شبكة النبأ: عندما نطالع أدبيات
علم النفس الاجتماعي، لاسيما ما يتعلق بالتنمية البشرية، نجد هنالك
توصيات و إرشادات وحتى تجارب تفيد لتطوير قدرات الانسان الذهنية
وترفع من مستواه الثقافي والفكري، وتجعله في مستوى أرقى وأرفع من
الآخرين لأنه يتقن الاستفادة من الوقت، ومن ذكائه لنباء ذاته
وشخصيته، ثم تأثير هذا البناء في هيكلية المجتمع بل والأمة برمتها.
بمعنى؛ أن من يريد الارتقاء بوضعه الثقافي والمعرفي، عليه تصفح
كتب علم النفس متابعة آخر مستجدات التنمية البشرية، وما توصلت اليه
من تجارب في هذا الطريق، فهو إذن؛ متلقٍ من الآخرين، سواء من
الكتب او المنشورات وحتى مواقع النت، أو من ورش العمل التي تقام
على هامش الندوات والمؤتمرات الخاصة بهذا الشأن.
لكن ما بال المختصين في هذا المجال، أن تكون للانسان فرصة متاحة
للبناء الذاتي وبامكانات ذاتية خاصة من كوامنه وأعماق نفسه..؟! ولن
يكون بحاجة الى كتب ومؤلفات، ولا محاضرات طويلة ونظريات رنانة، او
مؤتمرات وندوات مكلفة.
أين تكمن هذه الامكانية والمقدرة يا ترى؟
إنها في أيام محرم وصفر، حيث إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين،
عليه السلام، واسترجاع الدروس والعبر التي خلفتها النهضة الحسينية
الدامية والمدوية على أرض كربلاء. فالبكاء والاستعبار لدى سماع
الحالات المؤلمة والمأساوية التي مرت على الإمام وأهل بيته خلال
هذه الفترة، لا تعبر فقط عن حالة مواساة لشخص مصاب، وإن كانت هي
كذلك، فالمعزّى – حسب اعتقادنا- هو الامام الحجة المنتظر – عجل
الله فرجه- وكذلك رسول الله وابنته الصديقة وأمير المؤمنين، صلوات
الله عليهم، فالجريمة كانت انتهاكاً فاضحاً لقيم السماء وتطاول على
الرسالة المحمدية وعلى كل ما أنزله الله تعالى عبر رسله وأنبيائه،
لذا نقول زائرين: "السلام عليك يا ثار الله وابن ثاره..". إنما
البكاء تعبير واضح عن اندماج وذوبان في القضية.
وقد توصل علماء الطب، الى أن البكاء وفيضان العيون بالدموع،
يأتي من انفعالات نفسية عنيفة في داخل الانسان، فيؤدي ذلك الى
سخونة في الدم، ثم يكون اثر بخار الدم في العيون فتنهمر الدموع.
أما من لا يشعر بهذه الانفعالات، أو يعرف بين الناس بأنه "قاس
القلب" أو "عصي الدمع"، حتى على أعز المقربين لديه، فانه لن يمر
بهذه التجربة، وهذا يقودنا الى التعرّف عليه بأنه عديم العاطفة
والإحساس، وهذا النوع من البشر، ربما يعتقد أن بامكانه فعل أي شيء
دون التأثر بشيء، لكنه يكون مخطئاً جداً، لأن الله تعالى حينما خلق
الانسان، جعل في كل شيء لديه حالة توازن دقيقة، صحيح أنه تعالى جعل
العقل للرجل بشكل أرجح، والعاطفة بنفس الشكل لدى المرأة، بيد أن
الحالتين موجودتان بقدر لدى كل من الرجل والمرأة، وهكذا كان يعلم
النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، اصحابه كيفية تنمية خصلة الرحمة
والرأفة والعاطفة في النفس الانسانية التي كانت في عهده في أقسى
حالاتها، فقد كان يبلغ الرسالة، والى سنوات قليلة خلت كانت أحدهم
يدفن ابنته وفلذة كبده تحت التراب بداعي "العار" وأنها يمكن ان
تتحول الى وصمة عار عندما يشاركون في الحروب وتتعرض للأسر والبيع
وغير ذلك.. ومن أروع وأرقى الصور التي سجلها التاريخ لنا، ما كان
يفعله مع كل من الحسن والحسين، سبطاه، عليهما السلام، وأمام مرآى
ومسمع من المسلمين، والروايات يذكرها الفريقين في كتبهم.
لكن ما الفائدة من هذه الرحمة والعاطفة، التي يرى البعض فيها
تعارضاً مع الجدّية والحزم والتماسك؟
لو نظرنا الى أهم عامل يؤدي بالطغاة الى السقوط والانهيار، مهما
امتلكوا من القدرات المالية والعسكرية والسياسية والمخابراتية،
لوجدنا انه قسوة القلب والانغلاق على الذات بحيث لا يرى سوى نفسه،
و ربما يرى نفسه في المرآة صنماً حجرياً صلداً يجب أن يعبد ويطاع
لأي قرار يصدره، حتى وإن كان فيه فناء الاطفال والنساء والعالم
بأسره. هذا حال بعض الحكام في بلادنا الذين جربتهم شعوبهم، فقد
جلبوا الدمار والويلات والحرمان والتخلف لشعوبهم بسبب الصدأ الذي
ضرب ضمائرهم وقلوبهم. بينما نلاحظ مواقف – ولو انها للاستهلاك
الدعائي- في بعض البلاد الغربية، انخراط المسؤولين هناك في نشاطات
اجتماعية وانسانية تتعلق بالطفل والمرأة والمعوزين او المعوقين في
مناسبات عديدة، وتقديم الهدايا لهم وزيارتهم وغير ذلك. الهدف من
ذلك، هو الإيحاء للطرف المقابل أن المسؤول، مهما كان كبيراً فانه
يعطف عليه بمشاعره وغير بعيد عن أوضاعه وأحواله.
بينما تعلمنا كربلاء الحسين، قبل الآخرين كيف نجعل قلوبنا مرنة
ونفوسنا طرية معشوشبة تجعل الانسان يرى نفسه من خلال مرآة ذاته
وليس المرآة الخارجية، فهو يصلح نفسه وذاته، قبل أن يراه وينبه
اليه أحد. هذه الحالة توفرت لدى الحر بن يزيد الرياحي، الذي تصدّى
للإمام الحسين، عليه السلام، عند شاطئ الفرات وتسبب في منعه من
الوصول الى الماء، وعندما سمعه الإمام يردد عبارات السمع والطاعة
لمن وصفه بالأمير في الكوفة، قال: "ثكلتك أمك يا حر..."! هذه
العبارة تعد قاسية جداً آنذاك ، ولرجل في مقام الحر، وكان بمنزلة
الضابط الكبير في الجيش حالياً، لكن المرونة في قلب الحر جعلته
يعطف الى جانب الامام ويعقد لسانه عن الرد، وقال قولته المشهورة:
"وماذا أقول وأمك فاطمة..."؟ هذه هي العاطفة التي جعلته يهتزّ بعنف
وهو يسمع بإصرار عمر بن سعد بمقاتلة الحسين، عليه السلام، ثم يندفع
نحو معسكر الحق ويكون أحد أبرز الشهداء الذين يقف أمامه الزائر
ويقول: "يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً".
من هنا نفهم، إن البكاء وذرف الدموع ليس بدافع الاستعطاف
والمواساة لما لاقاه أهل البيت ، عليهم السلام، على يد الظالمين،
فقط، إنما هو تعبير صادق عن صفو النفس و مرونة القلب، بحيث تمكن
صاحبها من مراجعة نفسه وبنائها من جديد، من خلال استذكار القيم
والمفاهيم التي من أجلها ضحى الإمام الحسين، عليه السلام، بدمه
وبأبنائه واصحابه. وهنا يتحقق التوازن بين العقل والعاطفة في محفل
الذكر الحسيني، وتكون لدينا عَبرة وايضاً عِبرة، لئلا تتكرر تجربة
أهل الكوفة بسقوطهم الاخلاقي المدوي عندما قست قلوبهم فكانت في
كربلاء كالحجارة بل أشد، عندما شاهدوا بأجمعهم كيف أن طفلاً رضيعاً
يذبح من الوريد الى الوريد، ولم يسقه أحد قطرة ماء.
هكذا مجتمع، وأي مجتمع وأمة تنمو وتتوسع على آلام وآهات
المظلومين، لن يكتب لها النجاح والديمومة ابداً، ومثالنا البارز؛
المغول.. فقد تناثروا واندثروا بعد كل تلك الصولات والجولات التي
دمروا فيها الحرث والنسل في البلاد الفسيحة، فإن بقي شيء منهم،
فذلك بفضل الإسلام الذي استبصروا بنوره، ثم حكموا في ايران ،
وحكّموا التعاليم والشريعة الاسلامية لفترة من الزمن، فبنوا
المساجد وعمروا الأرض. وإذن؛ فبالعَبرة يكتسب الانسان العِبرة
ويستضيئ بها في حياته. |