شبكة النبأ: معروفٌ حاجة الانسان
الى النافذة الواسعة في حياته، يطلّ منها نحو إيجاد بديل أفضل
لحاضره، ثم يستطلع آفاقاً لمستقبله. احياناً تكون هذه النافذة على
شكل ثورة جماهيرية كبرى بشعارات ومبادئ واسعة الابعاد، مثل الثورة
الفرنسية التي جاءت بالحرية الفردية والحريات العامة، فبشرت
الفلاحين والطبقة المسحوقة في المجتمع الفرنسي وسائر المجتمعات
الغربية، بفكرة "الليبرالية" و "حقوق الانسان". ومثل الثورة
البلشفية في روسيا التي جاءت بالاشتراكية وبشرت العمال والفلاحين
بمشاركتهم اصحاب المصانع وكبار الرأسماليين في ملكية وسائل
الانتاج. هذا وغيره، مثل حركة التحرر من الاستعمار البريطاني في
الهند، تمثل مصدر إلهام لكل طموح نحو التغيير والإصلاح والتطور،
لذا نجده يجد نفسه منتصراً في تلك الثورات والتحولات الكبرى، أو
يشعر أن هذه الثورات تنتصر له وتمثل جانباً من طموحه واهدافه في
الحياة.
في العراق يقع كل عام وفي ذكرى أربعين استشهاد الامام الحسين،
عليه السلام، ما يشبه الثورة الجماهيرية، وحركة تغيير تضم ملايين
البشر، فهي تشكل مصدر إلهام، ليس فقط للمسلمين، إنما لغير المسلمين
ايضاً، بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه لأن تتعرض
هذه الشعيرة الحسينية والحدث الجماهيري السنوي، الى محاولات
للتوجيه والتوظيف والاستفادة من الاجواء، لتغذية أجواء أخرى، ربما
تكون سياسية أو أيديولوجية أو حتى اقتصادية. والسبب واضح، في أن
أهل السياسة والفكر، ومن يريد ترك بصمات له في أذهان ومصائر الناس،
يجدون في حركة "المشي" نحو كربلاء، عملية مستمرة لا تتوقف مهما
كانت الاسباب والعوامل، فهي بمثابة الشمس التي كلما كان الاقتراب
اليها اكثر، كان تلقي الحرارة أكثر. وهذا ما يحصل، حيث يزداد
التفاعل الجماهيري سنة بعد أخرى مع حركة "المشي". وهذا تحديداً
مكمن الخطورة التي يستشعر بها هؤلاء، عندما يجدون التفاعل
الجماهيري منصبّ في مسيرة هذه الحركة، لذا لا يسمحون لأنفسهم بأي
حال من الاحوال التخلّف عن هذه المسيرة، فيعلنون أنهم جزء منها، بل
إن وجودهم من وجودها، واستمرارهم في الحياة من استمراريتها.. بمعنى
أنهم لو تعرضوا للتآكل والتصدّع ثم الانهيار، فان زيارة الأربعين،
وما يرافقها من فعاليات ونشاطات، بل سائر الشعائر الحسينية، ستتعرض
الى الخطر!
والسؤال: هل تنجح هكذا محاولة؟ وهل تفلح هكذا عقلية؟
إن اول درس في زيارة الأربعين؛ الاتحاد والانصهار في بوتقة
النهضة الحسينية، وهذا ما تعلمه الزائرون من الامام الحسين، عليه
السلام، الذي يمثل دائماً عامل وحدة وتلاحم لابناء الأمة، وإن جاز
لنا التعبير، فانه عليه السلام، خلق مناسبة أخرى للمسلمين يجتمعون
فيه ويتبادلون همومهم وقضاياهم وطموحاتهم، هي هذه الزيارة ،
والمكان: كربلاء المقدسة، الى جانب مناسبة الحج ومكانها مكة
المكرمة. لذا وجدنا زائرين للإمام الحسين، عليه السلام، يصلون
كربلاء المقدسة من أربع قارات في العالم، وربما نشهد في العام
القادم وصول زائرين من القارة الخامسة، وهي امريكا الجنوبية. وإذن؛
فهنالك سمو وعلو وإشعاع واسع، يدفع الملايين للتقرب والأخذ ما
امكنهم من هذا الشعاع لإنارة دروبهم في الحياة، وهذا يمثل مشهداً
حضارياً رائعاً وباهراً لأمة يجتمع جزء منها، وتتفق كلمتهم على
الاستفادة من مصدر قوة واحدة.
لكن لنلاحظ من يريد أن يكون رديفاً لهذا الاشعاع، ومصدراً
منافساً للإلهام يستقطب من خلاله الجماهير والساحة بشكل عام. انه
يتجه نحو مطبين خطيرين:
الأول: في الجانب الفكري والثقافي الذي يُعنى به. فهو يقرن فكره
واستنتاجاته واجتهاداته بالقضية التي من أجلها ضحى الامام الحسين،
عليه السلام، على افتراض انها مستوحاة من تلك القضية، لكن ربما
يحصل أن تتضح اشكالات وأخطاء في هذه الفكرة أو تلك، بناءً على أن
المفكر او العالم، لن يكون معصوماً بأي حال، هنا يحدث الخلط واللبس
وينعكس فوراً على البنية الثقافية للمجتمع. ومثالنا في ذلك، الحالة
الاسلامية في بلادنا التي شهدت ظهور ما يسمى بـ "الاسلام السياسي"،
تقوده تنظيمات وأحزاب تحمل شعارات اسلامية، لكن الاختبارات
المتتالية مع مرور الزمن كشفت عقم هذه الشعارات وزيف الكثير مما
يدعونه، وكان الناس أول من يدفع الثمن باهظاً، فبات من الصعب عليهم
تصور "إسلام" من دون هذه الحركة أو ذاك التيار أو ذلك الحزب، أو
حتى الشخص..!
المطب ّالثاني: في الجانب الاجتماعي.. حيث تتفرق الأمة الى
جماعات وكتل صغيرة، كل يحمل افكاراً وتوجهات خاصة، ربما تتناقض مع
الجماعة الاخرى، فهذه تمارس طقوساً تُعد مكروهة او منبوذة او حتى
محرمة عند الجماعة الاخرى. نعم؛ الاختلاف، حقيقة حضارية في الأمم
المتقدمة، وهذا يكون في التفاصيل والفروع، وليس في الأصول، لاسيما
وان مجتمعاتنا تنتظر الكثير من الأجوبة على أسئلة حائرة تتعلق
بأوضاعها الاجتماعية والاقتصادية وحتى النفسية، ولا من مجيب.
مثالنا في ذلك؛ حاجة المجتمع الملحّة في إيجاد الصيغة المقبولة
والمقنعة للمرأة والفتاة لأن تلتزم بالحجاب وتتخلّى – في الوقت
ذاته- عن التبرّج وأي عمل يستجلب الانظار، قبل التفكير وإبداء
الرأي في جدوائية مشاركة المرأة في مسيرة "المشي" الى كربلاء
المقدسة. فقد كانت مناسبة الأربعين والحشود الهائلة للنساء
تحديداً، وتجمعهن في مدينة واحدة خلال أيام معدودة، فرصة ذهبية
لأصحاب الكلمة المسموعة من خطباء وعلماء ومثقفون وكتاب وغيرهم، من
أن يسلطوا الضوء على فلسفة الحجاب وفوائده، استلهاماً من مدرسة
عاشوراء ومن النهضة الحسينية. وهذا ربما، يكون عاملاً اضافياً يعزز
تماسك المجتمع ويوحده حول قضية من أكثر القضايا حساسية وأهمية في
مجتمعاتنا الاسلامية.
هنا؛ نتوصل الى نتيجة مفادها، أن المتطاول على الاشعاع الحسيني،
أو من يحاول أن يزاحم الاستاذ في دوره ومكانته، يكشف حقيقته أسرع
مما تكشفه الايام والظروف. ولمن يراجع تاريخنا الحديث يجد هنالك
محاولات عديدة من هذا القبيل، صدرت من حكام وحكومات وجماعات، حاولت
أن تكون المعلم الجديد بـ "واجهة حسينية"، بهدف تحقيق الهدف
والغاية الاساس لهم، وهي قيادة الأمة او شعب معين بما يريدونه
ويفكرون به، لا كما يريد الامام الحسين، عليه السلام. بيد أننا
نلاحظ ارتفاع نسبة الوعي الجماهيري، بحيث يميزون بين مدرسة الامام
الحسين، التي تعلّمهم التضحية من اجل القيم والمبادئ السامية، وليس
من أجل افكار ابتدعها هذا وذاك.. والثورة على الذات لإعادة البناء
الانساني أو إصلاحه وتطويره، وليس تكريس ثقافة حب الذات والصنمية
وبناء المصالح الشخصية. |