فِي الحَلَقَةِ الأُولى مِن هذا المَقالِ، قَدَّمْتُ صُورَةً
مُختَصَرَةً (فَرضَتها سياقَاتُ كتابَةِ المَقالاتِ)، عَن
المَظلومِيَّةِ التَّاريخيَّةِ، لشِيْعَةِ أَئِمَّةِ أَهلِ
البَيّْتِ(ع)، لِتمَسُكِهم بثوابِتَ عقائدِيَّةٍ أَقَرَّهَا اللهُ
تَعالى، وأَكَدَ عليها رَسُولُ اللهِ (ص)، وتَابعَ هذا الدَّوْرُ
مِن بعدهِ، العُترَةَ الطّاهرَةِ، مِن أَئِمّةِ أَهلِ البَيّْتِ
المَعصُومِينَ(ع). والآنْ أَستَكمِلُ الموضُوعَ في هذهِ الحَلَقَةِ
مُبتَدِئاً بالقَوّْل:
لقَدّْ دَفعَتْ المُعارَضَةُ الشِّيعِيَّةُ، سِيُولاً مِن
الدِّماءِ، وقَوافِلاً مِن الشُهدَاءِ، وكمّاً كبيراً مِنَ
التَّضحياتِ، جَرّاءَ مُمانَعَتِها لِقُبولِ، هذهِ النَّظريّاتِ
الوَضعيَّة. وظلَّتْ هذهِ الطَّائِفَةُ، نَتيجَةً لمواقِفِها
الصَّامِدَةِ، تُكابِدُ الظُلمَ على مَرِّ التّاريخ. حتَى أَنَّهُم
طَعَنَوها بصِحَّةِ عَقيدَتِها الإِسلامِيَّةِ، ولَمّ يَتوَرَّعوا
مِن إِخراجِها، مِن رِبقَةِ الإِسلامِ. ونسَبُوها إِلى (عبد الله
بن سبأ)، إِمعَاناً في التَّحقيرِ وتَنْفِير الآخَرينَ مِنها،
مِثلمَا اتَّهَمَوها أَيضاً، بعَدَمِ إِخلاصِها ووَلائِها
لأَوْطَانِها وشُعُوبِها.
وبَعدَ عَامِ 2003، فُرِضَ على العِراقِ، وَضعٌ سياسيٌّ
عَالَميٌّ جَديدٌ، لَهُ حَيّثِيَاتُهُ المعروفَة. فاستَطاعَ
شِيْعَةُ آلِ مُحَمَّدٍ (ص) في العِراقِ، تَنَفُسَ نَسائمِ
الحُريَّةِ، وتَمَكَنُوا لأَوَّلِ مَرَّةٍ في التَّاريخِ، أَنْ
يُعَبِّروا عَن آرائِهم، ويُفصِحوا عَن مَظلومِيَّتِهم. لكِنَّ
صَوّْتَ أَبو سُفيانَ ومُعاويَةَ، لَمْ يَترُكْا ملاحَقَتَهم
بَعدّْ. فانبرَتْ مَنظومَةٌ مِن دُوَلِ الخَليجِ، وبعضِ الدُّوَلِ
(العربيَّةِ وغَيّْرِ العربيَّةِ). يَقودُها الفِكرُ الوَهَابيّ
التَّكفيريّ، الّذي تَرعاهُ السُعوديَّةُ وأَذنابُها، وتَدعَمُهُ
بالمالِ والسِلاحِ والإِعلامِ، بطَرحِ البَدِيْلِ السُفيَانِيّ،
المُعادِي للصَحوَةِ الإِسلامِيَّةِ. وبذلكَ فتَحوا صَفحَةً
دمَويَّةً جَديدةً، في التَّاريخِ المًعاصرِ، لِقتلِ شِيعَةِ عليٍّ
(ع). ولَمْ يَكُنْ القَتّْلُ هذهِ المَرَّةِ، بإِسمِ سُلطَاتِ
الحُكمِ الغَاشِمةِ، بِصورَةٍ مُباشِرَة. وإِنّما كانَ (بصُورَةٍ
غيرِ مُباشرةٍ)، تَحتَ مُسمَّى الإِرهَابِ المُنَظَّمِ، برعايَةِ
تلك الدًّوَل. والّذي تقودُه مجموعَاتٌ، يُسيّطِرُ عليها فِكرُ
أَبي سُفيانَ، ومعاويَةَ ويزيدَ ومروانَ بن الحكَمِ، ومَنْ لفَّ
لفَّهُم مِن الطُلقَاءِ والطُرَداء وشُذَاذِ الآفَاق.
وليَعلَمَ جَميعُ أَتباعِ مَدرَسَةِ مُحمَّدٍ وأَهلِ
بيّْتِهِ(ص)، أَنَّ التَّاريخَ لا يجُودُ دُوماً بالفُرَصِ
المُناسِبَة. لِذا يَنبَغِي على الطَّبقَةِ الواعِيَةِ، مِن
أَتبَاعِ هذهِ المَدرَسَةِ المُباركَةِ، أَنْ تَغُذَّ السَيّْرَ،
باتّجاهِ تأْسِيسِ ثَقَافَةٍ إِسلامِيَّةٍ مُعاصِرَةٍ، تتَصدّى
لكُلِّ المُؤامَراتِ، الّتي تُحَاكُ، فِي دَهَاليْزِ حُكَامِ
الجَوّْرِ، للنَيّْلِ مِن الأَصَالَةِ الفِكْريَّةِ والعِلميَّةِ
والثقافيَّةِ، لِمَدرَسَةِ أَهلِ بَيّْتِ النُّبٌوَةِ(ع)
وأَتبَاعِها. وعَليّهم خَوْضُ غِمَارِ صَفحَةِ التَّصَدِي الّتي،
لا تَتِمُّ بعَفَويَّةِ البُسَطاءِ، والسَطْحِيّينَ مِنَ النَّاس.
الّذينَ يَعتَبرُونَ الاحتِفَالَ، بِمرَاسِيْمِ عاشُورَاءَ،
بأَنَّها نِهايَةُ المَطلَب، وغَايَةُ المَقْصَدّ.
نَحنُ بحاجَةٍ، الى نَهضَةٍ ثَقَافِيَّةٍ شَامِلَةٍ، تُصَحِحُ
جَميعَ المسَاراتِ، الّتي يُوجَدُ فيها الخَلَلُ، أَيّنَمَا كانَ.
مُستَخدِمينَ إِسْلوبَ النَّقْدِ البَنَّاءِ، وطَريقَةَ
المُصارَحَةِ والمُكاشَفَةِ لطَرحِ قَضَايَانا، أَمامَ الآخرين.
وهذا لا يَتَحَقَقُ إِلاّ بتَوَفُرِ عِدَّةِ مُتطَلَّباتٍ
مَركَزيَّةٍ مِنها:
1. تأْسِيسُ مَراكِزَ بُحوثٍ ودِراسَاتٍ نموذَجيَّةٍ، تَتَّصفُ
بالفاعِليَّةِ العلميَّةِ، والتَّفاعُلِ معَ الآخرِ. لتُؤَثِرَ
بامكانيَّاتِها العلميَّةِ والتقنيَّةِ والتَّنظيميَّةِ
والإِداريَّةِ، في نِطَاقِ المُجتَمَع. لإِيصالِ فِكْرِ وثَقافَةِ،
ومَبادئِ ومَنهجِ مدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ(ع).
2. ومِثلَمَا لا نُقلِّلُ مِن الجُهودِ الموجودَةِ، على
السَّاحَةِ في هذا المَجالِ، لكِنْ يَنبَغي السَعيُّ لتَطويرِها،
وإِخراجِها مِن الطَّابِعِ النَّمطِيّ، الّذي يَفرِضُ عليها
مَحدُودِيَّةَ نِطَاقِ العِمَل. ويَجبُ أَنْ يَفْهمَ الجَميعُ،
بأَنَّ اتباعَ مَدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ(ع)، يَنهلُونَ مِن
عَقيدَةِ الإِسلامِ الرِّساليَّةِ الصَّحيحة، كما أَمرَ بها
القُرآنُ والسُنَّةُ النَبويَّةً الصَحيحَةُ، ورَحِمَ اللهُ مَنْ
قَالَ: (إِنَّ الشِّيعَةَ هُمْ أَهلُ السُنَّة).
3. مِنَ الثَّوابتِ، أَنَّ مدرَسَةَ أَهلِ بَيّْتِ
النُّبُوَّةِ(ع)، لا تَعتَقِدُ بأَيَّةِ أَفكَارٍ طَارِئَةٍ، أو
شَاذَّةٍ أو مُضَلِّلَةٍ، لذا لَمْ تَستَطِعْ أَنْ تُملِيَ، عليها
السُلُطاتُ الغَاشِمَةُ المُتعاقِبَةُ، على مَرِّ التَّاريخِ
الإِسلامِي، مَا أَمْلَتْ على غَيرِهِمْ. ومَنهَجُ أَهلِ
البَيّْتِ(ع)، يَطرَحُ أَفكارَهُ للآخرينَ عَلَنَاً، وبِصَراحَةٍ
تَامَّةٍ، ويَطلِبُ مِنْهُم، مُناظَرَتَهُ بأَفكارِهِ وعَقيدَتِه.
ليَكشِفَ للجَميعِ الدِّعَاياتِ الَتي رُوِّجَتْ، ضِدَّهُ مِن
قِبَلِ أَعدائِهِ التّاريخيّين، على مَدارِ أَربَعَةِ عَشَرَ
قَرنَاً مَضَت.
4. لا بُدَّ مِن تَوظِيْفِ وَسائلِ الإِعلامِ، بالشَكلِ الّذي
يُحاوِرُ الآخَرَ، بِكُلِّ وضُوحٍ وشَفَّافِيَّةٍ وهُدُوء.
واعتمادُ الإِعلامِ المُوَجَّهِ التَّخَصُصِيّ، الّذي يُخاطِبُ
كُلَّ شَرائِحِ المُجتَمَعِ المُختَلِفَةِ، بتَكوينَاتِها
الفِكْريَّةِ والعَقائِدِيَّةِ والثَقَافِيَّةِ والمِهَنِيَّةِ،
وحتّى التَّكوينيَّةِ (صِغارِ السِنِّ والشَبابِ، وكبَارِ السِنِّ،
(كلٌّ مِن كلا الجنسَين)).
5. التّخطِيْطُ لإِيجَادِ إِعلامٍ، يَتخطَى حُدُوْدَ فِكْرَةِ
الإِعلامِ، الّذي يُخاطِبُ الطّائِفَةَ ذَاتِها. نَعَمْ، تُوجَدُ
نَماذِجُ إِعلامِيَّةً، تَحمِلُ هذا التَوَجُهَ، لكِنْ يَطغَى
عَليها الطَابِعُ النَّمَطِيّ التَّقلِيدِيّ، لِذا بَقَتْ
فَاعِلِيَتُها، في حُدُودِ الطَّائِفَةِ نَفْسِها.
6. أَنْ يَطرَحَ أَتبَاعُ مَدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ (ع)
أَنفُسَهُم الى العَالَمِ، لَيسَ عَن طَريق مُمَارَسَاتِ
طُقُوسِهِمْ العَاشُورَائِيَّةِ فَحَسْبْ. وإِنَّمَا عَن طَريقِ
طَرحِ فِكْرِ وثَقَافَةِ المَدرَسَةِ، الّتي يَنتَمونَ إِليها.
فَعَنْ طَريقِ العَمَلِ المُؤَسَّسَاتِيّ الهَادِفِ، سَيَتِمُّ
التَأثيرُ والتَّغيّيرُ نَحو الأَفضَلِ، وبكُلِّ مَجالاتِ الحَياةِ
الإِنسَانِيَّة. ومِنَ المَعروفِ، أَنَّ للمُؤَسَّسَاتِ
المَدنِيَّةِ الجَماهِيريَّةِ، دَوْراً مُؤَثِراً في مَجَالِ
التَّوعِيَةِ الفِكرِيَّةِ والتَّحصِيْنِ الفِكْرِيّ أَيضاً.
7. يَجِبُ أَنْ نَضَعَ نُصْبَ أَعيُنِنَا، أَنَّ الهَدَفَ
الأَساسَ مِنَ النَّهضَةِ الحُسَينِيَّةِ، هو إِيجادُ المُجتمَعِ
الصَّالحِ، الّذي يَتَّخِذُ مِن الحَقِّ مَنهَجاً ومَرجِعَاً. هَذا
هو الهَدَفُ المَركَزيُّ لقَضيَّةِ الإِمامِ الحُسَيّْنِ(ع). لِذا
فالواجِبُ الشَرعِيّ يَقتَضِي، مِن مُحِبّي الإِمامِ
الحُسَيّْنِ(ع)، العَمَلَ على تَحقِيقِ هذا الهَدَفِ النَّبيْل.
أَقُوْلُ: إِنَّ تَجرِبَةَ الجَمَاهِيرِ الحُسَينيَّةِ، في
التَّعبيْرِ عَن فِكْرِ وثَقافَةِ النَّهضَةِ الحُسَيْنِيَّةِ، لا
زالَتْ دُونَ مُستَوى الطُمُوحِ، لإِحدَاثِ التَغيّيرِ على أَرضِ
الوَاقِعِ، لِسبَبَيّنِ هُمَا.
أَوَّلاً: الضَّغطُ المُتراكِمُ على تلكَ الجَماهيرِ، مُنْذُ
قُروْنٍ طَويلَةٍ. جَعلَتها تَرضَى بأَنْ تَتَمسَّكَ بالحَدِّ
الأَدنَى، مِنَ التَّشَبُثِ بالهَويَّةِ الحُسَينِيَّةِ،
لِتُقَاوِمَ قُوَّةَ السُلُطَاتِ الغَاشِمَةِ، ابتدَاءً مِن
الأَمَويّينَ والعَباسِيّينَ والعُثمانِيّينَ، وانتهاءً بِحُكْمِ
الصَدَّاميّين.
الثَّانِي: حداثَةُ التَجرِبَةِ تَحتَ غِطَاءِ، ضَمانِ
الحُريَّاتِ العَامَّةِ، الّتي أُتيْحَتْ لمُحِبّي أَهلِ
البَيّْتِ(ع) في العِرَاقِ، وانعِتَاقِهِمْ مِن قَبضَةِ النِظَامِ
الشمُوليّ المَقبُور. جَعلَتْ هذه التَجرِبَةُ مَشغُولَةً تَماماً،
بالتَنفِيْسِ عَن عَواطِفِها، الّتي ظَلَّتْ مَكبوتَةً لقُرونٍ
طَويلَة. وكلُّ تَجربَةٍ جَديدَةٍ، تَكتنِفُها بَعضُ السَلبِيات
دونَ شَكّ.
يَجِبُ أَنْ تكُونَ كُلُّ هذهِ المُعطيَاتِ، حافزاً للعَمَلِ
مِن أَجلِ تَدَارُكِ، تلك السَلبيّاتِ وتَصحِيحِها، بأَقصَرِ وَقتٍ
وأَكبَرِ جُهد. وجميعُ الآمَالِ مَعقودَةٌ بالرِسَاليّينَ، الّذينَ
يُدرِكونَ بوَعيهِم وفِكرِهِم النَيّْر، أَنَّ قَضِيَّةَ الإِمامِ
الحُسَيّْنِ(ع)، أَبعَدُ وأَعمَقُ مِن أَنْ تَنحَصِرَ، داخِلَ
أُطِرِ المَشاعِرِ الشَخصِيَّةِ، الّتي تُحرِّكُ الجماهيرَ
بعَفَويَّةٍ، غَيْرِ مَحسُوبَة. إِنَّ نَهضَةَ عَاشوراء، يَجُبُ
أَنْ يُسمَعَ صَدَاهَا، في كُلِّ أَرجاءِ العَالَمِ الإِسلاميّ،
وغيْرِ الإِسلاميّ أَيضاً. لَكِنْ بطريقَةٍ حَضَاريَّةٍ نَاضِجَةٍ،
تُعَبِّرُ عَن عُمقِ أَهدافِ، مَدرَسَةِ أَهلِ البَيّْتِ(ع)، فِي
تَحريرِ الإِنسَانِ، مِن العُبودِيَّةِ الفِكْريَّةِ
والنَّفسِيَّةِ، لسَلاطينِ الظُلمِ والجَوَّرِ، في المَنطقَةِ
العَربيَّةِ وخَارِجَها.
* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي
[email protected] |