كان اخطر ما واجه الرسالة الإسلامية بعد رحيل قائدها الرسول
الأكرم (صلى الله عليه واله) هو الانقلاب على تخطيطه لمسيرة
الإسلام وتهيئته للبديل المناسب لخلافته في قيادة دفة الرسالة
الإسلامية والانطلاق لعالميتها.
ولكي لا يترك الحبل على الغارب وضع النبي المصطفى (صلى الله
عليه واله) لبنات مشروعه القيادي بالتدريج لتكون نهاية ذلك البناء
اعلانا لا يقبل التأويل والطمس وذلك في حجة الوداع يوم الوصية
الشرعية بنيابة وخلافة وإمرة علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة
ووصيا من بعده..
ولكن يبدوا أن نوايا الانقلاب على مسيرة الإسلام كانت حاضرة
وبقوة في مشاريع الطامحين إلى التسلط على رقاب المسلمين في كل
مراحل مسير الرسالة ولم يكن يعيق تحقيق ذلك الطموح غير المشروع سوى
غياب القائد عن الساحة، لذلك لم يمر وقت طويل قبل أن يكشر هؤلاء
الانقلابيون عن مشاريعهم الخطيرة (الانقلابية) على وصية رسول الله
(صلى الله عليه واله) بوجوب استمرار مسيرة الإسلام وفق ما أسس ووضع
له من بنيان في أكثر من مناسبة ومحفل عندما أشار بوضوح إلى تنصيبه
للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) خليفة وقائدا من بعده ليقطع
الطريق على المتربصين بالرسالة الإسلامية من الأعداء الخارجيين
والطامعين بالرئاسة من الأعداء الداخليين.
وهيأ الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) لمشروع القيادة
البديلة بالتمهيد لها في حجة الوداع وبتبليغ من الله تعالى (يا
أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك) وبتبيان ضرورة هذا التبليغ
الإلزامي وارتباطه بالرسالة وكمالها (فأن لم تفعل فما بلغت رسالته)
ثم كفى الله جل وعلا رسوله الأكرم (صلى الله عليه واله) مكائد
وشرور الانقلابيين (والله يعصمك من الناس) فأتم النبي الأكرم الحجة
على المسلمين الذي اجتمعوا على بكرة أبيهم في ذلك المحفل الإلهي
والموسم العبادي، وبلغ وأشهد الله تعالى على تبليغه للناس بولاية
علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتنصيبه خليفة وقائد للأمة
الإسلامية من بعد الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله).
ثم كانت الخطوة الأهم للتمهيد لتسنم أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام) مهمة خلافة النبي الأكرم (صلى الله عليه واله)
بعثه لكل الانقلابيين المحتملين مع جيش يقوده الشاب ذو التسعة عشر
عاما أسامة بن زيد والذي خرج لمجاهدة الروم فألزمهم بالخروج تحت
قيادة أسامة رغم احتجاجهم ورفضهم لذلك الأمر فور صدوره إلا ان
خروجهم على مضض كان النتيجة الحتمية بعد هزت دعوة النبي (صلى الله
عليه واله) على المتخاذلين عن الخروج مع جيش أسامة حتى وصل الأمر
ان لعنَ كل من يتخلف عن طاعة أوامره الشريفة، إلا أنهم ما أن أحسوا
بدنو اجل النبي الأكرم (صلى الله عليه واله) حتى عادوا إدراجهم غير
عابئين باللعنات النبوية ولا لما يشكله ذلك الانقلاب على توجيهات
الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) من خطورة بالغة.
ولم يترددون في التوجه فورا إلى المسجد النبوي لمتابعة تنفيذ
مشروعهم الانقلابي وكان استكبارهم وجرأتهم المشهودة في حضرة النبي
(صلى الله عليه واله) وهو يعيش آخر ساعات عمره الشريف مانعا لتحرير
وصيته في كتاب يعصمهم ويعصم المسلمين من الضلال ووصل بهم الطغيان
والعتو أن منعوا النبي (صلى الله عليه واله) من إتمام كتابه وعبروا
عن مكنونات صدورهم المليئة بالطمع والمشبعة بالانقلاب ليصفوا من لا
ينطق عن الهوى بأنه (يهجر)؟!
لقد عانى الرسول الأكرم (صلى الله عليه واله) في حياته لا من
جبابرة قريش وكفارها فقط ولم يكن الأذى الذي وصف فداحته بقوله (ما
أوذي نبي مثل ما أوذيت قط) يدل إلا على أذى قريش المادي والأذى
المعنوي الذي كان يعرضه إليه الجهلة من أصحابه ومن يراجع تاريخ
مسيرة الإسلام في المدينة المنورة يمكن أن يستنتج جزء يسير من حجم
ذلك التمرد والعصيان والضغط والأذى التي صدر من المحسوبين على
صحبته والتي كادت في العديد من المواقف أن تؤدي إلى نهاية مسيرة
الرسول والرسالة لولا حفظ الله تعالى ورعايته ونصرته لنبيه المصطفى
الأكرم (صلى الله عليه واله).
وهل يمكن أن يتصور المسلم في الوقت الحاضر أن يعمد المسلمون إلى
ترك جسد رسول الله (صلى الله عليه واله) مسجى في فراش الموت دون ان
يبادروا لأداء مراسيم غسل جنازته والصلاة عليه أو مواراته الثرى
ويفضلوا بدل أداء الأقل المجزي من إظهار الاحترام لهذه المصيبة
والفجيعة الكبرى إلى المبادرة لسقيفة بني ساعدة والإعداد لمسرحية
تنصيب الخليفة الأول بمشاهد تمثيلية تم حياكتها وإرغام الحاضرين
على مشاهدتها والتصفيق في نهاية فصولها لإبطالها تحت تهديد السلاح
والحصار مستغلين انشغال الإمام علي وبني هاشم بتجهيز الجثة الشريفة
والقيام بمراسيم الغسل والصلاة والدفن..
هكذا كان جزاء المسلمين لرسولهم الأكرم (صلى الله عليه واله) في
حياته وفي مماته فلم يجدوا لرد الدين سوى الانقلاب على وصيته ونقض
عهده ليؤسسوا بعد ذلك للانحراف الذي هتك الرسالة وضيع معالمها وشوه
دستورها بعد أن تسلط على رقاب المسلمين شذاذ الأفاق وأصبح الطريق
معبدا بدماء الأحرار وفتاوى وعاظ السلاطين أمام كل سفيه أن يتسلط
ويستبد على رقاب المسلمين ووليا لأمر المسلمين وحكما وخليفة
بالنيابة عن الرسول والرسالة.. |