للكتابة عن التضحيات طعم لا يستسيغه من غرقت نفسه في ملذّات
الحياة وتداعيات هذه النفس مع الزمن كلّما تقدّم العمر، فغرقها في
هذه الملذّات غرق متزايد كأنّه ضمن متوالية هندسيّة لا يشعر بها(إن
شعرَ!) الاّ من أُدرِك بعد وقت، لا يكون ضمن وقت الندم!
وللكتابة عن التضحيات هيبة لها وقع عميق في نفس الكاتب الصادق
لا غيره! كلّ ذلك الحديث عن التضحيات، ما بالك لو كانت هذه
التضحيات متجسّدة في نفس واحدة وفي شخص واحد طاهر بطهر جدّه رسول
الله صلى الله عليه وآله(في الحديث : حسين منّي وأنا من حسين أحبّ
الله من أحبّ حسينا)(#) الا وهو سيد الشهداء الحسين بن علي بن ابي
طالب عليهما السلام! والحديث عن الحسين حديث عن خط الرسالة
المحمدية التي بعث بها رسول الله وسار عليها من رفد الطريق
بالتضحيات تلو التضحيات من أهل البيت الى الصحابة الذين ساروا على
منهجه وصراطه الذي يؤدي بالنتيجة الى جنّة الله تعالى كما يعتقد
كلّ المؤمنين.
انّ الحديث عن الحسين حديث وحدة الفكر ووحدة الوسائل وان
تباينت وفق الزمن الا انّها في طريق الوسيلة الحق، الكبرى في كونها
طاهرة تصبّ في الهدف الحقّ الذي اراده المولى الكريم وهو العبادة
الخالصة التي تؤدي الى تحقيق العدل في قول: العزّة لله والذلّة
للعباد، في العبودية للحقّ، لانّ ذلك هو العزّة لهم (..ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ـ سورة المنافقون
الآية 8).
لقد سبق التعضيد في الوسيلة والهدف الحسيني، من قبل رسول الله
صلى الله عليه واله قبل نصف قرن من واقعة الطفّ في كربلاء، وقد
ذكرها في اكثر من موضع انّ قتلة الحسين هم قاتلوه بقتلهم سيد
الشهداء. فايّ عهد للحسين او تجديد لهذا العهد في الذكرى السنوية
المؤلمة في عاشوراء والاربعينية الحسينية انّما هو عهد وتجديد
للعهد لرسول الله، انّنا على نهجه ونهج الرسالة المحمدية سائرون لا
نحيد بحيود العلل ولا باختلاف الزمان او المكان.
انّ التضحية الحسينية تضحية من اجل الحفاظ على الرسالة التي
اريد لها ان تحيد في منهجها لاكثر من مرّة من بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه واله الى الان وستستمر الى يوم القيامة، وإنّ هذا
العهد وهذه التضحية هما قدر العباد في العبادة الخالصة لله تعالى.
لا تتعلّق الممارسات التي تمارس في هذه الفاجعة للدفاع عن الدين
الحنيف بأنّها ممارسات عاطفيّة مجرّدة من الابعاد الاخرى، بل
بالعكس فهي ممارسات تجمع كلّ السلوكيات التي تصبّ في خانة الاخلاص
لله الواحد. ولقد جسّدها سيد الشهداء وعلى طريقه الملايين التي
تسير على نفس المنهج. ففي الوقت الذي عزم فيه الإمام الحسين (عليه
السلام) على الخروج من المدينة إلى مكة قام بزيارة قبر جده رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ودّع من بقي من أهل بيته وودع
الصحابة والتابعيين من المهاجرين والأنصار ثمّ كتب وصيته صلوات
الله وسلامه عليه إلى المسلمين في المدينة وفي غيرها واودعها أخاه
محمد بن الحنفية حيث يقول عليه السلام:
((هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد ابن الحنفية، أنّ
الحسين يشهد أنّ لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً
عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأن الجنة حق والنار حق، وأن
الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم
أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب
الإصلاح في أمة جدي وأبي علي بن ابي طالب فمن قبلني بقبول الحق
فالله أولى بالحق، ومن رد علي أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم
الظالمين وهو خير الحاكمين)) (بحار الأنوار 4 / 329).
اذن الطريق الذي سار عليه سيد الشهداء هو طريق الاصلاح للمسار
الذي اراده المنافقون ان يحيد عن مساره الحقّ. حيث ثار سيد الشهداء
بهداية الله لانّه جاهد في الله((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))(العنكبوت / 69) فلا ريب في قول
المولى في ارشاده لعباده الذين اصطفى. الطريق هو طريق الاصلاح
للنوايا الفاسدة وللسلوكيات المنحرفة التي انتشرت في الامّة لذلك
فمحاربتها محاربة للانحراف قبل ان يستفحل فيقضي على كيان الامّة،
خاصة اذا كان الفاسد الاكبر هو الحاكم نفسه!(يزيد لعنه الله) والذي
هو نفسه يشيع الفاحشة في الذين آمنوا(إن الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله
يعلم وأنتم لا تعلمون) سورة النور الآية 19.
انّ إحياءنا لتلك الذكرى، ذكرى إستشهاد الحسين عليه السلام وأهل
بيته كلّ سنة انّما نحاول ان نثبت لانفسنا وللعالم انّ العهد لله
يكون من هنا، من طريق الحسين كواحد من الطرق التي يبرز الانسان
فيها العهد لله ولرسوله ولضميره الحيّ. حيث انّ محفل سيد الشهداء
هو محفل التزكية باعتباره الطريق الذي يسلكه الصلحاء دائماً.
إحياء ذكرى عاشوراء وسيلة لتزكية النفس. والبكاء على الحسين
واهل بيته بدموع حرّى انّما هي دموع غسل النفس من ادرانها وازالة
كلّ الصفات السيئة من الضمير ومن هذه الروح المودعة في اجسادنا.
وبنفس الوقت نلاحظ ماذا تفعل هذه الدموع من تواصل حيّ بين القلوب
والنفوس الطاهرة النظيفة من توحيد وتلاحم. وكلّما اجتمعنا في موقع
الواقعة الاليمة انّما نغرس في الارض استجاباتنا لاصوات وصيحات قد
سمعناها ونحن في ارحام الامهات واصلاب الرجال (الا من ناصر
ينصرنا؟!) فيأتيه النداء لبّيك يا حسين. ولبيك ايها المصلح والامام
الثائر سنكون على طريقك في الاصلاح والثورة على الظالمين اينما
كانوا وكيفما ووقتما كانوا.
نحن كبارا وصغارا نساء ورجالا ومن كلّ النِحَل نجتمع لانّ
الاجتماع تصديق لاجتماع المخلصين حول سيد الشهداء في مثل ايام
عاشوراء. الاسود والابيض، الكبير والصغير، النساء والرجال، حتى
النساء يشاركن في الاجتماع المبارك، لأنّهنّ شاركن بالفعل في قيادة
أو إدارة أو حثّ على الجهاد أو بصور مختلفة في معركة الطفّ كما
ذكرها أصحاب التأريخ. لذلك ترى أنّ طاهرات الأنفس يشاركن بشكل او
بآخر في هذه الملحمة، ملحمة الذكرى السنويّة الممتدّة من الملحمة
الأولى الى يوم الدين. فلا غرابة ان تكون هذه الثورة ثورة الذات
النظيفة على الذات المتّسخة، والعالقة بها الأدران من كلّ محيطها.
إنّ نفوس العباد جبلت على الإبتلاء فمنها من يصبر ومنها من
يستسلم الى الامر الواقع فيكون من الضعفاء الذين لا ينبغي ايداعهم
الامانة في تغيير الامّة ((إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان
ظلوما جهولا)) الاحزاب72
ومن غير الحسين عليه السلام يستطيع ان يحمل الامانة في زمانه
والزمان الذي يليه؟! لقد كان سيد شباب اهل الجنّة من القوّة في
النفس ما لايستطيع احد ان يتحمّل ما تحمّله، حيث طفله الرضيع يذبح
بين يديه، ولده الشاب يقتل ويقطّع اربا اربا، اخوه السند الاول
يقتل امام عينيه والكل يذبح عطشاناً بقرب نهر الفرات بمنع من
الطغاة. ناهيك عن المصائب التي لا يستطيع احد ان يتخيلها حقّاً!
فمن يسير على الطريق الحسينيّ انّما يجدّد العهد لحمل هذه الامانة
التي حملها سيد الشهداء صلوات الله عليه وعلى أهل بيته. لذلك ومن
موقع المسؤولية الاخلاقية والشرعية الملقاة على عاتقنا ان نردّد
انّنا لا ينبغي لنا فقط ان نحوّل سلوكياتنا الى مجاميع من
الممارسات الحزينة بل الى ممارسات فعّالة للتغيير وللقضاء على
الفاسدين الذي يتوارثون الفساد والظلم ظالماً عن ظالم! بالتزامن مع
العهد الذي نقطعه للسير على طريق من تصدّى للفساد بروحه الاغلى
وباهل بيته.
ان المدرسة الحسينية في مجالسها الذاكرة مدرسة للاصلاح في
الاخلاق والتربية والسياسة وفي كلّ العلوم وفي مشروع التنبيه الى
ضرورة التصدّي للظالمين كي لا تتكرر مأساة كربلاء(تلك المأساة التي
بتنا نراها باساليب جديدة للتنكيل بالمظلومين لا لشيء الا لانّهم
يعشقون الحسين وثورته!)
انّ ممارساتنا وممارسات اولادنا وعوائلنا جميعا بل وكلّ المجتمع
هي ممارسات لتدريب النفس في معسكر الحسين التدريبيّ. نعم انّه
معسكر لصقل النفس من خلال استذكار كلّ من صاحبَ سيد الشهداء في
مشروعه الاستشهادي (لذلك ترى وتسمع ظاهرة تسليط الضوء على كلّ
شخصيّة شاركت مع الحسين عليه السلام في ثورته. من الطفل الرضيع الى
المراهقين والشباب والكهول والشيوخ. كلّ الأعمار شاركت، من أجناس
متعدّدة، ومن توجّهات دينيّة مختلفة. لذلك يمكن ولا ريب أن نطلق
على هذه الثورة ثورة مجتمعيّة متكاملة. وبتوجّهات أخلاقيّة تربويّة
سياسيّة لمواجهة ظلم الظالمين على طول الزمن). وفي زيارة خاصّة
يطلق عليها بزيارة الاربعين(مرور اربعين يوما على الفاجعة
والمصيبة) يتجدّد الحزن في قلوب المؤمنين ذكرى قدوم ورجوع موكب
السبايا من الشام الى المدينة المنوّرة مدينة رسول الله صلى الله
عليه وآله وقد وصلوا الى طريق يؤدي بهم الى العراق(من ضمن طريقين
يؤدي الآخر الى الحجاز) فقالوا للدليل مرّ بنا على طريق كربلاء.
فوصل الموكب الى كربلاء يوم الاربعين لزيارة قبر الحسين عليه
السلام واهل بيته واصحابه فاقاموا مآتم العزاء لأيام. وهنا كان
الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله الانصاري قد سبقهم الى زيارة سيد
الشهداء بعد مرور اربعين يوما على الفاجعة والتقى حينها بالامام
زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام وجدّدا الحزن معاً، كما
ورد في بحار الانوار الجزء 98|329.
وفي اللقاء بينهما كان الامام زين العابدين يشرح بألم ما الذي
جرى عليهم بقوله عليه السلام(يا جابر هاهُنا واللهِ قُتلت رجالُنا،
وذُبحِت أطفالُنا، وسُبيَت نساؤنا، وحُرقَت خِيامُنا (لواعج
الأشجان: 241). لذلك وتلبية لنداء رسول الله صلى الله عليه وآله
والائمّة سلام الله عليهم((قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إنّ
موسى بن عمران سأل ربّه زيارة قبر الحسين بن علي، فزاره في سبعين
ألف من الملائكة (مناقب آل أبي طالب: 3/ 272).وقال الإمام الباقر
(عليه السلام): مروا شيعتنا بزيارة الحسين، فإنّ زيارته تدفع الهدم
والحرق والغرق، وأكل السبع، وزيارته مفترضة على من أقر له بالإمامة
من الله (مناقب آل أبي طالب: 3/ 272). قال الإمام الصادق (عليه
السلام): وكلّ الله بقبر الحسين أربعة آلاف ملكاً شعثاً غبراً
يبكونه إلى يوم القيامة، فمن زاره عارفاً بحقّه، شيّعوه حتّى
يبلغوه مأمنه، وإن مرض عادوه غدوة وعشياً، وإذا مات شهدوا جنازته،
واستغفروا له إلى يوم القيامة (مناقب آل أبي طالب: 3/ 272). قال
الإمام العسكري (عليه السلام): عَلاماتُ المؤمن خمس: صلاةُ إِحدى
وخمسين، وزيارةُ الأربعين، والتخَتُّم في اليمين، وتعفير الجَبين،
والجهر بـ(بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم) (بحار الأنوار: 98/ 329))
تقوم جموع المؤمنين كلّ عام استجابة لطلب الأئمّة (عليهم السلام)،
ورغبة في المودة لرسول الله صلى الله عليه وأله بزيارة قبر الإمام
الحسين (عليه السلام) في يوم الأربعين، حيث يأتون إليه قاصدين
معاهدين من كلّ مكان في العالم وتأسيا بسبايا اهل بيته الكرام
يأتون مشيا على الاقدام ليتجمّعوا عند الضريح المبارك ملبّين دعوة
رسول الله وأهل البيت عليهم السلام. فهنيئاً لزوّارك يا أبا عبد
الله، ومن سار على نهجك ما خاب والله.
....................................................
(#) رواه أحمد في:حديث يعلى بن مرّة الثقفي من كتاب المسند:
جزء4 الصفحة 172 وفي الحديث 14 في باب فضائل الحسن والحسين عليهما
السلام في كتاب الفضائل. وفي الطبقات الكبرى الجزء 8 قال: أخبرنا
عفّان بن مسلم، قال: حدّثنا وهيب بن خالد، قال: أخبرنا عبد الله بن
عثمان بن خثيم/ عن سعيد بن ابي راشد عن يعلى العامري، ورواه الحاكم
في باب فضائل الحسين عليه السلام من كتاب معرفة الصحابة في
المستدرك: الجزء3 الصفحة 177. عن يعلي العامري انه خرج مع رسول
الله صلى الله عليه وآله إلى طعام دعوا له، قال: فإستقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلّم أما القوم وحسين مع الغلمان يلعب فأراد
رسول الله أن يأخذه فطفق الصبي يفرّ ها هنا مرّة وها هنا مرّة،
فجعل رسول الله يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه
والاخرى تحت ذقنه فوضع فاه على فيه يقبله فقال: حسين منّي وأنا
منه، حسين سبط من الاسباط. قال الحاكم ـ ومثله الذهبي في تلخيصه ـ
هذا حديث صحيح. ومن اراد الاستزادة في المصادر فهي كثيرة ووفيرة! |