرنا بها سماحة المرجع الديني آية الله العظمى
السيد صادق الشيرازي – دام ظله- في كتابه "إحياء عاشوراء"، فـ
"الامام الحسين، عليه السلام، - وهو القائد الاعلى-كان يأتي ويحضر
عند رأس الشهيد الذي يسقط من من اهل بيته واصحابه، يحول – ما
أمكنه- دون ان يهانوا بعد استشهادهم بأي نحو من أنحاء الاهانة
المتصورة في الحروب آنذاك".
وينوّه سماحته بأن هذه البادرة تُعد الاولى من نوعها يقوم بها
الامام الحسين، عليه السلام، في واقعة الطف، حيث "أن النبي الاكرم،
والامام علي، صلوات الله عليهما- كانا افضل من الامام الحسين، عليه
السلام، إلا انهما لم يصنعا ذللك حروبهما... فهذه من استثناءات سيد
الشهداء".
لقد حضر الامام، عليه السلام، عند ولده علي الأكبر والقاسم بن
الحسن وأخيه العباس، عليهم السلام، كما حضر عند الاصحاب مثل حبيب
وزهير ومسلم بن عوسجة وغيرهم، وحضر ايضاً عند جون "العبد الاسود"،
و وهب "المسيحي". بل كان الامام يُسرع الى اصحابه في لحظة سقوطهم
على الارض وقبل ان تفارق روحهم الحياة، فكان يجلس عندهم ويضع رأسهم
في حجره ويمسح التراب عن وجوههم – يقول سماحته في كتابه- ويكلمهم
ويدعو لهم، "فأي شعور كان يشعر بهم إذ ذاك...؟ فلم لا يكونوا
تواقين للشهادة، وهم يسلمون الروح في حجر سيد الشهداء..."، كما
حصل هذا مع مسلم بن عوسجة وكان حبيب الى جنبه، عليه السلام، وكما
حصل لجون، مولى أبي ذر، الذي يقول المؤرخون أن الامام، وضع خده على
خده وهو بعد على قيد الحياة.
إن التعبئة المعنوية الفائقة التي يتركه هذا الموقف المشرّف، لا
تقتصر على الجريح الساقط على الارض، وحسب، وإنما تمثل اشعاعاً
نافذاً الى القاعدة الجماهيرية برمتها، إذ ان أي فرد في المجتمع
وفي هذه القاعدة، ربما يكون في عداد الجرحى او الماصبين في بدنه او
في ماله او أي شيء آخر، فعندما يرى هكذا موقف من القائد، يتعمق
لديه الشعور بالمسؤولية والواجب في بذل كل ما يملك لتحقيق الاهداف
المنشودة.
إن الامام الحسين، عليه السلام، وفي السويعات القليلة من
المواجهة التاريخية، قدم لنا معادلة غاية في الاهمية في عملية
التغيير، فأيّ قائد؛ عسكريٌ كان أو سياسي، عليه أن يدرك اهمية
العلاقة النفسية والروحية مع الجماهير بشكل عام، ومع الافراد
المحيطين به بشكل خاص، وحتى الانسان البسيط الذي ربما يقضي له بعض
اعماله في محيط العمل او المنزل. وحسناً قال احد الاصدقاء، بأن
الشجرة كلما كانت واسعة الاغصان، كثيرة الخضرة، ممتدة في الاتجاهات
كافة، كانت أولى وأحرى بأن تظلل من يحتمي بها ويقف تحتها، والعكس
بالعكس تماماً، فالشجرة اليابسة والفقيرة في اغصانها، لن تكون
مفيدة لأحد مهما كان المدّعى والمسمّى. |