نخبة من شرائح المجتمع البصري رغم قلة عددها لكنها قررت فيما
بينها أن تشارك بتقديم الخدمة الحسينية بعد أن شاهدوا مايحدث في
المحافظة هذه الأيام من إستنفار حسيني على كافة الصعد.. بعيدأ عن
أجواء الصراعات والتناحرات والمزايدات والتسقيطات.. في الجوانب
السياسية والاقتصادية والمشاريع الخدمية ونحوها..
قضاة ومحامون واساتذة وموظفون في قطاعات النفط والنقل والتجارة
والصحة ومن المحافظة ومجلسها ومنتسبين لوزارة الداخلية ومن القطاع
الخاص والنقابات وطلبة الجامعات والمعاهد ومن المتقاعدين والعاطلين
عن العمل إضافة الى مغتربين من أهالي البصرة، كلهم إجتمعوا ليقرروا
فيما بينهم أن يقوموا بالمشاركة في خدمة الزائرين ليوم..
في الصباح الباكر توجهوا الى المنطقة المحاذية للجبايش والتي
تبعد جوالي 150 كم عن مركز المحافظة، منطقة ليس فيها بناء أو سكن
إلا بعض الأكواخ المترامية الأطراف من الطين أو القصب لبعض عوائل
الأهوار.
حطت هذه النخبة رحالها في هذه المنطقة ومعها بعض المواد
الغذائية والفواكه والعصائر والشاي والقهوة العربية لتقديمها
للزائرين المارين في تلك المنطقة، لم يكونوا وحدهم بل توافدت لتلك
المنطقة في ذات الوقت سيارات مختلفة تحمل مجموعات من الناس ومعهم
أيضاً ما أجادت به أنفسهم وأيديهم من مواد لتقديمها للزائرين، وما
هي إلا دقائق معدودات إلا وأصبحت هذه المجاميع تضع مائدة على
إمتداد البصر وعلى جانب الطريق بما تشتهي الأنفس ومن مختلف الأطعمة
بشكل لايصدق وكأنهم يرسمون لوحة طعام أرضية.
مع بزوغ الشمس يتراءى للمرء أنها لاتنشر أشعتها وضياءاتها
المتلألئة وانعكاسات ذلك الضوء في الأفق، إنما هي تنشر جموع من
الزائرين المتوجهين نحو كعبة الأحرار زاحفين مشياً على الأقدام دون
وجل أو خوف أو شعور بالبرد أو التعب أو الإرهاق حتى كأن الطريق
أصبح مزروعاً بحشود بشرية وتكاد الأرض التي يسيرون عليها لاتشاهد
من قبل الناظر لغاية نقطة التلاشي.
في البداية عكفت النخبة على التسارع في تقديم الخدمات للزائرين
وكأنهم وزعوا أدوارهم ومارسوا البروفات المتكررة من قبل بشكل دقيق،
وما أن إستقرت الشمس في كبد السماء حتى وجلت قلوب هؤلاء مما يمر
عليهم أفواجاً أفواجاً من البشر حيث تستوقفهم لحظات من التأمل فيما
يشاهدون من مناظر تبكي الصخر وتزلزل الجبل وتنشف البحر وتسقط الكسف
من السماء.. مناظر لايستوعبها إنسان بعقله ولا بفكره ولا بقلبه..
مهما كانت عقائد الأمم.. لن تصل الى هذا المستوى وهذا الألق وهذا
الإنتماء.. إلا طريق الإنتماء والمولاة للامام الحسين (عليه
السلام)..
كهول عفى عليهم الزمن يتوكؤون على عصيهم وعجائز لايعلم
بأعمارهن إلا خالقهن ومعوقون بشتى أصناف الاعاقة وشباب بعنفوان
العطاء ومراهقون وأطفال بعمر الورود ونساء إما يدفعن عربات رضّعِهن
أو يحملن طفلاً معهن أو يمسكن طفلاً بأيديهن... رجال ونساء كبار
وصغار بمختلف الأعمار.. الكل متوشح بالسواد.. وتبين من أعلام
التعازي التي يرفعونها في مسيرهم أنهم.. عراقيون وباكستانيون
وسعوديون وبحرينيون وايرانيون ولبنانيون.. الكل يسير الى الأمام..
الكل يسير نحو مرقد الإمام.. |