شبكة النبأ: يحتفي العالم اليوم
بأسماء شخصيات كافحت التمييز العنصري، وناضلت لاجتثاث هذه الظاهرة
الاجتماعية – السياسية من واقع الشعوب والأمم، فنرى بين هؤلاء من
هو مفكر مثل "مارتن لوثر كنغ" الامريكي، ومن هو سياسي معارض، مثل
"نيلسون مانديلا" في إفريقيا الجنوبية، ومن هو زعيم لبلد كبير، مثل
الرئيس الأمريكي في القرن التاسع عشر "ابراهام لينكولن".
هؤلاء خاضوا صراعات مريرة في بلادهم ضد التمييز الذي كان يطال –
وما يزال الى حدٍ ما- ذوي البشرة السوداء بالدرجة الأولى، علماً إن
أصناف أخرى في المجتمع، طالها التمييز وحتى القمع الوحشي خلال
التاريخ المعاصر، لكن لم يسلط أحداً الضوء عليهم، مثل الهنود
الحمر. لأن الامر الذي يحدد نشاط أولئك المناضلين، يكون منطلقهم
الوطنية، ومطالبهم حقوق أبناء بلدهم، لذا اصبحوا اليوم رموزاً
كبيرة ومحبوبة.
لكنّا أمام شخصية خاضت هذا النضال، ليس في القرن الماضي أو
قبله، إنما قبل حوالي ثلاثة عشر قرناً.. حيث كان العالم، لاسيما في
منطقة الجزيرة العربية، مطبقاً على الرق والعبودية، وقد وضعوا له
قوانين وقواعد للبيع والشراء في سوق كان يطلق عليه "النخاسة"، ولم
يكن من السهل إزالة هذا التقليد الاجتماعي الضارب في الجذور، لوجود
امتدادات في جميع انحاء العالم. إلا إن الإمام علي ابن الحسين
الشهيد، عليهما السلام، والملقّب بـ "زين العابدين" و"السجاد"، خاض
هذا التحدّي الحضاري الكبير، وهو يحمل عزماً صلباً لا يلين بأن
يواصل المشوار الذي بدأه أول الأمر، جده رسول الله، ومن ثم أمير
المؤمنين، ثم الحسين والحسين، عليهم السلام، ومع علمه بأن فترة
الستين سنة من الهجرة النبوية، أو لنقل الجيلين، ليست كافية بالمرة
لأن تزال هذه الظاهرة من وجه المجتمع الاسلامي، رغم التأكيدات في
أدبيات المعصومين، عليهم السلام، على الحرية والكرامة الانسانية،
وأن لا يبقى الانسان عبداً لغيره، إنما العبودية لله تعالى فقط لا
غير. ثم الاحكام التشريعية التي سنّوها لنا، وتتضمن مخارج وتطبيقات
لتحرير العبيد التي جاءت ضمن الشروط المحددة للتكفير عن كثير من
الذنوب والمعاصي.
لكن هنا تساؤل؛
ما الذي دفع الإمام زين العابدين، عليه السلام، الى هذا المسلك،
وقد عُرف بانطوائه على البكاء والاستعبار طيلة حياته على أبيه
الحسين، وما جرى على أهل بيته في واقعة عاشوراء، ثم عروجه في مسيرة
الدعاء والتضرّع والابتهال الى الله تعالى، حتى حمل ألقاباً بهذا
الاتجاه؛ "السجاد"، و"زين العابدين"؟.
هناك من يدرس حياة هذا الإمام الملهم والفذ، من جانبه التربوي –
الروحي، حيث يشير الى أنه عكف على التربية الروحية والاخلاقية،
وإزالة الرين والصدأ من النفوس، وتهذيبها حتى لا تتكرر التجربة
المريرة التي سقط فيها "الانسان الكوفي" آنذاك، - إن صحّ التعبير-
عندما فضّل المكاسب وحب الدنيا على حياة الإمام الحسين، عليه
السلام، والتجرؤ على المشاركة في قتله.
وهذا حسنٌ بالطبع؛ وهو المسلك الذي سار فيه إمامنا الذي نعيش
هذه الأيام ذكرى استشهاده، وأدى فيه دوراً عظيماً ومؤثراً على صعيد
الفرد والمجتمع، وها هو السفر الخالد الذي تركه لنا، "الصحيفة
السجادية"، التي تسمى بـ "زبور آل محمد". وهذا المسلك سار عليه من
سبقه من المعصومين عليهم السلام، ونحن نحفظ من رسول الله وأمير
المؤمنين والحسين الشهيد، أذكار ومناجاة وصلوات عظيمة الشأن
والأهمية.
أما التميّز في إمامنا الرابع، تكمن في مواكبته الحكيمة
والدقيقة للمرحلة السياسية التي عاشها، وهذه بحد ذاتها تُعد منقبة
ونقطة حضارية مضيئة تدعو العالم للالتفات اليها، فهو خارج للتوّ من
مأساة مريعة، بل هو - بالحقيقة- صاحب ثأر، ويحمل غير قليل من
الحسرة والألم في نفسه مما جرى على أبيه وعليه أيضاً، من الأسر
والتشهير والتسقيط على يد حكّام بني أمية. وفي ظل هذا الحكم نفسه،
كان الإمام يشهد الفتوحات الاسلامية في البلاد العريضة، شرقاً
وغرباً، وتزداد مساحة الدولة الاسلامية يوماً بعد آخر، مما دعاه
لاستثمار إفرازات الحرب، وفي مقدمتها الأسرى، وفي ذلك الزمان كانوا
يتحولون الى عبيد بمجرد انتهاء الحرب وإعلان الطرف الغالب انتصاره
على الطرف الآخر، فيكون هو الحائز لأعداد كبيرة من الأسرى –
العبيد، ويكونوا من شرائح مختلفة من المجتمع، من نساء ورجال، وحتى
من أهل الحكم والبلاط.
هذه الشريحة الانسانية، كانت تعتنق الاسلام، لكن المعضلة
الاجتماعية آنذاك، كانت تأخذ بخناقهم، وتلاحقهم بتسمية أخرى، هي
"المسلمين الموالي" للتمييز بينهم وبين العرب، سكان الجزيرة
العربية. هنا الإمام السجّاد، عليه السلام، قدم دروساً ومواقفاً
مضيئة للتاريخ والاجيال عن الاسلوب الاخلاقي الرفيع في التعامل
الانساني مع هذه الشريحة، وعدّها جزءاً طبيعياً من جسد المجتمع
الاسلامي الواحد. ولعل من أبرز ما قام به، التزوّج من أمَة كانت
عنده، وحسب المؤرخين، فانه كان أول من أحيا هذه السنّة النبوية، في
تلك الفترة، مما أغاض أدعياء العروبة من الأمويين، وعلى رأسهم هشام
بن عبد الملك، وكان حينها يتربع على كرسي الحكم في الدولة
الاسلامية، فأرسل اليه يلومه باتخاذه هكذا قرار، وهو القرشي
والهاشمي المعروف.. فكتب اليه الإمام بما يفحمه ويعلّم الاجيال
نظام الإسلام في بناء المجتمع المتماسك والناجح، الذي بدأ على يد
الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، وقال: "ولنا برسول الله أسوة،
زوّج زينب بنت عمه، زيداً مولاه، وتزوج مولاته بنت حي بن أخطب"،
كما كتب اليه ايضاً: "أنه ليس فوق رسول الله، صلى الله عليه وآله،
مرتقىً في مجد، ولا مستزاد في كرم".
وللعلم فقط، فان مشكلة "الموالي"، كانت مطروحة في الوسط
الاجتماعي منذ الحكم الذي تعاقب بعد رحيل النبي الأكرم، صلى الله
عليه وآله، حيث كثرة الفتوحات، ودخل بين المسلمين من هم ينحدرون من
أصول فارسية أو رومية أو غيرها. وكانت المساعي مبذولة من قبل أمير
المؤمنين وولديه الحسن والحسين، عليهم السلام، في هذا المجال، بيد
أن شدة الظروف السياسية، لم تكن لتسمح بتكثيف هذه الجهود، كما
تسنّى للإمام السجّاد، عليه السلام، حيث تفرّغ، عليه السلام،
للجانب التربوي في الجانب العبادي والثقافي والعلمي.
وقد عرف الامام السجّاد، شرائه عشرات العبيد ثم يعتقهم، ويصيرهم
أحراراً، لينطلقوا وهم يحملوا ثقافة وعلوم أهل البيت، عليهم
السلام. وكان كثير من "الموالي" من خيرة أصحاب الإمام، عليه
السلام. والتاريخ يروي بإجلال وإكبار مواقف ومشاهد من العتق
والتحرير لرقاب العشرات والمئات من بني البشر.
فقد روى "ابن طاووس" في كتابه المعروف بالإقبال، بسنده عن
الإمام الصادق، عليه السلام: أنه قال: كان علي بن الحسين، إذا دخل
شهر رمضان، لا يضرب عبداً له، ولا أَمَة. وكان إذا أذنب العبد
والأمة يكتب عنده أذنب فلان، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا.. ولم
يعاقبه. فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان دعاهم وجمعهم حوله، ثم
أظهر الكتاب ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا ولم أؤذك أتذكر ذلك؟
فيقول: بلى يا بن رسول الله. حتى يأتي على آخرهم ويقررهم جميعاً ثم
يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين..! إن
ربك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيت علينا ولديه كتاب ينطق
عليك بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها وتجد كلَّ ما
عملت لديه حاضراً، فاعف واصفح، يعفُ عنك المليك ويصفح، فإنه يقول:
وليعفوا وليصفحوا، ألا تحبون أن يغفر اللـه لكم، وهو ينادي بذلك
على نفسه ويلقنهم وينادون معه وهو واقف بينهم يبكي ويقول: "ربَّنا
إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت، فاعف
عنَّا فإنك أولى بذلك منَّا ومن المأمورين. إلهي كرمت فأكرمني إذ
كنت من سؤالك وجدت بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم".
ثم يقبل عليهم فيقول قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي ما كان مني
إليكم من سوء ملكة، فإني مليك سوء لئيم ظالم مملوك لمليك كريم جواد
عادل محسن متفضل؟ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت. فيقول
لهم قولوا: اللهم اعف عن علي بن الحسين، كما عفا عنَّا وأعتقه من
النار كما أعتق رقابنا من الرق. فيقولون ذلك، فيقول: اللـهم آمين
ربَّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني
وعتق رقبتي.
فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي
الناس. وما من سنة إلاّ وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان
ما بين العشرين نفساً إلى أقل أو أكثر. وكان يقول: إن لله تعالى في
كل ليلة من شهر رمضان عند الإفطار سبعين ألف عتيق من النار، كُلاًّ
قد استوجب النار. فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق فيها مثلما
أعتق في جميعه. وإني لأحب أن يراني الله وقد أعتقت رقاباً في ملكي
في دار الدنيا، رجاء أن يعتق رقبتي من النار. وما استخدم خادماً
فوق حول. وكان إذا ملك عبداً في أول السنة أو في وسط السنة، إذا
كان ليلة الفطر أعتق واستبدل سواهم في الحول الثاني، ثم أعتقوا
كذلك.
ولنقرأ سطوراً مشرقة من التعامل الاخلاقي والانساني الرفيع،
الذي ربما يعده البعض مثالياً جداً، لكنه بالحقيقة درس بليغ لنا
وللأجيال، ولمن يبحث حقاً عن الحرية والكرامة ويبشّر بها من خلال
وسائل الاعلام والاتصال عبر العالم.
روي أن جارية للإمام كانت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط
الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه. فرفع رأسه إليها فقالت له
الجارية: إنّ الله يقول: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } قال: كظمت
غيظي، قالت: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } قال لها: عفا الله
عنك، قالت: { وَالله يُحِبُّ الْمُـحْسِنِينَ }، قال: اذهبي فأنت
حرّة لوجه الله عزَّ وجلَّ.
هكـذا كان يتعامل مع العبيد الذين اعتبرهم بعض الناس ذلك اليوم
ان لهم طبيعة غير طبيعة الإنسان، فكيف لا يؤثر فيهم ذلك الخلق
الرفيع؟
ويروي بعضهم القصة التالية التي تعكس مستوىً رفيعاً من الصفح
والسماحة والإيثار، تقول الرواية:
كان عنده، عليه السلام، قوم أضياف، فاستعجل خادماً له بشواءٍ
كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود منه على رأس
أحد ابناء الإمام، تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال عليٌّ للغلام
وقد تحيّر الغلام واضطرب: " أنتَ حرٌّ، فإنك لم تعتمده "، وأخذ في
جهاز ابنه ودفنه.
نعم؛ عندما يكون الأمر مرتبط ببناء الانسان والمجتمع والأمة،
فان المثالية تتحول الى واقعية –عملية، وهذا ما يعلمنا إياه الامام
السجّاد، عليه السلام، عندما أسهم في تماسك المجتمع والأمة آنذاك.
ولمن يطمح لأن يكون بطلاً في مكافحة التمييز العنصري والقومي، ما
عليه إلا أن يكون في مستوى، أو بالاحرى في المسلك الذي سار عليه
إمامنا الملهم، وكيف حمل تلك الروح السمحة والقلب الكبير والاخلاق
النبوية العالية؟ عندئذ بامكاننا القول: أننا قادرون على تبشير
المعذبين والمضطهدين من التمييز، ليس فقط العنصري، بل جميع اشكاله
في العالم الاسلامي والعالم بأسره، أنهم قريبون من الخير والنجاة. |