شبكة النبأ: لأن له هدف محدد
وواضح، وعوامل ذاتية للتفاعل والحيوية، وقدرة غيبية – معنوية على
التأثير في النفوس طيلة العهود والعصور التي مرت عليه، فان "المشي"
لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، بات يشكل تهديداً – بشكل أو
بآخر- على مصالح الحكام والأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق،
لأن المعروف أنها ترمي بالدرجة الأولى الى كسب القاعدة الجماهيرية
لتوطيد وتكريس وجودها السياسي وضمان فترة أطول في الحكم، إلا ان
هذا "المشي" يشكل هاجساً مرعباً يقضّ المضاجع ما أن تحلّ أيام
أربعين الامام الحسين ، عليه السلام، لذا شهدنا طيلة العقود
الماضية، في التاريخ المعاصر، وفي العقود الاولى من التاريخ
الاسلامي، محاولات عنيفة وشديدة من الحكام لوضع السدود والحدود
أمام هذا التيار الجماهيري، وثني الناس من "المشي" لكن دون جدوى.
وهذا يثير السؤال؛ عن السبب الحقيقي وراء هذه المخاوف..؟، لأن
"المشي" بالأساس، ليس تظاهرة سياسية، ولا حركة عصيان مدني، ولا أي
شكل من أشكال التحرك السياسي الذي تنظمه جماعات سياسية أو نقابات
او منظمات مجتمع مدني وغيره، للتأثير على القرار السياسي واستهداف
النظام الحاكم، إنما هو – كما هو واضح للعالم- عبارة عن سيل بشري
يتشكل بمرور الايام من مناطق مختلفة من داخل وخارج العراق، يتوجه
صوب كربلاء المقدسة لزيارة الامام الحسين، عليه السلام، في أربعين
استشهاده. وهم لا يحملون بأيديهم سوى الأعلام الحمراء والبيضاء
والخضراء، للدلالة الرمزية على وجود مواكب للزائرين، كما لا يحملون
في أذهانهم سوى الساعة التي يصلون فيها الى المرقد الشريف.
العقدة العصية على الحل عند أهل الحكم، سواءً عند الحاكمين في
العراق او غيره، هي "الولاء" في هذه المسيرة الجماهيرية، فقد قرأ
النظام الصدامي في خلال فترة حكمه في العراق، تاريخ هذه الحركة،
ووجد أن القمع المباشر والعنيف سبباً في تقويتها وتكريسها في
النفوس، لذا حاول في السنوات الاولى من حكمه استيعاب هذه الحركة
وتوجيهها بالشكل الذي تخلو فيه من المضامين والمفاهيم التي تحملها
ومن أجلها تضم كل هذه الحشود البشرية، فلا حديث عن ظلم ولا طغيان
ولا انحراف في النظام الحاكم ، إنما هي زيارة لمرقد أحد أولياء
الله الصالحين، كما أي مرقد آخر. لكن عندما وجد الجذور العميقة
لتلك المفاهيم في النفوس والضمائر، ألقى قناعه جانباً وأظهر وجهه
الحقيقي المعادي لأي محاولة للتغيير والإصلاح، باستخدام أعنف
الوسائل وأكثرها وحشية. فكانت المواجهة المكشوفة التي جرته الى
حتفه.
من هنا؛ احتفظ "المشي" براية الولاء المطلق للإمام الحسين، عليه
السلام، ونهضته الحضارية، وهذه الرسالة – يبدو- انها وصلت الى كل
مكان بعد انهيار النظام الصدامي في العراق عام 2003، فقد شهد
العالم بأسره، لاسيما المعنيين في العواصم الاقليمية والدولية، حجم
وقدرة هذا الولاء في تحشيد وتعبئة الجماهير في أول زيارة أربعين
تجري بحرية تامة من دون "صدام"، منذ حوالي اربعين عاماً.. لذا يمكن
القول: أن "المشي" حقاً، تيار جماهيري جارف يقرر ويرسم مصيره
بنفسه، فهو الذي انطلق وتشكل منذ أمد بعيد، وتطور بفعل التجارب
ومستجدات الزمان والظروف الاجتماعية، ليكون بهذا الشكل من التنظيم
والتنسيق، حيث تشهد كربلاء المقدسة هذه الايام توافد الملايين من
البشر خلال ايام معدودة، لأداء مناسك الزيارة.
لكن؛ هذا ليس كل شيء.. فالتيار الجماهيري الجارف الذي عجز
الحكام عن تحجيمه والتضييق عليه، بات اليوم يفرض إرادته على الحكام
وعلى الواقع السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي والامني.. وهذا هو
– بالحقيقة- قمة التطور في قضية "المشي". فعندما تتحول ظاهرة ما
الى أمر واقع، فانها تستقطب الجهود والطاقات والامكانات لتكون في
خدمتها، كما هي النبتة او الفسيل في الأرض الخصبة، فاذا انطلقت
جذورها في الأرض، بدأت تمتص العناصر الغذائية من أملاح وماء، كما
تستقبل أشعة الشمس والهواء وغيرها من عوامل النمو والارتقاء،
فتتحول الى شجرة باسقة مثمرة، ليس لا يفكر أحد بقطعها، إنما يتوجه
الناس للاستفادة منها والاعتزاز بها.
هذا الدرس فهمه الناس وابناء الأمة في كل مكان، وقد بلغت حالة
النضج اليوم مرحلة متطورة، بقي أن يفهمه المسؤولون الحكوميون في
البلاد التي ينطلق منها الزائرون، وعندما تصل الرسالة بشكل صحيح
الى هؤلاء، فانها ستصل بالشكل نفسه وأكثر قوةً الى من يشعر بالخوف
الشديد من هذه الظاهرة والحركة، ليس على مستقبله السياسي، إنما على
عقيدته وتاريخه، وهذا أشد خطراً، لأن العقيدة هي التي تحمل النظام
السياسي وتضمن له الاستمرار في الحكم. وهنا يتحدد المسار؛ إما أن
تتراجع وتدع "المشي" يشق طريقه الى الأمام ولا تتعرض له، كما لو
أنه لا يستهدف بالأساس التنظيمات الارهابية والتكفيرية، ولا الدول
التي تقف خلفها. وإما ان يكون تختار المواجهة وتكرار التجارب
الفاشلة للحكام السابقين على مر التاريخ الذين دفعوا ثمن حياتهم
السياسية وخلفيتهم العقائدية والفكرية، من أجل إيقاف هذا "المشي"
وهذا التيار الجماهيري، لكن دون جدوى. |