شبكة النبأ: كنت منشغلا بمطالعة
كتاب (خريف المثقف في العراق) وانا استقل سيارة الكيا المتوجهة الى
كربلاء او تحديدا الى سدة الهندية بمقدار اربعين كيلو مترا قبل
الوصول الى تلك المدينة المقدسة.
انشغالي بالقراءة حجب عني ربما الكثير مما كنت أود رؤيته.. في
حديثه عن مثقفي الداخل والخارج، سمعت المراة التي تجلس بجانبي
تتحدث بلهجتها عن عن هذه الثنائية ولكن هذه المرة عن متديني الداخل
والخارج.
لم المس في احاديث الراكبين معي شيئا من (رمزية القتل) او
بعبارة أدق كما ذكرها الكاتب (القتل الرمزي) والتي تساوى فيها
الجميع كما يقول.. بل سمعت الكثير من هذا التسامح والرقة والشفقة
التي يبديها الشيعي عادة بحكم ما اصطلح عليه بالمظلومية والتي تقف
الى جانب المظلوم دائما وتبحث عن العدالة له.
وضعت الكتاب في حقيبتي بعد الانتهاء منه، يختم محمد غازي الاخرس
سطوره بكلمات للمثقف العضوي كما صنفه الكاتب وهو كامل شياع الذي
كان ضحية فجة للقتل المادي..يختم الكتاب على لسان شياع بقوله: (اي
اوجاع سرية يحمل المنفى، اي شفاء يحمل الوطن؟).
أتأمل بهذه الكلمات التي عكست ما عاشه كامل شياع وأحاول ان
اعكسها بصورة اخرى: اي اوجاع سرية وعلنية يحملها مقتل الحسين في
قلوب شيعته، واي قدرة شفاء تحملها زيارة الاربعين؟
لست مغاليا في هذا الوصف، وكنت ليلتها قد سمعت اكثر من تفسير
حول الزيارة تلك.. على حد قول استمعت اليه ان الارض تطوى تحت اقدام
السائرين في طريق الزيارة.. هل قارنت بين مسير عادي لوجهة معينة
ومسير مفعم بالايمان والعقائد لزيارة الحسين؟
الزمن ليس نفسه مهما كابرت، والمسافات غير التي تعهدها.. لماذا
لا تشعر بنفس التعب الذي تستشعره قدماك وانت تسير ولو لساعة واحدة
حين تحاصرك الزحامات في بغداد على سبيل المثال؟
كان جلوسي في المقاعد خلف السائق وبمواجهة الراكبين الاخرين..
كان بامكاني التطلع في وجوه السائرين وانا انظر اليها.. الجو معتدل
فيه مسحة من برودة هاربة من ساعات الصباح.. لا اثر لهذا التعب او
الانهاك المفرط على الوجوه.
الخطى متسارعة مع بعض التوقفات القصيرة عند المواكب المنتشرة
على جانب الطريق الايمن.. اصحاب المواكب يتوسلون كي تقف لتشرب من
شايهم وتاكل من زادهم (تفضل زاد ابو عبد الله).. كل شيء فيه وفرة
كبيرة.. عدم الوقوف لا يمنعهم من اللحاق بك ورمي ما تجود به
اياديهم (سفرة ابو علي).. فاكهة منوعة، قناني ماء، سندويجات كباب
مشوي، او دجاج. وانت في كل هذا ماخوذ بهذا الكرم الحسيني..اهلا بك
يا زائر.
اين هو الكرم الحاتمي؟
كان حاتم طي ينحر حصانه لإكرام ضيفه القادم من متاهة الصحراء،
لكن حاتم الحسين ينحر روحه احيانا وهو يقدم صور كرمه الحسيني
المتنوعة.
لو قطّعوا اليدين والرجلين
نأتيك زحفا سيدي الحسين.
والكرم سجية عراقية بامتياز.. هل تراها اخذت من سجايا العباس
وصحب الحسين وهم يجودون بدمائهم دفاعا عنه؟ ام هي سجية اخذت من كفي
العباس المقطوعتين يرومان اطفاء عطش استحكم على شفاه ابنة اخيه
الحسين؟
الكرم سجية عراقية بامتياز.. هكذا تخبرنا قصة المواكب الممتدة
على طول الطرق التي يسلكها السائرون باتجاه كربلاء.
هل من مقارنة بين صورتين من كرم حاتم طي وحاتم الحسين؟
المواكب على الطريق لا تحتمل التاويل..
الكيا في غير الرحلة التي اقصدها هي منبر من لا منبر له كما
وصفتها في مقال سابق، لكنها الان حياة مصغرة بكل تلويناتها الخيرة
والنبيلة. لا تجد شرا باديا للعيان عبر سلوك او اشارة او كلام.
محض نبل يبدأ من سائق الكيا الذي له سمعة لا يتفاخر بها لدى
عامة الناس، مرورا بحامل فناجين القهوة العربية، او الذي يمسك
ابريق الشاي الساحر بالنسبة الى العراقيين وهو يصبه في الاقداح او
الاستكانات. (شاي ابو السجاد).
رز وبامية في اول قطافها.. كباب شوي، فلافل، كص دجاج ولحم، سمك
مقلي ومشوي، داطلي، زلابية، كعك، شلغم، مروقات بانواعها.. لتستريح
على الفراش بعد مسيرة ساعات.. تمتد الى جسدك اكثر من يد، تدليك
ومساج مجاني.. حتى في منزلك لاتجدها بهذا الاندفاع وهذه السرعة.
يبلغ باحدهم عشق خدمة الحسين وزائريه والشغف بها حدّ تصليح
احذية الزائرين التي تقطعت خيوطها نتيجة لطول المسير وصلابة
الاسفلت.. وهي خدمة فيها من الاذلال الشيء الكثير خارج ايام تلك
المناسبة رغم اقترانها بمتطلبات الرزق والكدح الحياتي اليومي
لتامين لقمة العيش. لكنها هنا مفخرة وصورة من صور التباهي ومدعاة
لفرحه وسروره حين يقبل عليه احدهم طالبا تصليح ماتقطع من نعله او
خيوط حذائه..
كيف تمنح المعاني تلك الرفعة والسمو لمثل هذه الاعمال؟ اي فخر
يستشعره هذا الانسان البسيط وهو يقوم باصلاح احذية الاخرين؟ انه
خادم مرفوع الراس في حضرة سيد جبار الحضور يملؤه بكل معاني الكرامة
والشموخ.. انه سيده الحسين.
خادم ذليل تحقره الناس
وصمة عار بجبينه الخدامة
خادم الحسين الرافع الراس
يظل بهيبته ليوم القيامة
لا يقتصر هذا الكرم الحسيني على الشراب والطعام بل يتفرع الى ما
يتعلق بالنوم والاستحمام والنقل.
كثير من البيوت تفتح ابوابها لاستقبال السائرين على درب
الزيارة.. والجميع يتوسل بك ان تحل ضيفا عليه في بيته.. انه يفرش
لك قلبه وعينه قبل فراشه تستحم ويغسلون ملابسك من غبار الطريق
وتبيت ليلتك عندهم.. في الصباح يحملونك امنية صغيرة.. ادعوا لنا
عند الحسين.
في موسم زيارة الاربعين هناك عدد من النشاطات والفعاليات التي
ترافق الزيارة.. وهي لا تقتصر على جانب الطقوس الدينية بل تشمل
انواعا اخرى من الطقوس.
هناك المكتبات المتنقلة، وهناك المسرح الحسيني، ومعارض الرسم،
والمجسمات الفنية التي تحكي قصة كربلاء ومواقف ابطالها.
دخلت الى ما يشبه المتحف البغدادي وهو عمل فني قامت به مجموعة
من النساء.. وانت تشاهد تلك المجسمات تعجب لهذه الدقة في التقاط
ادق التفاصيل التاريخية وتجسيدها بالقطع الفنية.. بقع الدم، الثياب
الممزقة، النعال المبعثرة، الملابس والوانها وغيرها الكثير من
التفاصيل.. حتى من لا يعرف القراءة او الكتابة وحتى من لم يسمع
بكربلاء وواقعتها يستطيع بيسر وسهولة ان يتابع تلك المحطات في تلك
الواقعة ويخرج بفهم لها.. مأجورين. |