حين تفقد السلطات الشرعية، فإنها تستخدم تقنيات متعددة للسيطرة
على الآخرين أو «ضبط الرعاع» و«ترويض الوحش» إذا استخدمنا
المصطلحات التشومسكية، نسبة إلى نعوم تشومسكي.
تتراوح تلك التقنيات بين الترهيب أو ما يعرف اليوم بسياسة العصا
الغليظة أو القبضة الحديدية، حيث يستخدم البطش والتنكيل والسجن
والنفي والحصار بشتى أنواعه لإرهاب الناس وإرغامهم على قبول الواقع
والتعايش معه؛ وبين الترغيب وما يعرف بسياسة الجزرة لاستمالة بعض
قوى التأثير الاجتماعي وكسبها إلى جانبه من خلال قوة المال
والمناصب، وكثيرا ما تفلح في ذلك، إذ «الناس عبيد الدنيا» كما قال
الإمام الحسين ؛ وبين الجمع بين العصا والجزرة في عملية احتواء
مزدوج.
الإمام الحسين (عليه السلام) كان على نقيض السلطة تماما يرفض
استخدام أي من هذه الأساليب لتطويع الناس. فقد خرج مطالبا بالحرية،
ولا يقبل أن يكون معه إلا الأحرار الذين يختارون مواقفهم الحرة
انطلاقا من قناعاتهم الراسخة دون أدنى إملاء.
لذا كان واضحا في جميع خطاباته من أولها لآخرها. أعلن منذ
البداية أن أنصاره ينبغي أن يكونوا ذوي صفات متميزة، عمادها القرار
الحر: «من كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل
فإني راحل مصبحا إن شاء الله».
وإذا كانت السلطات عموما حتى الديمقراطية منها، تقدم في الظروف
الاستثنائية على تقييد الحريات بإعلان حالة الطوارئ، فإن الحسين
(عليه السلام) ظل حتى النهاية متمسكا بخيار الحرية. فبالرغم من
بيعة أصحابه الصادقة له، واجتيازهم للعديد من محطات التصفيات
الدقيقة، فإنه ترك لهم الخيار لاتخاذ قرارهم دون أي ضغوط أو إكراه،
ولم يفرض عليهم شرعيته الحقة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أحلهم من
بيعتهم له دون أي تبعات. فقد خاطبهم ليلة العاشر من المحرم قائلا:
اللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا
أصحابا هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون، وأنتم في حل من
بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد
غشيكم فاتخذوه جملا، وتفرقوا في سواده، فإن القوم إنما يطلبونني،
ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري.
يقول التاريخ متحدثا عن قرارات الأنصار الحرة ردا على خطابه
الأبوي الرحيم: فقام إليه عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب،
فقال: يا بن رسول الله، ماذا يقول لنا الناس إن نحن خذلنا شيخنا
وكبيرنا وسيدنا وابن سيد الأعمام، وابن نبينا سيد الأنبياء، لم
نضرب معه بسيف، ولم نقاتل معه برمح! لا والله أو نرد موردك، ونجعل
أنفسنا دون نفسك، ودماءنا دون دمك، فإذا نحن فعلنا ذلك فقد قضينا
ما علينا وخرجنا مما لزمنا.
وقام إليه رجل يقال له زهير بن القين البجلي، فقال: يا بن رسول
الله، ووددت أني قتلت ثم نشرت، ثم قتلت ثم نشرت، ثم قتلت ثم نشرت
فيك وفي الذين معك مائة قتلة، وإن الله دفع بي عنكم أهل البيت.
إن ما أنجزه الحسين (عليه السلام) من ممارسة للحرية حتى في أقسى
اللحظات الحرجة هو من أعظم دروس كربلاء حيث انتصر الحسين للحرية
بالحرية والأحرار.
http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194 |