من يطالع تاريخ الاستبداد عبر العصور المختلفة، يكتشف أن
المستبدين يتحدثون بنفس اللغة برغم اختلاف الأزمنة والأمكنة،
ويمارسون نفس اللعبة في ترويض الآخرين مع الاستمرار في تحديث
الآليات والتقنيات لتواكب العصر في كل إصدار جديد.
تختصر قراءة ما جرى لمسلم بن عقيل في الكوفة أثناء تأديته
لمهامه سفيرا فوق العادة للإمام الحسين (ع) الكثير من صفحات
التاريخ التي تفيدنا في كشف لغة المستبدين ولعبتهم القذرة. مسلم بن
عقيل الذي جاء للكوفة مبعوثا من قِبل الإمام الحسين (ع) لاستطلاع
الأوضاع فيها عن كثب في ضوء استنجادها بالحسين لتخليصها من ربقة
الجور والطغيان، وإبدائها الاستعداد لبيعته ونصرته.
كان مسلم أحق بالثقة التي أولاها إياه الإمام وأهلها. كان رجلا
مبدئيا بامتياز، فعندما سنحت له الفرصة لاغتيال عدوه اللدود عبيد
الله بن زياد أحجم عن ذلك انطلاقا من كونه ملتزما بالشرع الحنيف،
متذكرا قول النبي (ص): الإيمان قيَّد الفتك، أي منع القتل غيلة
وغدرا.
أما مبعوث الاستبداد ومندوبه السامي عبيد الله بن زياد، فإنه
قام بتوظيف كل إمكانيات لغة الاستبداد التي يتقنها لعزل مسلم بن
عقيل عن الجماهير المتعطشة للحرية والكرامة والعدالة. من ذلك
توظيفه لمجموعة من النفعيين من كبراء الكوفة الذين يتكررون في كل
مقطع تاريخي مماثل. وكان على رأسهم كُثير بن شهاب الذي قام هو
وزمرته بإلقاء الخطابات المثبطة التي تبث الدعاية المسمومة، وتطلق
الوعيد والتهديد لزرع الخوف في نفوس الثوار الذين أحاطوا بقصر عبيد
الله بن زياد. ولا يحتاج خطاب كُثير إلى تمعن في مفرداته لاكتشاف
لغته المستبدة: (أيها الناس، الحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولا
تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت.
وقد أعطى اللهَ الأميرُ عهداً: لئن تممّتم على حربه، ولم تنصرفوا
من عشيّتكم، أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي
الشام، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى له
بقيّة من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جنت أيديها).
كان هذا الخطاب وأمثاله جزءا من الحرب الإعلامية التي أطلقها
ابن زياد حين أصدر أوامره للمرتزقة حوله بالعزف على الوترين
العريقين؛ الترغيب والترهيب: (أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة
الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم
وصول الجُند من الشام اليهم).
حين نفكك لغة الخطابات تلك سنرى كيف تتم عملية إعادة صنع
المفردة الدينية لتكون في خدمة المستبد، كما في (أهل الطاعة) و
(أهل المعصية)، وهنا تكون اللعبة القذرة.
ممارسة اللعبة القذرة
الحوار الذي جرى بين مسلم بن عقيل وعبيد الله بن زياد قُبيل قتل
مسلم يصلح أن يكون نموذجا لممارسة اللعبة القذرة من قبل السلطة
المستبدة وتوظيفها للمصطلحات والمفاهيم الدينية لخدمة أهدافها
وتحقيق مآربها.
يبدأ الحوار بادعاء كاذب يساق كأنه حقيقة من الحقائق لا تقبل
النقاش. يقول ابن زياد مكررا التهمة القديمة الجديدة التي توجه
دائما للمطالبين بالعدالة والكرامة وحقوق الإنسان: إيهٍ يا ابن
عقيل، أتيتَ الناس وهم جميع فشتتَ بينهم، وفرقتَ كلمتهم، وحملتَ
بعضهم على بعض.
هكذا وبكل بجاحة ينسب ابن زياد إلى مسلم تشتيت الصف وتفريق
الكلمة وإحداث الفتنة الداخلية، موظفا الدلالات الإيحائية السلبية
لهذه المفردات في الذهنية العامة، متغافلا عن الأوضاع المأساوية
التي يعيشها الناس بسبب الظلم والجور والفساد.
مسلم بن عقيل كان واعيا لتلك اللعبة ومدركا لغاياتها الشريرة.
لذا لم يتجرع مرارة السكوت الذي لم يكن من ذهب في مثل ذلك الموقف.
رد على لائحة الاتهام بنفيه لها وبيانه لدواعي وأهداف حركته، كاشفا
عن الوجه القبيح الذي يريد ابن زياد تغطيته والتعمية عليه؛ فقال:
كلا، لستُ لذلك أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم
وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناه لنأمر بالعدل،
وندعو إلى حكم الكتاب.
هنا اضطر ابن زياد لاستخدام تقنية أخرى من تقنيات اللعبة
القذرة، تركز على النيل من شخصية المتهم من خلال افتراءات كاذبة
تزعم أن المتهم غير لائق أو مؤهل لما يدعو له من تغيير. قال ابن
زياد: وما أنت وذاك يا فاسق. أو لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت
بالمدينة تشرب الخمر؟
هكذا أراد بخبث ماكر أن يمرر رسالة كاذبة تحط من مسلم وكونه
داعية للإصلاح، فلفق له تهمة الفسوق وارتكاب الكبيرة دون أي دليل،
بل الدليل الثابت على خلافه. ولكنها اللعبة القذرة.
مرة أخرى لم يصمت مسلم على تلك الفرية، ورد عليها ببيان واضح
يستنكر التهمة وينقضها، ويكشف عن ممارسات السلطة المستبدة
واستخفافها بالحرمات. قال: أنا أشرب الخمر!! والله إن الله ليعلم
إنك غير صادق وإنك قلت بغير علم، وإني لست كما ذكرت، وإن أحق بشرب
الخمر مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس
التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام،
ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع
شيئا.
واصل ابن زياد اللعبة، محاولا أن يحرف الكلم عن مواضعه، ويتحدث
باسم الله، فقال لمسلم: يا فاسق إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه
ولم يرك أهله.
تساءل مسلم مستنكرا: فمن أهله يا ابن زياد؟!
أجابه في عنجهية: أمير المؤمنين يزيد.
رد مسلم عليه ردا مفحما: الحمد لله على كل حال رضينا بالله حكما
بيننا وبينكم.
فهم ابن زياد المقصود، فقال غاضبا: كأنك تظن أن لكم في الامر
شيئا؟!
فرد عليه مسلم بضرس قاطع بأنه على بينة من أمره: والله ما هو
بالظن، ولكنه اليقين.
أخيرا، حين يعجز المستبد عن مجابهة المنطق بالمنطق، يلجأ للورقة
التي لا تفارق جيبه أبدا لينهي بها لعبته. قال ابن زياد متوعدا
بابتكار جديد: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في
الاسلام.
فما كان من مسلم إلا أن قال له بكل صمود: أما إنك أحق من أحدث
في الاسلام ما لم يكن فيه. أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة
وخبث السيرة ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحق بها منك.
https://www.facebook.com/Bader.AlShabib |