أين التراب وأين رب الأرباب؟ أين المريد وأين شعائر الشهيد؟
سؤال أبعاده لا تقتصر على إظهار الفارق أو المسافة بين الأسمى
والأدنى أو الأشرف والأخس، لأنه يشعشع الضياء كذلك بنور المعنى على
قضية الإدراك المهمة. الأدنى لا يدرك الأسمى ولا يحيط به علماً.
فإذا الأدنى إرتقى في مدارج المعرفة، آنذاك يمكنه فهم وإستحسان
الأسمى.
اليوم لا تجد من سحرة فرعون الجدد متهجماً على شعائر الحسين
يلقي ما في يمينه إلا وواجه القرآن في " لا تخف إنك أنت الأعلى
وألق ما في يمينك".. على أن سحرة فرعون القدامى " قالوا يا موسى
إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى"، في حين أن سحرته في هذا
الزمان هم أول من يلقي دائماً دون إخطار أحباب الحسين والنظر إلى
ما في يمينهم بعين الإنصاف.
الدكتور أحمد زقاقي الذي نقترب من إكمال كتاب في الردود على
مغالطاته حر في أن يلبس البياض في أيام أحزان أبي عبد الله. في مثل
هذه الأيام التي سبيت فيها الفواطم وقصم فيها ظهر الإسلام وارتكبت
أبشع الجرائم الإرهابية على مر التاريخ هو حر أن ينشر صوراً بيضاء
الخلفية ويكتب عن فضائل الخلفاء أو مشايخ البوتشيشية السياسية التي
هو من مريديها. هو حر أن يسمي ابنه يزيدا أو معاويةً أو هما معاً
تيمناً برموز المدرسة الناصبية. هو حر أن يشتري الفرقعات لعائلته
والدفوف والحلاوي. يمكنه أن يتجمل أو يتبغل أو يتفيل إن شاء ليقود
مواكب الفرح والسرور في مثل هذه الأيام الحزينة على قلب الإنسان.
لكن الذي لا حرية له فيه هو السطو على موضوع لا يفقهه بمقال
عنوانه" الحسين وكربلاء والشعار الفلسطيني "(هسبريس 20/11/2012)
ليمرره للقراء بخاتم العضوية في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين،
فيتبعه في ضلاله الكثيرون دون حصولهم على المجال للوقوف عند مختلف
الآراء المتعلقة بالموضوع. وحيث أن الذي كان في يمينه وألقاه لم
يتعدى في طبيعته إثارة الشبهة، كان أولى توضيح ما غاب أو غيب في
موضوع الشعائر الحسينية عن فقيهنا أملاً في أن يتوخى الحذر في
المستقبل عند مقاربة المواضيع الكبيرة.
في روح المقال
لقد إستهل الدكتور المريد حديثة عن شعائر الشهيد ببيتين شعريين
لبولس سلامة لإستنهاض همم الأحــــرارا لينادوا دولة الظلم لكي
تحيـد نقلنا منهم لشعار الحسين ع. هذا عوض " إظهار الحزن الشديد،
وشق الجيوب، وضرب الرؤوس والظهور بالآلات الجارحة"، التي شكلت "
نوعا من التعبئة المستمرة التي تفتل في حبل الأمن المذهبي، ولصق
بها من الانحرافات والبدع ما سمم العلاقات بين الشيعة وأهل السنة،
وأعاقت - في كثير من الأحيان- فض الاشتباكات المذهبية التاريخية،
وبدأت نذر حرب طائفية طاحنة تظهر في الافق"، على حد قول الدكتور
الذي أضاف:" وإن الطريقة التي تخلد بها الشيعة الذكرى الأليمة في
كل عام لا تُسهم في تهدئة النفوس". ولعل ربطه لما سبق هنا بما
أسماه "سعي العصابة الأسدية" لإشعال نار الحرب الطائفية ليس من
قبيل الصدفة. مقدمة نفهم منها أن الشعائر الحسينية هي سبب التوتر
الطائفي وأن الشيعة كان عليهم تحييد الدول كما تسعى جماعته في
المغرب لكي يكونوا حسينيين. ومثل هذا الطرح الملغوم والمتقطع
الأوصال فاق المغالطة المركبة في الكلام. فإذا بدأنا بالشعائر في
حد ذاتها كتعبير عن الحزن كانت شقا للجيوب أو ضرباً بالسلاسل أو
تطبيراً فهي أمر يتعلق برؤيا وقناعات طائفة من المسلمين اساسها
شرعي عندهم في الحكم تاريخي في قراءة الأحداث التي لا ينكرها
الدكتور نفسه.
فما علاقة شعبان بشبعان يا ترى وكيف يسمح لنفسه بالإنحشار في
حرية المعتقد للآخر؟ كان أولى به الحديث عن طائفته الصوفية التي
يأكل فيها المريدون الجمر والزجاج ويدخلون الخناجر في رؤوسهم
ويفترسون الحيوانات وهي حية قبل أن تذبح في طقوس تشوبها مخالفات
شرعية وقانونية تصل ولا تنحصر في جرائم الوحشية في حق الحيوانات
وجرائم النصب والإحتيال على المواطنين. فترى صاحبنا ترك كل هذا
ليحجز حق الشيعة في التعبير عن احاسيسهم بطريقة يكفلها الشارع
المقدس وتتبناها الأعراف الكونية. لكن الذي يحلم بدولة خلافة شيخ
الطريقة لا يتوقع منه الإلتحاق بعالم الدولة المدنية. عالم يعرفه
المريدون فقط لأجل استغلاله في قضايا السجناء وما شابه، لكن لما
يكون الأمر متعلقاً بحق الإنسان بما هو إنسان تجدهم أول المتنكرين.
"قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى" آية تجعل الذين في
المواكب التي ينكر عليها الدكتور يستشعرون مآسي الأيام الحزينة عسى
أن يوفقوا في استشعار لحظة من لحظات الخوف والجزع التي انتابت
وجدان الفواطم وأطفال آل محمد. صاحبنا يقضي الليالي العاشورائية
مشغولاً برش المسك ولبس البياض وإستهلاك "الفاكية" والتبرك بأيام
تبرك بها آل زياد وآل مروان. ومع كل ذلك الشيعة يقولون للمريد ذاك
شأنك، فيجيبهم المريد بأن لا شأن لهم. انها أزمة أخلاقية بإمتياز.
ولقد حاول صاحبنا الإيحاء بأن حركة الحسين عليه السلام حركة
إشعال للحروب وإراقة الدماء لقلب الأنظمة كما هو حال اخوانه في
سوريا اليوم وكما هو حال أصحاب الجمل منذ قرون خلت. والحسين لم
يبدأ أحداً بقتال وإستجاب دعوة الذين بايعوه لإقامة الحجة عليهم.
الإنسان حر في أن يبايع أولا يبايع، وحر في التعبير عن قناعاته
كانت الرسالة الواضحة في حركته عليه السلام المعبر عنها في: "من
لحق بنا استشهد ومن تخلف عنا لم يدرك الفتح". انها صرخة الأحرار
التي سطرت إنتصار الدم على السلاح والإرهاب. فلا الحسين ع أرسل
انتحاريين إلى دمشق ولا هو فتك بعدوه كما يفعل الأمويون الجدد
بمباركة علماء الحلم الخلافوي.
وحتى على فرض صحة رؤية الدكتور لحركة الحسين ع، فإنه يبقى من
المعيب أن يطالب السوريين بنهج الحسين - كما يتخيله هو- في حين
يعطل نهج الحسين في الدوحة والرياض والمنامة. ولقد سمعنا أن شيوخه
اعلنوا هذه الأيام تخليهم عن النهج الحسيني -كما يتخيلونه- في غزة
حيث يختلط دم المسلمين بدم اليهود، في حين أبوا إلا أن يسفك دم
المسلمين في سوريا. ألا إن لكعب الأحبار منزلةً في قلوب الشيوخ لا
يعلمها إلا الله. فلا يغرينك كلام الدكتور عن " مواجهة الظلم
والظالمين ودوائر الاستكبار الأمريكية والصهيونية التي تريد
السيطرة على مقدرات المسلمين والمستضعفين"، فقد اثبتت أيام ما بعد
الربيع الأعرابي الذي ضرب بعد الدول أن اقران فقيهنا أكثر الناس
حرصاً على إراقة دماء المسلمين والمساومة بأرواحهم ومعاناتهم من
أجل الحكم. فإذا حكموا كانوا خير مثال ليزيد حيث لا يعدلون حتى في
ظلمهم الذي يوجهونه ضد أحباب الحسين خاصةً.
في الثلاثية الزقاقية
إستدل الدكتور زقاقي بثلاثة أفكار لتبديع الشعائر الحسينية
نناقشها الواحدة تلو الأخرى:
1- كون" واقعة كربلاء ليست بتلك الأهمية البالغة من ناحيتها
الجنائية، فعدد ضحاياها قليلون جدا بالمقارنة مع ضحايا الحروب
الصليبية مثلا، ولكن أهميتها تنبع من تلك الصفحة البيضاء من
القصة". وهذا كلام لا يصدر عن باحث في الإسلام ناهيك عن متخصص. انه
لتعبير عن جهل فقيهنا بمقام سفراء الوحي وترجمانه الذين لهم أحكام
خاصة أغلبها لا تنازع فيه بين المذاهب. الدكتور يحمل فكراً طلحوياً
يرى به أن الأنبياء والأوصياء هم كسائر الناس. فذاك قال إنه سيتزوج
إحدى أزواج النبي بعد موته وهذا يقول أن جريمة إستئصال بيت النبوة
أقل من الناحية الجنائية من مخلفات الحروب الصليبية. والشرع رد بكل
وضوح على مثل هذه المزاعم محرماً حرمة ابدية الزواج بنساء النبي
حتى من بعده. كما أنه جعل لمن ترتكب الفاحشة من أزواجه ضعف العذاب
وجعل الحسين ع ممن تحرم عليهم الصدقة وغير هذا من الخصائص التي
ثبتت للرسول وأوصيائه. فمن أين جاء بالقول أن إستئصال بيت النبوية
وسبي نسائه أقل أهمية من الناحية الجنائية؟ إذا كان الرسول والإمام
ثبتت لهم أحكام استثنائية كما هو واضح في أمور عرضهم وشرفهم، فما
بالك من أمر أهم وهو أمر دمهم عليهم السلام؟ هكذا ترى أن الدكتور
لا يدرك مقام الرسول ولا يدرك مقام الإمام الحسين، ويهذي بما يؤذي
تلعب به أمواج بحر دخله بزورق طائش وعلم زائف.
2-: قوله أنه " ليس لتلك الأعمال مرتكزات شرعية مستمدة من نصوص
دينية، أو إيحاءات من شخصيات معصومة، والفتاوي المجيزة لها لا تثبت
عند الفحص العلمي". وهذا من جملة العموميات البسيطة. لا هو أتى
بعلة التحريم ولا هم يحزنون.
3- قوله معتمداً على مقتطفات من كلام محمد حسين فضل الله
أن:"تلك الأساليب لا تنسجم مع طبيعة المأساة لأن "طبيعة المواساة
تتبع طبيعة المأساة". متسائلاً:" "كيف نوفق بين هذا كله، وبين ضرب
الرؤوس بالسيوف، أو جرح الظهور بالسلاسل، أو إدماء الصدور باللطم،
ولا ندري ماذا تحقق هذه الأمور؟". أقول: هذه الشعائر تحقق ما لا
تحققه أدبيات المنهج الإشتراكي ومنهج الإسلام السربوني اللذان
حاولا الإتيان بعاشوراء الجانتلمان وربطة العنق واللطم الخفيف،
فأدخل على اللطم الخفيف المزمار والبيانو والطرومبيط حتى صرنا لا
نميز بين الأغنية وقراءة المأتم. كان بإمكان النهجين المذكورين ومن
دون أن يشنعا على غيرهم إبتكار مجالس تخصهم لا تهز فيها المشاعر
ويجتمع فيها المعزون للحديث عن الوحدة الإسلامية وطمس الحقائق
التاريخية وتقديم التنازلات في العقيدة.
من المؤكد أنهم بعد بضع سنين سينتجون أجيالاً عاجزة عن معرفة
تفاصيل كربلاء وبالتالي لن يكون لها الإرتباط المفروض بقضية الحسين
ع. إن الشعائر الحسينية هي التي حملت الحقائق على مر السنين. شعائر
أهم اهدافها إجتناب أجيال لا تفرق بين النبي وباقي البشر. انها
إعادة إحياء الواقعة والفاجعة ومحاولة العيش في الزمن الكربلائي.
انها وصف للواقع الدموي وهل يكون وصف الدم إلا بالدم؟ أم أنهم
أرادوا وصف الدم بباقات الورود ! انها أيام اللطم والزنجيل
والتطبير. أيام نجرب في كل ليلة من لياليها الموت على الطريقة
المسلمية والحبيبية والقاسمية والعباسية ونجرب في اليوم العاشر
الموت على الطريقة الحسينية، ولا نفلح.. لذلك نقول:" يا ليتنا كنا
معكم سادتي فنفوز فوزاً عظيماً". اننا نسافر بالمواكب من كربلاء
إلى الشام ونعاين سبي الفواطم ونطوف وراء الرؤوس المحمولة على
الرماح.. اننا نعزي الرسول وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء ونحقق
المودة في القربى بهذه الشعائر. فيا من اطمأن بصلاة بتراء على
الرسول يستغفر بها له، عجبت من لبسك البياض في مصرع فلذة كبده ولم
تأت لتقدم له التعازي وتشاركه الذكرى الحزينة. وليتك اكتفيت بذاك
وما تجرأت على بهتان المعزين في أيام العزاء وسرقة قضية الحسين
لأجل عفطة عنز.
ختاماً ملاحظة وتساؤل. في هذه الأيام يتعرض زوار الحسين في
العراق لتفجيرات ارهابية ينفذها انتحاريون لم يسل فقيهنا قلم نقده
عليهم حفظاً لدماء المسلمين. في هذه الأيام يتعرض المقيمون لعزاء
الحسين في باكستان لهجمات انتحارية قل نظيرها بل ولم نر لها نظيراً
قط في فلسطين دون أن يكتب في أمرها فقيهنا عشرات الصفحات التي
كتبها عمن يمارس شعائر دينه في مجاله الخاص. إذا كان هم فقيهنا حشر
نفسه في طقوس الآخر بل وتلبيس طقوس الآخر مسؤولية جرائر عالم
السياسة ظلماً وبهتاناً، أليس هذا يجعل منه داعماً للإرهاب عبر
التبرير له وإن بطريقة غير مباشرة؟ أليس الأهم بالنسبة لمن سموا
أنفسهم علماء للمسلمين العمل عل حفظ دماء المسلمين؟ |