في الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة، يحضر المتخصصون
دورات سنوية مكثفة الغاية منها تحديث المعلومات وتحقيق الرقابة
الذاتية اما للتطوير او لإصلاح خطا او لإيجاد نوافذ جديدة وآفاق
متجددة من اجل مستقبل أفضل، ولذلك لا تتوقف هذه الدول عند حد من
حدود المدنية والحضارة والرقي، اما في البلدان المتخلفة والتي
يسمونها بالنامية، فقد تمر عليها عقود من دون اي تجديد او تحديث او
رقابة او محاسبة.
انهم ينتظرون محطات التحديث على أحر من الجمر لتتحول بالنسبة
لهم الى دورة تأهيلية او تطويرية سنوية، لان من طبيعة الانسان
الغفلة اذا لم يمر بمثل هذه المحطات.
هذا على الصعيد المادي اما على الصعيد المعنوي فان لمحطات
التاريخ الكبرى دور محوري ومفصلي في عملية التحديث والتجديد
والرقابة والمحاسبة الذاتية، وهو الامر الذي لم تغفل عنه شعوب
الارض المتقدمة، ففي الولايات المتحدة تعتبر ايام مثل الاستقلال
والتحرير والذكرى، يوم الضحايا، من الايام المهمة التي يحتفل بها
الاميركيون بشكل ملفت للنظر، ناهيك عن مناسبات مثل يوم الشكر
وغيرها، فهي ايام مقدسة عندهم تعطل فيها الدولة الفيدرالية، يحتفي
بها البيت الابيض كما يحتفي بها ابسط مواطن.
ولا تشذ شعوبنا عن بقية شعوب الارض فان لها كذلك محطات تاريخية
مهمة تحتفي بها وتحييها، كل على طريقته، الا ان هناك فروق جوهرية
بيننا وبينهم على هذا الصعيد، منها على سبيل المثال لا الحصر:
اولا: الذكرى عندهم حية، تحضر عندهم من ماضيهم الى حاضرهم،
وكأنها حدثت اليوم، ولذلك فهي تترك عندهم اثرا ما في حياتهم
اليومية، ولهذا السبب فالذكرى عندهم ليست تاريخ انتهى او ماض مر،
ابدا، وانما هي حاضر متجدد بمعانيه وقيمه واخلاقياته وفي كل شيء،
اما عندنا فالمحطات التاريخية ماض انقرض وتاريخ غابر، نتوقف عنده
ولا نسعى لاستحضاره، ولهذا السبب لا تنفعنا الذكريات كثيرا، لأننا
نذهب اليها من خلال العودة بحاضرنا الى الماضي، فلا تحضر قيمها
ومعانيها في حاضرنا، انها ماض وليس حاضر، وتاريخ وليس مستقبل،
ولهذا السبب ترى ذكرياتنا جثث هامدة ملقاة امامنا على الارض.
اننا نتعامل مع التاريخ بإحدى ثلاث حالات: فأما اننا نتوقف
عنده فيكون الجسد في الحاضر والعقل في الماضي، وهذا النموذج يمثله
اليوم السلفيون التكفيريون الذين منحوا عقولهم اجازة مفتوحة
وتمسكوا بالنص بلا تفكر او تدبر او تعقل، واما اننا نتجاهل التاريخ
بالمرة ولذلك ترانا نسعى لتكرار كل شيء بأنفسنا كالقرد الذي يقال
انه لا يتعلم من تجارب الاجيال الماضية من فصيلته، واما اننا نخلط
الحدث بالتفسير فننتج تاريخا جديدا على مقاساتنا، ليخدم مصالحنا
واهدافنا، وفي كل ذلك خطا لا ينتج وعيا سليما، ولا يترك اثرا
ايجابيا.
ثانيا: عندهم، الذكرى عامل للتحديث والتجديد ولإصلاح ما فسد من
امورهم، خاصة على صعيد العلاقات العامة، اما عندنا فكل ذكرى هي سبب
جديد لتمزقنا وتفرقنا وتشتتنا، لأننا لا نستنطق قيم الذكرى لتوحدنا
وانما نجتر الحدث في التاريخ الغابر فنتخاصم على شخوصه ورموزه
بالنيابة عنهم بلا وعي وإدراك وعقل منفتح يستوعب الحدث ودروسه
ليؤثر في حاضرنا كدروس تساعدنا على اصلاح شؤوننا وامورنا التعيسة.
وها هي ذكرى سيد الشهداء سبط رسول الله (ص) الامام الحسين بن
علي بن ابي طالب عليهم السلام تحل علينا مرة اخرى، فتعود كربلاء
وعاشوراء لترسم في اذهاننا مرة اخرى قيم البطولة والفداء والتضحية
والانسانية، قيمة انتصار الدم على السيف عندما يكون الاول على حق
ويكون الثاني بيد ظالم مستبد.
فما الذي يجب ان تمثله لنا الذكرى لتترك أثرها في حاضرنا؟ ما
الذي يجب فعله لنستوعب فلسفة الذكرى؟ ما الذي علينا القيام به من
اجل ان نستوعب عاشوراء؟.
ان شهري محرم الحرام وصفر المظفر بمثابة الدورة السنوية
المكثفة التي نشارك فيها من اجل تحقيق التجديد والتحديث والاصلاح
واعادة البناء، فاذا دخلنا هذه الدورة التعليمية السنوية وخرجنا
منها بلا اي اثر او تغيير بشيء ما، فهذا يعني اننا لم نتعلم شيئا
واننا لم نفهم معنى الذكرى ولم نستوعب قيمها، فمثلنا في هذه الحالة
مثل من ينهي دورة تدريبة مركزة مدتها شهرين من دون ان تؤثر لا على
طريقة عمله ولا على دخله الشهري مثلا او السنوي ولا على علمه
وخبرته ولا على موقعه ومكانته ولا على اي شيء آخر.
ان امامنا عدة ايام لنستقبل الذكرى العظيمة، ما يعني ان امامنا
فرصة للتفكير بطريقة التعامل معها اذا لم نكن قد فكرنا بذلك بعد،
او ان نغير من المنهجية التي اخترناها في التعامل مع الذكرى اذا لم
تكن مناسبة مثلا او يشوبها بعض الخطأ او عدم الجدية والواقعية
والحقيقة.
يجب ان تترك الذكرى اثرا على المستويات المهمة التالية:
اولا: على صعيد العقلية التي نفكر ونخطط ونفهم الامور التي
حولنا بها، اذ يلزم ان تغير الذكرى من عقلياتنا التي لازالت تحتكر
الحقيقة المطلقة ولذلك نسعى بكل جهدنا الى الغاء الاخر، او التي
تتوقف عند التاريخ من دون التفكير في الحاضر والمستقبل، فعاشوراء
مستقبل يأتينا من الماضي ليمر من حاضرنا.
اننا بحاجة ماسة الى ان نغير عقلياتنا على ضوء المنهج الحسيني
الذي استوعب الزمن بكل تفاصيله بعيدا عن الانانية والاستئثار
والكراهية وتفضيل الموت الى الحياة.
ثانيا: على صعيد القيم الانسانية التي رسمت معالمها عاشوراء،
فالحرية والكرامة والعزة والشخصية المستقلة ورفض العبودية
والاستبداد وتحدي الظلم والقهر الذي تمارسه الانظمة الشمولية
البوليسية خاصة نظام القبيلة الفاسد الحاكم في دول الخليج وعلى
راسها نظام آل سعود الذي صادر الدين والفتوى والمال العام والاعلام
المضلل وتصرف بمقدسات المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة
التي لم يعد الزائر لها آمن بسبب الممارسات الوحشية واللاانسانية
التي تمارسها ميليشيات الحزب الوهابي المحمي بسلطة الاسرة الفاسدة،
ان كل ذلك نستوحيه من الذكرى العظيمة، والا فلو مرت علينا ونحن
لازلنا عبيدا للنظام السياسي الفاسد او لم نستعيد عزتنا وكرامتنا،
فان ذلك يعني اننا لم نفهم شيئا من فلسفة الذكرى ابدا.
ثالثا: على صعيد المفاهيم الاساسية التي نبني بها مجتمعا سليما
ونزيها وخاليا من الظلم والعبودية والتمييز والقتل، واقصد بها:
الف؛ الجهاد، والذي يبدا من الجهاد الاكبر واقصد به جهاد
النفس، والذي يساهم في اعادة صياغة الشخصية المنسجمة مع نفسها ومع
واقعها فلا يكون {الدين لعق على السنتهم} نتاجر به كذبا وزورا
ونرفعه شعارا ودثارا بلا اثر على سلوكنا اليومي.
باء؛ الاصلاح، من خلال الاستعداد النفسي والروحي لقبول النقد
وممارسة الرقابة الذاتية لنحاسب أنفسنا قبل ان يحاسبنا الاخرون،
فعن الامام (ع) {زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا،
وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا}.
جيم؛ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والذي يعني في جوهره
قبول التحدي على الصعيد السياسي والاجتماعي بما يساهم في خلق مجتمع
سليم خال من الانانية والاستئثار والانا التي تدمر من حولها.
انه يحرض على تحمل المسؤولية الفردية بعيدا عن ثقافة تحميل
الاخرين للمسؤولية للتهرب منها، وبعيدا عن ثقافة (آني شعلية) التي
حولت مجتمعنا الى افراد اتكاليين لا يرتبطون برباط المسؤولية
الجماعية التي تخلق الوحدة المجتمعية والتكافل الاجتماعي.
ان المجتمع الذي لا يتحسس الفرد فيه بالآخرين لهو مجتمع مشلول
لا ينتج نجاحا ابدا، ولهذا السبب نرى ان المجتمعات المنسجمة التي
يتحسس الفرد فيها بمشاعر الاخرين لهو مجتمع انساني يصفه الحديث
الشريف عن رسول الله (ص) بقوله { مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم
وتراحُمهم وتعاطُفهم، مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو، تَدَاعَى له
سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى} على العكس منه المجتمع الذي لا
يتحسس فيه الفرد لا بآلام الاخرين ولا بتطلعاتهم، كل ينادي
(واروحاه) انه مجتمع فاشل بكل المعايير، ولهذا السبب قال رسول الله
(ص) {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به} لان
امثاله لا يتحسسون بشيء بسبب سيطرة الانانية القاتلة على شخصيته،
فهل تبني الانانية مجتمعا سليما وناجحا؟.
رابعا: واخيرا على صعيد الادوات، فعاشوراء التي حملت قيما
طاهرة ابت الا ان تسعى اليها بأدوات طاهرة فلا غش ولا تزوير ولا
كذب ولا نفاق ولا اي شيء من هذا القبيل، فلقد اعتمدت عاشوراء العقل
والمنطق والحوار والدليل، فلماذا اذن لا زلنا نتشبث بأدوات القتل
والفرض والاكراه كلما تحاورنا فيما بيننا؟ الا يعني ذلك اننا لم
نستوعب بعد عاشوراء؟ ان الذي يدعي انه يستعد لإحياء الذكرى العظيمة
عليه ان يسعى جاهدا لإحياء قيمها ومعانيها السامية فلا يكتفي
بالمظاهر والعواطف على الرغم من اهميتها العظيمة فهي مصداق لقول
الله عزوجل {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} الا ان الاهم منها هو الجوهر والمحتوى،
فالعبرة، بكسر العين، اعظم مصداقا لشعائر الله تعالى من العبرة،
بفتح العين.
كيف ندعي الاستعداد لإحياء الذكرى والفساد المالي والاداري
ينخر في مؤسساتنا ومجتمعاتنا؟ كيف ندعي ذلك والحقد والكراهية وروح
الانتقام هي التي تحكم علاقاتنا؟ كيف ندعي ذلك والتمييز الديني
والمذهبي والاثني والمناطقي و(المرجعي) هي التي تتحكم في مصائرنا؟
كيف ندعي ذلك والجهل مطبق في واقعنا وعبادة الشخصية وصناعة الاصنام
والذلة للمسؤول هي التي تسيطر على شخصيتنا الحقيقية والحقوقية لا
فرق؟ كيف ندعي ذلك وقد فقدنا الانسانية في الاسرة وفي الجامعة وبين
الحاكم والمحكوم وفي العمل؟ كيف ندعي ذلك وقد غابت عنا كل معايير
النجاح كالخبرة والنزاهة والمعرفة والعلمية لتحل محلها معايير
الفشل كالمحسوبية والحزبية الضيقة والانانية والانتماء للعشيرة او
المنطقة بدلا من الانتماء للوطن، المواطنة، وغيرها من المعايير
التي دمرت مجتمعنا وكادت ان تاتي على مؤسسات الدولة من القواعد؟.
ان من يستعد لإحياء الذكرى، عليه اولا ان يستحضر قيمها
ومعانيها السامية ليستنطقها دروسا تترك اثرها البليغ في حياته
اليومية، والا فلا قيمة للذكرى ولا معنى لإحيائها سوى العبث وتضييع
الوقت والجهد.
ان اية محاولة لإحياء ذكرى، اية ذكرى، لا تترك الاثر المطلوب
في حياة الانسان لهي عبث لا طائل من ورائه، ولذلك تعالوا نحرص على
احياء الجوهر قبل ان نحرص على احياء المظهر، ونحرص على احياء
العبرة قبل ان نحرص على احياء العبرة، ونحرص على احياء المعاني قبل
ان نحرص على احياء الاشكال.
لتكن ذكرى عاشوراء هذا العام منطلقا للتغيير الذاتي على مستوى
العقلية والشخصية والنفسية، لتتحول الذكرى الى مصدر للتحديث
والتغيير والرقابة الذاتية والمجتمعية على حد سواء، ولنبتعد قليلا
عن القشور ونقترب اكثر من الجوهر، ولنبتعد قليلا عن المظاهر لنقترب
قليلا عن المعاني، وبذلك فقط يمكن ان تكون الذكرى مصدر الهام لنا
في عملية التغيير الكبرى التي ننتظرها كل عام.
على الاقل ليمتحن الواحد منا نفسه ليتأكد بانه ليس من مصاديق
قول سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام {الناس عبيد الدنيا،
والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محّصوا
بالبلاء، قلّ الديّانون} او ليمتحن نفسه في قوله عليه السلام
{هيهات منا الذلة، يابى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور
طهرت، وجدود طابت، وأُنوف حميّة، ونفوس أبيّة أن يؤثر طاعة اللئام
على مصارع الكرام} لنتأكد باننا فعلا قد نجحنا في اختبار الادعاء
فلسنا من الذين يكذبون على انفسهم او يضحكون على ذقونهم يقولون ما
لا يفعلون ويدعون ما لا يلتزمون به وينتمون بلسانهم ولا ينتمون
بعقولهم ووعيهم.
فسلام على ابي الشهداء الحسين (ع) الذي منح الله تعالى كل شيء
من اجل الانسان ودينه الحق، فمنحه الله تعالى حب الاحرار في العالم
وعلى مر التاريخ، فتخفق قلوبهم الى مثواه في كل عام، بل في كل حين.
[email protected]
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nezarhaider.htm |